شعار قسم ميدان

قصة المدارس الإسلامية.. من الكُتّاب إلى دار العلم

midan - quran
 "وأول ما ينبغي للمؤدِّب أن يُعلِّم الصبي السور القِصار من القرآن، بعد حذقه بمعرفة الحروف وضبطها بالشكل، ويُدرّجه بذلك حتى يألفه طبعه".

جلال الدين الشيْزري ناصحًا "المؤدّبين" – "نهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة الشريفة"

 

جاء القرآن الكريم والحديث النبوي بالحثّ على العلم والقراءة ونشرهما؛ بل والزجر من كتم العلم، قال صلى الله عليه وسلم: "من سُئل عن علم فكتمَه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار"[1]، وقد قرن هذا القول بالعمل حين قبل فداء أسرى قريش في معركة بدر مقابل تعليم كل أسير منهم عشرة من أطفال المسلمين، ولم يكن الاتفاق يتضمن التعليم الأولي للقراءة والكتابة؛ بل ورد فيه: "فإذا حذقوا فهو فداؤه"[2].

 

المسجد ودوره التعليمي
ظهرت بعض أماكن التعليم خلال العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين كنتيجة حتمية لإلحاح الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على ضرورة طلب العلم واعتباره فريضة على كل مسلم، ولعل أول مكان تعليمي عرفه المسلمون كان دار الأرقم بن أبي الأرقم، وبعد الهجرة تغير الوضع بالنسبة للمسلمين؛ حيث أصبحت لهم دولة تحمي مصالحهم، وبدأ النبي في تأسيس مؤسسات هذه الدولة الجديدة، فبعد بيوت مكة في المرحلة الأولى ظهر المسجد كمؤسسة دينية وتعليمية، ولدينا من الأخبار الأولى ما يدل على ذلك؛ فقد روى عبد الله بن عمرو قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من بعض حجره فدخل المسجد فإذا هو بحلقتين إحداهما يقرؤون القرآن ويدعون الله، والأخرى يتعلمون ويُعلّمون فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كل على خير هؤلاء يقرؤون القرآن ويدعون الله فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون ويعلّمون إنما بُعثتُ معلّمًا"[3].
 

 
لذا؛ كان المسجد -منذ العصر النبوي وإلى اليوم- ملكًا للجماعات الإسلامية، فإذا كان بيت الله فهو أيضًا بيت الجماعة، وبيت كل واحد منها على حدة، وهو الشيء الوحيد الذي كانت تملكه الجماعة مشتركة، ولهذا فقد استخدمته الجماعات الإسلامية عبر التاريخ في تسيير شؤونها العامة مستقلة بذلك عن سلطان الدولة، وأظهر مَثَلٍ لذلك هو استخدام المسلمين لمساجدهم دورًا للقضاء، لا لأن الدولة كانت عاجزة عن إنشاء دور للقضاء؛ بل لأن القضاة وأهل الورع أرادوا أن يسير القضاء في طريقه بعيدًا عن تأثير الدولة ورجالها فجلسوا في المساجد -وهي ملك الجماعة- واتخذوها مقرا للقضاة ومكانًا للتقاضي.

 

ولنفس السبب استخدمت الجماعة المسلمة مساجدها معاهد للتعليم؛ لأن العلم كان دائمًا من اختصاص المجتمع، فلم تكن دول الخلافة أو دول السلاطين مسئولة عن التعليم حتى في عصر الراشدين، وإنما كان التعليم من اختصاص الأفراد والجماعة، فكانت الجماعة تتكفل بمعاش المعلّمين سواء أكانوا معلمين يُعلمون الصبيان القراءة والكتابة ويحفظونهم القرآن، أو شيوخًا أجلاء يقرؤون علمهم على طلابهم في المسجد في علوم القرآن والحديث والفقه واللغة والأدب، فلم نسمع أن الدولة قررت راتبًا لمعلم أو شيخ ابتداء من منتصف القرن الخامس الهجري / الحادي عشر ميلادي[4].

 

ويبدو أن التحاق التلاميذ بالحلقات العلمية في المساجد كان في الغالب بعد سن العاشرة لأسباب عدة منها الحفاظ على طهارة المساجد، فكان إلحاق التلاميذ في أول سني الصبا بالكتاتيب التي كانت إما في مناطق مخصصة لها، أو في بيوت المؤدبين وأصحاب الكتاتيب أو في مناطق نائية من المدينة الإسلامية، ونفهم من الشافعي الذي يقول: "أتيتُ مالكًا وأنا ابن اثنتي عشرة سنة لأقرأ عليه الموطأ فاستصغرني" أن الشافعي قد أكمل الدراسة في الكتاب وحفظ القرآن ولم يتجاوز عمره اثنتي عشرة سنة، وأحمد بن حنبل يقول: "طلبتُ الحديث وأنا ابن ست عشرة سنة" وهي -كما نرى- سن مناسبة للتخصص في هذا العلم بعد حفظ القرآن والإلمام بالعربية والنحو، ويشير أحمد بن يحي بن زيد العالم النحوي الشهير إلى مراحل تعليمه، وتبدو مقياسًا لمراحل تعليم الشبيبة في القرن الثالث الهجري حين يقول: "ولدتُ سنة مئتين، وابتدأت في طلب العربية في سنة ست عشرة ومئتين، ونظرتُ في حدود الفرّاء وسنّي ثمانية عشرة سنة، وبلغتُ خمسًا وعشرين سنة وما بقي علي مسألة للفرّاء إلا وأنا أحفظها".

 

 
ومن خلال هذه الإشارات نستنتج أن طلاب الحلقات العلمية بالمساجد كانوا بين سن الثانية عشرة وسن العشرين مع ملاحظة وجود حالات تخالف هذه القاعدة؛ أي أنه من الممكن أن يلتحق بعض الصبيان الأذكياء بهذه الحلقات العلمية قبل هذه السنِّ مثل الإمام يعقوب بن إبراهيم الفقيه الحنفي أبو يوسف الذي يؤكد على ذلك بقوله: "تُوفي أبي وأنا صغير السن فأسلمتني أمي إلى قصّار، فكنتُ أمرّ على حلقة أبي حنيفة فأجلس فيها"[5]؛ فصغر سن هذا الفتى لم يكن حائلاً دون التحاقه بحلقة أبي حنيفة في المسجد، ومن جهة أخرى هناك من طلب العلم في سنّ متقدمة مثل الكسائي الذي تذكر الروايات التاريخية أنه تعلّم النحو كبيرًا[6].
 

الأمر الذي يراه المؤرخ الأمريكي ول ديورانت قائلاً: "تدل الأحاديث النبوية على أن النبي كان يحثّ على طلب العلم ويعجب بهِ، فهو من هذهِ الناحية يختلف عن معظم المُصلحين الدينيين فيقول: "مَن سلك طريقاً يطلب علماً سهل الله لهُ طريقاً إلى الجنة" "يوزن مداد العلماء بدم الشهداء فيرجح مداد العلماء بدم الشهداء"[7].

 

الكُتّاب: أقدم مؤسسة تعليمية باقية
وكان تعليم الأطفال يبدأ منذ اقتدارهم على الكلام. فكانوا من هذه اللحظة يعلمون النطق بالشهادتين "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" فإذا بلغ الأطفال السادسة من العمر ألحق بعض أبناء الأرقاء، وبعض البنات، وجميع الأولاد، عدا أبناء الأغنياء (الذين كانوا يملكون مدرسين خصوصيين) بمدرسة أولية ملحقة في العادة بأحد المساجد، وفي بعض الأحيان بجوار عين ماء عامة في الخلاء. وكان التعليم في هذه المدارس عادة بالمجان[8].

 

فعلى المستوى الابتدائي كان الصبيان يتعلمون الكتابة والقرآن ومبادئ النحو، وعندما كان التلاميذ يتمكنون من هذه المواد والمهارات كانوا يسمعون الشعر والحديث، وكان بعضهم يستمر في الدراسة ويتعمّق في واحدة أو أكثر من المواد الدينية أو الأدبية أو العلمية، وهذا التعمّق في بعض المواد يقابل في مرحلة الدراسات العليا كما في أيامنا هذه.

 

 
ولدينا عدد من الشواهد التي تكشف لنا صورة الكتاتيب العربية في القرون الثلاثة الأولى، تكشف لنا نمطها، قال أدهم بن محرز: إني أول مولود في الإسلام بحمص، وأول مولود فُرض له بها، وأول مولود رُئي في كتف يختلف بها إلى الكتّاب، أتعلّم الكتابة[9].

 

قال إياس بن معاوية: كنتُ في مكتب (كُتّاب) بالشام، وكنتُ صبيًا، فاجتمع النصارى يضحكون من المسلمين (بشأن طعام المسلمين في الجنة) قلتُ يا معلم: أليس يُزعَمُ أن أكثر الطعام يذهب في البدن؟ قال: بلى، فلمَ ينكر أن يكون الباقي يذهبه الله في البدن (أيضًا)؟ فقال المعلم: أنت شيطان!

 

لقد كان المحدّثون والفقهاء يرون أن الركن الأساسي في التعليم الابتدائي هو تعلم القرآن، وكانوا يكتفون به كشرط لقبول الطلاب في حلقاتهم، فعندما كان الأوزاعي (ت 157هـ/774م) يرى حدَثًا بين الجالسين في حلقته، كان يقول له: يا غلام! هل قرأتَ القرآن؟ فإن قال نعم: اختبرَ حفظه، وإن تبين له أنه لا يعرف القرآن قال له: اذهب تعلّم القرآن قبل أن تطلب العلم[10]وقد حدد ابن الجوزي المتوفى سنة 597هـ/1201م شروط التحاق التلاميذ الصغار لهذه المكاتب بقوله: ومتى اعتدل المزاج وتكامل العقل، أوجب ذلك يقظة الصبي، فإذا بلغ خمس سنين أخذ يحفظ العلم.

 

وأما المدة التي كان يقضيها الطفل في الكُتّاب فهي أيضاً تختلف باختلاف استعداد الطفل ومدى قابليته للتعلم، وإمكانياته في الانتقال إلى المرحلة التعليمية التالية على أن هناك بعض الإشارات التي تحدد مدة الدراسة بالكتّاب بسن البلوغ فقد أشارت بعض المصادر إلى أن الصبي إذا بلغ سن البلوغ ترك المكتب وهذه تتراوح ما بين الثانية عشر والخامسة عشر، وكانت أيام التعليم -في الغالب- خمسة أيام ونصف اليوم: السبت والأحد والاثنين والثلاثاء، والأربعاء: وصبيحة الخميس؛ حيث كانت بقية يوم الخميس، وطوال الجمعة عطلة الراحة، بالإضافة إلى أيام عيد الفطر الثلاثة وأيام عيد الأضحى الخمسة وبعض المناسبات العامة[11].

 

 
وقد تطورت هذه الكتاتيب وانتظم أمرها بصورة فنية فائقة؛ لعناية الناس بأمر أولادهم من جهة، ولاشتداد الدولة واهتمامها بأمر التعليم وما إليه من الشؤون العامة من جهة أخرى، ويُلاحظ أن معلمي الكتاتيب منذ العصر الأموي قد كانوا منقسمين إلى قسمين:

 

أولهما: معلمو كتاتيب العامة الذين كانوا يهتمون بتعليم أبناء الطبقة المتوسطة وسواد الشعب.

وثانيهما: معلمو أبناء الطبقة العليا والأمراء والنبلاء والأثرياء، وكان لهؤلاء المعلمين اسم يمتازون به وهو اسم "المؤدّبين"[12].

 

وقد اهتمت مؤلفات الحسبة الإسلامية بالطرائق التي يجب على معلمي الأطفال "المؤدبين" اتخاذها في تعليم هذه المرحلة العمرية، فقد شددت عليهم في الجانب الأخلاقي والتربوي، ونبهتهم إلى عدم أذية هؤلاء الصغار إلى الحد المضر، وجعلت مراقبة هؤلاء المؤدبين مهمة منوطة بالدولة الإسلامية ممثلة في سلطة المحتسب[13].

 

إنَّ المعاهد /المؤسسات العلمية قبل القرن الرابع الهجري لم تكن قد ظهرت بعد خلا هذه الكتاتيب، وكان طلاب العلم يتقوتون على طلب العلم من خلال عطايا الأمراء والمحسنين، وكان العالم إذا لم يكن فقيهًا صاحب منصب لا يجد ما يعيش منه اشتغل بنسخ الكتب كما حُكي عن أبي زكريا يحيى بن عديّ المتوفّى سنة 364هـ/974م، وكان من أكبر فلاسفة القرن الرابع، ومذهبه مذهب النصارى اليعاقبة، وذُكر عنه أنه نسخ بخطّه نُسختين من تفسير الطبري، وأنه كان يكتبُ في اليوم والليلة مئة ورقة.

 

مؤسسة "دار العلم"
لكن منذ القرن الرابع بدأت "دور العلم" في الظهور، وهو المصطلح الذي كان يطلق على مكان مخصص لطلب العلم، ربما يكون ذلك البيت الصغير في القرى والحواري يعتبر التمهيد لظهور المدارس المتخصصة والمتكاملة فيما بعد.
 

 
لقد حُكي عن أبي القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي الشافعي (ت323هـ/935م) أنه أسّس دارًا للعلم في الموصل، وجعل فيها خزانة كتب (مكتبة) من جميع العلوم وقفًا على كل طالب لعلم، لا يُمنع أحد من دخولها، وإذا جاءها غريب يطلب الأدب، وكان مُعسرًا أعطاه ورقًا وورِقًا، وكان ابن حمدان يجلس فيها ويجتمع إليه الناس فيملي عليهم من شعره وشعر غيره، ثم يملي حكايات مستطابة وطرفًا من الفقه وما يتعلّق به[14].

 

وقد أنشأ أبو علي بن سوّار الكاتب أحد رجال حاشية عضد الدولة البويهي (ت372هـ/982م) دار كتب في مدينة رام هرمز على شاطئ بحر العرب، كما بنى دارًا أخرى بالبصرة، وجعل فيهما إجراء على من قصدهما ولزم القراءة والنسخ فيهما، وكان في الأولى منهما أبدًا شيخٌ يدرس عليه علم الكلام على مذهب المعتزلة[15].

 

وفي سنة 383هـ أسّس وزير بني بويه أبو نصر سابور بن أردشير دارًا للعلم في حي الكرخ غربي بغداد، ونقل إليها كتبًا كثيرة اشتراها وجمعها، وكان بها مئة نسخة من القرآن نُسخت من قبل أحسن النسّاخ، هذا إلى عشرة آلاف وأربعمئة مجلد أخرى معظمها بخط أصحابها أو من الكتب التي كان يملكها رجال مشهورون، وردّ النظرَ في أمرها ومراعاتها والاحتياط عليها إلى رجلين من العلويين يعاونهما أحد القضاة[16].

 

وبالرغم من ظهور دور العلم، فقد بقي المكتب أو الكُتَّاب المرحلة الأولى والأساسية لصغار الأطفال عند السادسة أو السابعة من العمر، وحظيت هذه المكاتب بعناية واسعة من كافة طبقات المجتمع حتى العصر الحديث، ولا تزال هذه الكتاتيب على حالها في كثير من البلدان العربية اليوم، مثل اليمن وموريتانيا وغيرهما.

المصدر : الجزيرة