شعار قسم ميدان

السفير ابن فضلان: رؤية عربية لروسيا من القرن العاشر!

"يخرج كلّ واحد منهم ومعه خبز ولحم وبصل ولبن ونبيذ حتى يُوافي خشبة طويلة منصوبة لها وجه يشبه وجه الإنسان، وحولها صور صغار، وخلف تلك الصور خشب طوال قد نُصبت في الأرض فيوافي إلى الصورة الكبيرة ويسجد لها ثم يقول لها: يا رب قد جئتُ من بلد بعيد ومعي من الجواري كذا وكذا رأسًا، ومن السمّور كذا وكذا جلدًا، حتى يذكر جميع ما قدم معه من تجارته. ثم يقول: وجئتُك بهذه الهدية، ثم يترك الذي معه بين يدي الخشبة ويقول: أريد أن ترزقني تاجرًا معه دنانير ودراهم كثيرة".

(القاضي والسفير والجغرافي ابن فضلان في وصفه لتجار الروس في القرن العاشر الميلادي)

كانت طبيعة الإسلام العالمية والتي فرضت على الصحابة والفاتحين الأولين الانسياح في الأرض، وبلوغ المشرق والمغرب العامل الأبرز في اشتهار فن الجغرافية والرحلات العربية، وقد بلغت الدولة الإسلامية في عصرها الأموي والعباسي مساحات شاسعة لم تبلغها أمة من قبل، وكانت إدارة هذه الإمبراطورية تفرض أمورًا كثيرة منها معرفة الجزية والخراج، فكان من أوجب الأمور لمعرفة الجباية وجمع الأموال أن يعرف الحاكمون والولاة حال المسالك والممالك، والبلاد والأقاليم، وأن يقوم بوصف ذلك رجال وقفوا كثيرًا من وقتهم على الرحلة وتسقّط المعلومات والأخبار، فنشأت كُتب الرحلة، وظهرت كتب الجغرافيا.

تراث الجغرافيا العربية

undefined

ومنذ القرن الثالث الهجري كثر التأليف في المسالك والممالك، فألّف المصنفون في الأقاليم والتقاسيم، وصوّروا ما عليها من مدن وجبال وأنهار، فكتب الكندي وابن خرداذبة، وقدامة بن جعفر، واليعقوبي، وابن الفقيه، والهمذاني، وابن رستة، وابن حوقل، والاصطخري وغيرهم، ووصفوا بلاد المشرق والمغرب من الصين إلى الأندلس، وذكروا حال الشعوب وتقاليدها وعقائدها، ووصفوا حال البلاد وطرقها وحاصلاتها[1].

إن من يقرأ في تراث الجغرافيا والرحلات العربية في القرون الأربعة الأولى من الهجرة، يجد تلك الروح الاستكشافية التي يلقاها عند المستشرقين الذين بدأوا في استكشاف عالمنا العربي والإسلامي والكتابة التقريرية عنه بداية من القرن السادس عشر الميلادي؛ فلدى جغرافيينا روح وثّابة متطلعة لاستكشاف العالم، وكتابة أدق تفاصيله بتأنٍ وهدوءٍ وصدقٍ، سواء كان الغرض منها خدمة السلطة السياسية، أو حتى خدمة القضية الإسلامية بتعريف الناس على الأقوام الآخرين بغية وصول الدعاة إلى تلك المناطق، أو حتى دون غرض سوى الغرض العلمي والتوثيقي البحت. على أن الروح الدينية حاضرة بقوة لدى جغرافيينا ومستكشفينا، فهي بمنزلة المعيار القويم الذي طالما قاسوا من خلاله أفعال الآخر وثقافته ورؤيته للعالم، فضلًا عن مدى المدنية والحضارة التي كانوا على دراية ووعي كامل وناضج بها.

ابن فضلان: السفير المستكشف!

يبدو أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حمّاد -الذي كان يعيش في النصف الثاني من القرن الثالث والنصف الأول من القرن الرابع الهجري/التاسع والعاشر الميلادي- واحدًا من هؤلاء الذين كانت من أقدارهم الرحلة إلى بلاد الروس والصقالبة والخزر في مهمة سياسية وتوعوية بين الجانبين العبّاسي والروسي حينذاك.

ولد ابن فضلان في بغداد في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، على أننا نعرف بدقة أن تعيينه سفيرًا وقاضيًا ضمن الوفد العباسي الموفد إلى تلك الأصقاع -والذي كان بأمر مباشر من الخليفة العباسي المقتدر بأمر الله كان سنة (309هـ/921م)، وهو ما أرَّخه في رحلته الآنفة الذكر.

أحمد بن فضلان 877م/960م  (مواقع التواصل)
أحمد بن فضلان 877م/960م  (مواقع التواصل)

وذلك حينما كتب ملك الصقالبة في ذلك العام إلى الخليفة يسأله فيه البعثة إليه ممن يفقّهه في الدين، ويعرّفه شرائع الإسلام، ويبني له مسجدًا وينصب له منبرًا ليقيم عليه الدعوة له في بلده وجميع مملكته، ويسأله بناء حصن يتحصن فيه من الملوك المخالفين له. فأرسل الخليفة المقتدر إلى ملك الصقالبة وفدًا يتكوّن من أربعة رجال أساسيين وبضعة مرافقين من الفقهاء والمعلمين والغلمان ومنهم ابن فضلان. ومن المفروض أن سفيرًا مبعوثًا إلى أقاصي الأرض يجب أن يمتلك الكثير من الحكمة والحنكة، وأنّ بعثة مثل بعثته كانت تستلزم رجلًا ذا ثقافة معقولة، وهو ما نظنّ حاله[2].

غادرت السفارة بغداد في الحادي عشر من صفر سنة )309هـ/21 يونيو/حزيران 921م(، ووصلت إلى بُلغار في الثامن عشر من المحرم عام )310هـ/12 مايو/أيار 922م(، وقد مرّت في طريقها بهمدان والري ونيسابور ومرو وبخارى، ثم ساروا مع نهر جيحون في وسط آسيا إلى خوارزم عند بحر آرال، وعبروا صحراء أوست أورت ثم نهر يايق فوصلوا إلى حوض نهر الفولجا، وتاريخ وخط سير الرجعة ليس معروفًا لدينا على وجه الدقة[3].

إنه لمن اللافت أن المعلومات التي تقدمها المصادر العربية عن بداية الدولة الروسية تُعتبر في طليعة الآثار عن روسيا، بل وتسبق التواريخ الروسية زمنًا، من هؤلاء ما كتبه ابن فضلان؛ فقد جلب انتباهه صحةُ أبدانهم وقوّتُها؛ قائلًا: "ورأيت الروسيّة وقد وافوا في تجارتهم ونزلوا على نهر إتل، فلم أر أتمّ أبدانًا منهم كأنّهم النّخل شقر حمر… ولكن يلبس الرجل منهم كساء يشتمل به على أحد شقّيه ويخرج إحدى يديه منه ومع كلّ واحد منهم فأس وسيف وسكّين لا يفارقه"[4]. وهم يزيّنون أجسامهم بالوشم من العنق إلى أظفار القدمين فيرسمون الأشجار والصور وغير ذلك.

كما وصف نساءهنّ، فكل امرأة روسية كانت تحمل حُقّة -للعطور- مشدودة على صدرها، كانت تلك الحُقّة تصنع من الحديد أو النحاس أو الفضة على قدر مال زوجها وثرائه، وقد كان "في أعناقهن أطواق من ذهب وفضة؛ لأنّ الرجل إذا ملَكَ عشرة آلاف درهم صاغ لامرأته طوقًا، وإن ملك عشرين ألفًا صاغ لها طوقين، وكذلك كل عشرة آلاف يزداد طوقًا لامرأته فربّما كان في عنق الواحدة منهن الأطواق الكثيرة"[5].

ينتقد ابن فضلان التجّار الروس الذين رآهم لقلة نظافتهم، وعدم اعتنائهم بالاغتسال، قائلًا: "ولا بدّ لهم في كل يوم من غسل وجوههم ورؤوسهم بأقذر ماء يكون وأطفسه، وذلك أنّ الجارية توافي كلّ يوم بالغداة ومعها قصعة كبيرة فيها ماء فتدفعها إلى مولاها فيغسل فيها يديه ووجهه وشعر رأسه فيغسله ويسرّحه بالمشط في القصعة، ثم يمتخط ويبصق فيها ولا يدع شيئًا من القذر إلا فعله في ذلك الماء فإذا فرغ مما يحتاج إليه حملت الجارية القصعة إلى الذي إلى جانبه ففعل مثل فعل صاحبه"[6]!

كما وصف حال اجتماعهم في بيوت تُبنى من الخشب كان يجتمع فيها العشرة والعشرون والأقل والأكثر ومعهم الجواري للبيع، وكل منهم سرير، لا حياء بينهم، كما وصف احترامهم للصور الخشبية التي اتخذوها معبودات لهم، وتقديمهم الهدايا والقرابين لها لتيسير تجارتهم وبيعهم[7]، يقول: "ساعة توافي سفنهم إلى هذا المرسى -بنهر الفولجا- يخرج كلّ واحد منهم ومعه خبز ولحم وبصل ولبن ونبيذ حتى يُوافي خشبة طويلة منصوبة لها وجه يشبه وجه الإنسان، وحولها صور صغار، وخلف تلك الصور خشب طوال قد نُصبت في الأرض فيوافي إلى الصورة الكبيرة ويسجد لها ثم يقول لها: يا رب قد جئتُ من بلد بعيد ومعي من الجواري كذا وكذا رأسًا، ومن السمّور كذا وكذا جلدًا، حتى يذكر جميع ما قدم معه من تجارته. ثم يقول: وجئتُك بهذه الهدية، ثم يترك الذي معه بين يدي الخشبة ويقول: أريد أن ترزقني تاجرًا معه دنانير ودراهم كثيرة فيشتري مني كلّ ما أريد ولا يخالفني فيما أقول، ثم ينصرف"[8].

undefined

وقد أسهب ابن فضلان في وصف مراسيم حرق الموتى وما يُترك من مؤنة ومتاع مع الميت، وإذا مات أحد رؤسائهم أحرقوه مع من يرغب من عبيده رجالًا ونساءً وأكثر ما يفعل ذلك الجواري، ويصف مشهد سفينة أحرق عليها ميت مع الأضاحي حوله وطريقة قتل من يرغب أن يحرق معه بالخنق والطعن، وكانت العادة أن يشعل النار أقرب الناس إلى الميت، ويعتقد الروس أن أرواح أعدائهم الموتى تلاحقهم إلى العالم الآخر؛ ولذا فإنهم يقتلون أنفسهم حين يحسّون بخطر تعرضهم للأسر[9].

لقد عاين ابن فضلان أيضًا التنظيم السياسي للروس في بدايات القرن )الرابع الهجري/العاشر الميلادي(، فقد كان لهم ملك يُحيط به أربعمئة رجل من )"صناديد أصحابه"/حرسه الخاص(، وهم يموتون بموته، ويُقتلون دونه، ولكل منهم جاريتان، واحدة للخدمة وأخرى للفراش، وهم يُحيطون بسرير الملك وهو عرش عظيم مرصّع بنفيس الجواهر، وقد كان لملك الروس خليفة أو قائد عسكري "يسوس الجيوش، ويدافع الأعداء، ويخلفه في رعيّته"[10].

تلك معلومات فريدة من نوعها قدّمها البحث العربي الجغرافي عن الروس وبلادهم قبل أن يفطنوا إلى معرفة الحضارة والمدنية، بل وإلى كتابة تاريخهم وأحداثهم في تلك القرون الأولى من نشأتهم السياسية التي كانت بمنزلة الطفولة مقارنة بالدولة العباسية، والحضارة الإسلامية، تلك الحضارة التي كانت قد أرسلت سفراءها ومستكشفيها إلى هذه الأراضي الروسية الغارقة في عهود الوثنية والبربرية الأولى!

المصدر : الجزيرة