شعار قسم ميدان

في ذكر فضائل الشام

midan - idlib
يلحظُ المتأمل في مصادر التاريخ الشَّامي كثرة كتابة المؤرخين الشَّاميين عن "فضائل الشَّام"، ونستطيع أن نعد قرابة العشرين مؤلفًا في باب فضائل المدن الشَّامية معظمها انصبّ على مدينتي دمشق والقدس، فضلاً عن الخليل وعسقلان ثم حلب التي لها تواريخ بلدانية محلية أصيلة ومتنوعة، وتفسيرات بعض الدارسين لهذا الأمر تعود إلى أن الكتابة عن "فضائل المدن الشَّامية" إنَّما نَبَعَ مِن منبع المآسي والآلام التي كانت تحلُّ بالشَّام منذ القِدَم، فقد كانت ردًا على الطواعين والأوبئة والفتن المبيدة بين القبائل العربية، وعلى ظُلم بعض الحُكَّام، ونكبات الغزو الخارجي.

 

فضائل الشَّام
فكأنما ظهرت هذه المصنفات منذ أوائل القرن الرابع الهجري لتُظهر في النفوس قداسة هذه المدن، ثم لمّا جاء العدوان الصليبي في نهاية القرن الخامس، وكبر على المسلمين ضياع القدس من أيديهم كان من عناصر المقاومة إبراز قدسية هذا البلد ومكانته وفضله في مؤلفات متداولة، وبالمقابل فإن دمشق التي قاومت الصليبيين وهزمتهم وهم عند سورها في الحملة الثانية ثم أضحت مركز نور الدين وصلاح الدين، حيث كسبت من كل أولئك نوعًا من الهالة القدسية ومن التكريم اللذين وجدا السند لهما والمنطلق فيما رُوِيَ من الأحاديث عن فضائل دمشق والقدس فتحدّث بذلك المتحدثون والمؤلفون، لكن تبقى ظروف المقاومة هي التي أوجدت في الشَّام خاصة تلك الكتب[1].

إنَّ موسوعة
إنَّ موسوعة "تاريخ دمشق" لابن عساكر لم تتوقف عند ذكر فضائل المدينة وعمرانها؛ وإنما كانت في الحقيقة تاريخًا لمشاهير الأعلام الذين نشأوا بها أو مروا عليها حتى القرن السادس الهجري
 
 لكن الأمر أيضًا لا يخرج عن إطار الافتخار بالوطن والإقليم الذي ولد فيه المؤلف، وهو شعور فطري أحب كثير من المؤرخين التعبير عنه بكتابة تواريخ مستقلة عن البلدان التي ولدوا وعاشوا فيها، ولعل أكبر وأهم موسوعة تاريخية كُتبت عن مدينة دمشق في عصرها الوسيط ما قام به الإمام الحافظ المؤرخ ابن عساكر (ت 571هـ)..

 

هذه الموسوعة التي شجّع على إخراجها السلطان نور الدين محمود بن زنكي (ت 569هـ)، "وهو كتاب مشتمل على ذكر من حلّها من أماثل البرية أو اجتاز بها أو بأعمالها من ذوي الفضل والمزيد من أنبيائها وهداتها وخلفائها وولاتها وفقهائها وقضاتها وعلمائها ودراتها وقرائها ونُحاتها وشعرائها ورواتها من أمنائها وأبنائها وضعفائها وثقاتها" كما يقول ابن عساكر في مقدمته[2].

 

رأينا أنَّ أديبًا مؤرخًا عاش في ذلك العصر، جمع بين النشأة الشَّامية والوفاة المصرية، فعاش جامعًا بين جوانحه حُبَّ مصر والشَّام يؤلف في بيان ما كانت عليه دمشق من الجمال والبهاء في عصره

إنَّ موسوعة "تاريخ دمشق" لابن عساكر لم تتوقف عند ذكر فضائل المدينة وعمرانها؛ وإنما كانت في الحقيقة تاريخًا لمشاهير الأعلام الذين نشأوا بها أو مروا عليها حتى القرن السادس الهجري، وعلى إثره قام كمال الدين بن العديم (ت 660هـ) المؤرخ الحلبي الأشهر في موسوعته "بُغية الطلب في تاريخ حلب"، فعلى يديه رأينا حديثًا ماتعًا عن جغرافية حلب وشمال بلاد الشَّام في القرن السابع الهجري، وهذه الموسوعة كان لها حُسن الحظ في الرواج والتذييل، فقد ألَّف ابن خطيب الناصرية في القرن التاسع الهجري ذيلا على البُغية سمّاه "الدرّ المنتخب في تكملة تأريخ حلب"..

 

وأكمل سبط ابن العجمي (ت 884هـ) تكملة لكتاب ابن خطيب الناصرية سمَّاه "كنوز الذهب في تأريخ حلب" فيه وصفٌ ممتعٌ جدا لحلب وتأريخها، ويمكن اعتبار كلامه عن بعض مساجد حلب وصفًا تأريخيًا للفن هو أكملُ ما يُؤمّل من مؤرخ عاش في تلك العصور[3]، ثم ألَّف ابن الشّحنة عن تاريخ حلب كتابًا سمّاه "الدرُّ المُنتخب في تأريخ مملكة حلب" وحتى العصر الحديث حظيَت مدينة حلب بمن تناول تاريخها وعمرانها وإنسانها بصورة تعبِّر عن اعتزاز الحلبيين بتاريخ هذه المدينة الضاربة في القِدَم!

 

ومن الملاحظ أن التأليف في فضائل الشَّام لم يتوقف عند قرون المواجهة أمام الآخر الصليبي، وإنما استمرَّ حتى إلى أوقات الاستقرار الحضاري، ورأينا أنَّ أديبًا مؤرخًا عاش في ذلك العصر، جمع بين النشأة الشَّامية والوفاة المصرية، فعاش جامعًا بين جوانحه حُبَّ مصر والشَّام يؤلف في بيان ما كانت عليه دمشق من الجمال والبهاء في عصره، لربما رأى بزوغ نجم القاهرة المملوكية في ذلك الوقت باعتبارها عاصمة السلطنة العظمى، والدولة الإقليمية ولربما العالمية الأبرز حينذاك، فراح يتناول دمشق ، كما تناول القاهريون قاهرتهم البديعة آنذاك.

 

تقي الدين البدري وكتابه "نزهة الأنام"
ولد تقي الدين أبو بكر بن عبد الله بن محمد البدري في دمشق في عام 847هـ، فنشأ متعلمًا علوم عصره من العربية وعلوم القرآن والحديث وغيرها، على أنه رجل جمع بجانب حب التاريخ والأدب مهارة التكسُّب بالتجارة، فسافر إلى مكة والمدينة، وطاف ببلاد الشَّام، وعاش في مصر، ثم وافته المنيّة في غزّة عند عودته من الحج سنة 894هـ[4].

 

في هذا الكتاب يتناول البدري مدينة دمشق؛ من حيث فضلها وعمرانها وأحيائها في القرن التاسع الهجري (مواقع التواصل الإجتماعي)
في هذا الكتاب يتناول البدري مدينة دمشق؛ من حيث فضلها وعمرانها وأحيائها في القرن التاسع الهجري (مواقع التواصل الإجتماعي)

ترك البدري عدّة مصنّفات أغلبها في الأدب والتاريخ، منها كتابه "نزهة الأنام في محاسن الشَّام"، وفي هذا الكتاب يتناول البدري مدينة دمشق؛ من حيث فضلها وعمرانها وأحيائها في القرن التاسع الهجري، ومتنزّهاتها وبساتينها وأشجارها وثمارها ونباتاتها، وختم الكتاب بالحديث عن أهم الحرف والصناعات الدمشقية في ذلك الوقت، ثم ببركات المدينة وأخيرًا بمن دفن فيها من العُظماء والنبلاء.

 

في مقدّمة الكتاب تتبدى عواطف البدري السيّالة نحو مدينته التي تركها نحو القاهرة، فكأنَّ هذا الكتاب كان تأليفه بطلب من بعض أصدقاء البدري، هؤلاء الذين لم يروا دمشق، فأرادوا أن يقفوا على خبرها من رجل نشأ وشبّ فيها، يقول تقي الدين البدري: "سألتَني أيها الأخ الأمجد، والحبيب الأسعد، العاشق في محاسن الشَّام على السماع، والمتشوق المتتوق إلى بديع مرآها، المشنّف ذكره للأسماع أن أعلّلكَ بخبرها لعدم العيان، وأن أقربها إليك بوصف يلذّه قلب الهائم الولهان، وهل أنا إلا قسيمك في الشوق والهيام، وحليفك في الحب والغرام؟!"[5].

 

ثم يبدأ البدري في تقسيم كتابه على ما مرّ بنا من حيث الفضائل والعمران والمتنزهات، يتناول البدري الروايات التي تناولت بناء مدينة دمشق، ثم يعرج على ذكر أبواب المدينة "الباب الصغير" و"باب كيسان" و"باب شرقي" و"باب توما"، و"باب الفراديس" و"باب الجابية"..، ثم عرّج البدري في حديثه على مسجد دمشق "الأموي" وقصة بنائه.

 

إن البدري لا ينفك في تضاعيف هذا الكتاب يقارن بين مصر والشَّام كلما لاحت له الفرصة، فالشَّام تسبق مصر في الجمال والبهاء، وأنهارها تسبق النيل صفاءً وضياء، وينقل عن أحد فقهاء المالكية في مصر الشيخ كمال الدين الدماميني قوله في تلك المقارنة: "فتأملتها الملوك (أي دمشق)؛ فإذا هي جنة ذات ربوة وقرار ومعين، وبلدة تبعث محاسنها الفكر على حُسن الوصف وتُعين، وما أقول ومتنزهات مصر عارية عن المحاسن وهذه ذات الكسوة، وإن النيل ما احترق (انخفض) إلا من الأسف؛ حيث لم يسعده الدهر بالصعود إلى تلك الربوة (أي دمشق).. فلو رأى العاشق جبهتها لسلا بمصر معشوقة، ونسي ظهور جوانبه المنحنية بقامات غصونه الممشوقة"[6]!

 

حديث البدري عن جماله متنزهات دمشق كان نابعاً من مشاهدته، ومن إحساسه بهذا الجمال الدمشقي الوارف (مواقع التواصل الإجتماعي)
حديث البدري عن جماله متنزهات دمشق كان نابعاً من مشاهدته، ومن إحساسه بهذا الجمال الدمشقي الوارف (مواقع التواصل الإجتماعي)

ثم ينتقل البدري إلى وصف أحياء دمشق العامرة في القرن التاسع الهجري، ومن خلال وصفه نرى مدينة حيّة من مدن الشرق الساحرة التي لا تفتر عن النشاط نهارًا وليلاً، في منطقة قلعة دمشق وحي المجاور "فإنك لا تستطيع أن ترى أرضها لكثرة ما به من المتعيّشين والوظائفية. ويتحلل بينهم أرباب الحلق والفالاتية والمضحكون وأصحاب الملاعيب والحكوية والمسامرون وكل ما يتلذذ به السمع ويسر العين وتشتهيه النفس صباحًا ومساءً على هذا لا يفترون".

 

ثم في المساء ترى هذا النشاط الاجتماعي، والتفاعل البشري في صورة أشد وأجلى؛ فهو "أكثر اجتماعًا ويستمرون إلى طلوع الثلثين" وقد جرت العادة آنذاك بضرب ثلاثة طبول من قلعة دمشق، واحدة في ثلث الليل الأول، وواحدة في الثلث الثاني، وواحدة عند الأذان الأول قُبيل صلاة الصبح، وهذه الثالثة حين "يطلع المؤذن على منارة العروس بالجامع الأموي، ويعلق لهم قنديل الإشارة فيضرب كل واحد منهم ثلاث ضربات ويسوق الثلثين من التسبيح والأذان الأول إلى السلام ينتهي الضرب"[7].

 

إن "نزهة الأنام في محاسن الشَّام" لتقيّ الدين البدري الدمشقي المولد، القاهري الحياة، الغزّي الوفاة، يكشف لنا مفهوم الانتماء للوطن في العصر الإسلامي الوسيط، انتماء للموطن الذي نشأ فيه المؤلف وشبّ

ومن بديع همّة الدماشقة في تلك القرون حرصهم على بناء المدارس/الكليات التعليمية التي كانت مفخرة الحضارة الإسلامية حينئذ، وعلى عكس القاهرة التي توزّعت فيها هذه المدارس في حاراتها وأزقتها المليئة بالناس؛ فإن بعض أهم مدارس دمشق كانت تُطلُّ على مناظر ذات بهجة لطلاب العلم؛ فقد "تقرّب إلى الله تعالى أهلها ببناء المدارس؛ رغبة في جوار المجرد الفقير البائس، ورتّبوا له من الخبز واللحم والطعام والزيت والحلو والصابون والمصروف في كل شهر على الدوام. فيجلس الطالب في شبّاكها ينظر إلى الماء والخضرة والوجه الحسن، فكيف لا ينبعث إلى طلب العلم، ويتحرّك من فهمه ما سكن!"[8].

 

بل من بديع هذه المدارس الخلابة مدرسة الخاتونية في محلة المنيبع وهذه المدرسة الرائقة كانت "من أعاجيب الدهر، يمر بصحنها نهر بانياس ونهر القنوات على بابها، ولها شبابيك تطل على المرجة، وبها ألواح الرخام لم يسمح الزمان بنظيرها وعدّة من خلاوي الطلبة"[9].

 

لقد استطرد البدري في وصف متنزّهات دمشق التي رآها رأي العين، ولم يشأ في وصفه لهذه المتنزهات الشَّامية أن ينقل عن أحد كما فعل حين تناول فضائل دمشق وتاريخ بنائها وعصورها السابقة، وإنما حديثه عن جمالها نابع من مشاهدته، نابع من إحساسه بهذا الجمال الدمشقي الوارف، وإن بعض هذه المتنزهات اتخذها علية القوم من سكان الشام سكنًا ومنزلاً مثل "متنزّه النيرين" فهذا المتنزّه "روضٌ يجمع بين الأشجار والفواكه والأزهار، مع عيون الماء.. ويعلوها محلّة النيرين، وهي أعظم المحلات وأخضرها وأنظرها، حسنة الإثمار، كثيرة الأزهار.. وهي مسكن الرؤساء والأعيان وبها دار قاضي القضاة"[10].

 

إن "نزهة الأنام في محاسن الشَّام" لتقيّ الدين البدري الدمشقي المولد، القاهري الحياة، الغزّي الوفاة، يكشف لنا مفهوم الانتماء للوطن في العصر الإسلامي الوسيط، انتماء للموطن الذي نشأ فيه المؤلف وشبّ؛ لكنه مع ذلك نوع لطيف من أنواع التأليف التراثي المحلي الشَّامي منه تحديدًا.

المصدر : الجزيرة