شعار قسم ميدان

المطيعي.. مفتي الديار المصرية الذي نعاه ابن باديس

المطيعي
كان الشيخ محمد بخيت بن حسين المطيعي الحنفي واحدا من نوابغ علماء الأزهر في النصف الأول من القرن العشرين، فقد كان الرجل مفتيا للديار المصرية وواحدا من كبار فقهائها، وترك مؤلفات عدة في علم الفقه.
 

وُلد محمد بخيت في بلدة المطيعة من قرى محافظة أسيوط بصعيد مصر سنة 1854م، فشب متعلمًا بين جنبات الأزهر الشريف، ثم ما لبث أن اشتغل بالتدريس فيه ثم انتقل إلى القضاء الشرعي سنة 1297/1880م، وكان له اتصال بالسيد جمال الدين الأفغاني مدة مكثه في مصر.
 

ومن اللافت أن المطيعي كان من أشد المعارضين لحركة الإصلاح التي قام بها الشيخ محمد عبده ولمسار بعض تلامذته؛ لكنه مع ذلك كان يُكن له الاحترام والتقدير على المستوى الشخصي، وقد ظل الشيخ المطيعي مفتيًا للديار المصرية ما بين (1333 – 1339هـ/1914 – 1921م)، وبعد أن أحيل للتقاعد لزم بيته يُفتي ويفيد إلى أن توفي بالقاهرة في أكتوبر سنة 1935م، وذلك بعد أسابيع قليلة من وفاة العلامة الشيخ محمد رشيد رضا.
 

undefined

 

ترك الشيح المطيعي مؤلفات كثيرة في مجالات الفقه والإفتاء لا يزال يتكئ عليها أرباب الفقه والفتوى حتى يومنا هذا، ومنها "إرشاد الأمة إلى أحكام أهل الذمة" و"أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدع من الأحكام" و"حُسن البيان في دفع ما ورد من الشبه على القرآن" و"إزاحة الوهم في مسألتي الفوتوغراف والسكورتاه"، و"الكلمات الحسان في الأحرف السبعة وجمع القرآن" و"القول المفيد في علم التوحيد" و"الأجوبة المصرية عن الأسئلة التونسية"، وغير ذلك من مؤلفات أخرى قيّمة في الإفتاء والفقه وأصوله[1].
 

المُطيعي بعيون معاصريه

إن ما يلفت النظر أن الشيخ المطيعي كان له أثره الكبير على تلاميذ عصره؛ بل وشيوخ العصر ذاته من الأقران، وبالرغم من الاعتراض الكبير الذي كنّه الشيخ المطيعي للشيخ محمد عبده ولمشروعه ورؤيته في الإصلاح، والحرب الضروس التي شنها الشيخ رشيد رضا على الشيخ المطيعي في مجلته المعروفة "المنار" على مدار حلقات عدة سجلتها المجلة في أعدادها.
 

ورغم ذلك فقد كتب رشيد رضا كتب في أخريات ما كتب في مجلة المنار معترفًا بفضل الشيخ المُطيعي ومكانته العلمية، قائلاً "إنني أختم هذه المقدمة بالتنويه بأولئك الشيوخ الكبار الذي كُنّا ننتقدهم فيما نكتبه في إصلاح الأزهر؛ فإنهم لم ينقموا من المنار صدّه عن البدع والخرافات، ولا ما كتبه في افتتان الناس بالكرامات ولا إنكار عبادة الأموات، ولا طعن أحد منهم في ديننا ولا بهتنا ولا افترى علينا، فرحم الله من مات منهم وأطال عمر من بقي، كالأستاذ العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي الذي لم نصرح في المنار بمناظرة أحد منهم غيره؛ وإنما كانت مناظرة علم لا عداء فيها ولا إثم"[2].
 

undefined

وكان علامة الشام ومؤرخها الكبير الأستاذ محمد كرد علي يذكر في مجلة "المقتبس" التي كان يُشرف عليها في كل عدد من أعداد المجلة المصنفات التي كانت تُهدى إليه في ذلك الوقت، فضلاً عن جديد المطبوعات التي صدرت ليقف القراء في الشام على آخر ما أُنتج في سوق الثقافة العربية في مستهل القرن العشرين، ومن جملة ما رأيناه في تلك المجلة إهداء الشيخ المُطيعي للعلامة كرد علي إحدى رسائله الفقهية المطبوعة في ذلك العام 1906م[3].
 

وقد اعترف له أحمد حسن الزيات باشا بهذه المكانة السامقة، وكان من معاصريه حين قال "كان في الشيخ مكانة شاهدة ودعابة لطيفة؛ وطموح إلى مساماة الإمام (محمد عبده) في منصبه ونفوذه وشهرته؛ حرّك فيه الأخذ بنصيب من الأدب والثقافة العامة، ولعله كان أعلم أهل جيله بدقائق الفقه الحنفي، وأبسطهم لساناً في وجوه الخلاف بين أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة"[4].
 

ولقد نعاه علامة الجزائر ومصلحها الأشهر الشيخ المجاهد عبد الحميد بن باديس في مجلته التي كانت تصدر عن "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين"، وعده من شيوخه الذين تشرف بالإجازة عليهم حين نزل مصر عائدًا من المدينة المنورة.
 

نعي ابن باديس 
الشيخ العلامة
الشيخ العلامة "عبد الحميد بن باديس" مؤسس جمعية العلماء المسلمين بالجزائر  (مواقع التواصل)

ويقول ابن باديس في نعيه للمُطيعي:

ما كاد يندملُ جرح العالم الإسلامي بوفاة حجة الإسلام السيد رشيد رضا، حتى فجع بوفاة مفتي الإسلام الشيخ محمد بخيت المطيعي في رجب الماضي، ونحن نكتب اليوم كلمة عن فضيلته كما كتبنا من قبل عن السيد رشيد رضا وما كان قلمنا القاصر ليوفي واحدا منهما حقه.
 

نال المطيعي شهادة العالمية من الدرجة الأولى سنة 1339هـ وتصدى لخدمة العلم والازدياد منه بالتدريس بجد منقطع النظير ومداومة ليس فيها فتور؛ فكان علما في سائر العلوم الأزهرية، وكان ممتازا بين كبراء الأزهر بتحقيق الأصلين علم الكلام وأصول الفقه، وكان بسعة علمه وقوة إدراكه وتمييزه يرفع الخلاف في كثير من أمهات المسائل، ويبين أن الخلاف فيها لفظي وأن أصل المسألة محل اتفاق.
 

دُعي إلى الاشتغال بالقضاء فتقلد وظائفه وتنقل بينه وبين الفتوى حتى بلغ أعلى درجاتهما فلما بلغ سن التقاعد تفرغ للإفتاء العلمي، فكانت ترد عليه الأسئلة من جميع أقطار العالم الإسلامي فيجيب عليها، وكان له كُتاب يتولون له كتابة ما يحرره ويمليه ويرسلونه إلى السائلين، وينفق هو على ذلك كله من خالص ماله.
 

كان زميلا للشيخ محمد عبده في الطلب، وهو الوحيد من شيوخ الأزهر الذي كان يساميه وينال معه حظاً من الشهرة خارج مصر وكان -على معارضته له في نواح- يؤيده في إنكار البدع والمحدثات في الدين.
 

الشيخ محمد بخيت بن حسين المطيعي واحدا من نوابغ علماء الأزهر في النصف الأول من القرن العشرين، وكان مفتي الديار المصرية (مواقع التواصل)
الشيخ محمد بخيت بن حسين المطيعي واحدا من نوابغ علماء الأزهر في النصف الأول من القرن العشرين، وكان مفتي الديار المصرية (مواقع التواصل)

وحين تصدّى الشيخ عبده لأخذ شهادة العالمية ورماه بعض حساده بالتهاون بالصلاة شهد له الشيخ محمد بخيت عند مشيخة الأزهر، فقال "إننا دائماً نقدمه فيؤمنا في صلاة الجماعة لتقواه وصلاحه"[5]، ولما عقدت أول حفلة لذكرى الشيخ محمد عبده وكانت يوم الثلاثاء 16 ذي القعدة 1345هـ/1927م – بالجامعة المصرية[6] كانت تحت رئاسة الشيخ محمد بخيت فخطب في تلك الحفلة ومن جملة ما قال "ترك فراغاً عظيماً كان يشغله وحده، لم يستطع أحد أن يشغله بعده"[7]، فرحم الله تلك الأرواح الطاهرة والنفوس الكبيرة.
 

ولما رجعتُ من المدينة المنورة على ساكنها وآله الصلاة والسلام سنة 1332هـ/1914م جئت من عند شيخنا العلامة الشيخ حمدان الونيسي المهاجر إلى طيبة والمدفون بها رحمه الله، جئت من عنده بكتاب إلى الشيخ بخيت وكان قد عرفه بالإسكندرية لما مر بها مهاجراً، فعرجت على القاهرة وزرت الشيخ بخيت بداره بحلوان مع صديقي الأستاذ إسماعيل جغر المدرس اليوم بالأزهر فلما قدمت له كتاب شيخنا حمدان قال لي "ذاك رجل عظيم"، وكتب لي إجازة في دفتر إجازاتي بخط يده، رحمه الله وجازاه عنا وعن العلم والدين خير ما يجزى العاملون الناصحون[8].

المصدر : الجزيرة