شعار قسم ميدان

قصة المدارس الإسلامية.. نظام المُلك وثورة التعليم السنِّي

"ومدارسه في العلم مشهورة لم يخلُ بلد منها، حتى جزيرة ابن عمر التي هي في زاوية من الأرض لا يؤبه لها، بنى فيها مدرسة كبيرة حسنة"
(المؤرخ شهاب الدين أبو شامة المقدسي في وصفه لمدارس الوزير نظام الملك الطوسي)

ظلت الجوامع والمساجد -حتى القرن الرابع الهجري- مقصدًا أساسيًا من مقاصد العلم ونشره، فضلا عن دورها الديني والتعبّدي، وقد كان الفقهاء من بين أكثر العلماء كثرة في حضور التلاميذ، وكان ذلك -كما يوضح آدم متز- طبيعيًا؛ لأن الفقهاء يُعلّمون العلم الذي يُؤهل أصحابه لتولي مناصب يعيشون منها، فقد كان أبو حامد بن محمد الأسفراييني (ت 406هـ/1015م) إمام أصحاب الشافعي، حتى قيل إنه أفقه وأنظر منه، وكان يُدرّس بمسجد عبد الله بن المبارك في بغداد، وكان يحضر مجلسه ما بين ثلاثمائة وسبعمائة فقيه.

وكان الإملاء فيما مضى من الزمان يعتبر أعلى مراتب التعليم، وكثيرا ما كان المتكلمون واللغويون في القرن الثالث الهجري يتبعون طريقة للإملاء خاصّة، فيُحكى أن الجبّائي المعتزلي أملى مائة ألف وخمسين ألف ورقة، وفي القرن الرابع الهجري ترك اللغويون طريقة المتكلمين والمحدِّثين في الإملاء واقتصروا على تدريس كتاب يقرأ منه أحد الطلبة، والمدرس يشرح، ويُقال إن آخر من أملى من اللغويين هو أبو القاسم الزجّاجي المتوفى سنة 339هـ/950م، لكن بقي إملاء الحديث كما هو عزيز الشأن والشأو[1].

مدارس ما قبل نظام الملك

رأينا تسابق الناس من كافة طبقات المجتمع، وفي كافة الأقطار الإسلامية في بناء الكتاتيب ودور العلم وأخيرًا المدراس، وقد كان تغيّر طريقة التعليم سببًا في إيجاد نوع جديد من المؤسسات العلمية؛ ذلك أنه لما انتشرت طريقة التدريس نشأت المدارس، ولعل من أكبر الأسباب في ذلك أن المساجد لم يكن يحسن تخصيصها للتدريس؛ لما يتبعه من مناظرة وجدل قد يخرج بأصحابه -أحيانًا- عن الأدب الذي يجب مراعاته للمسجد؛ فالقرن الرابع هو الذي أظهر هذه المعاهد الجديدة التي بقيت حتى يومنا هذا[2].

وفي الغالب كان الواقفون أو المنشئون لهذه المدارس /الكليات هم أصحاب الحق في وضع البرنامج المناسب لها، وأغراض الدراسة في هذه المعاهد العلمية. فقاضي قزوين عبد الحميد بن عبد العزيز بنى مدرسة للفقهاء الشافعية في مدينته قزوين، ودفن حين وفاته سنة 557هـ في هذه المدرسة[3]. وهذه الأميرة الأيوبية ست الشام زمرد خاتون أخت السلطان صلاح الدين تتبرع بدارها الواسعة في دمشق، وتجعلها وقفًا لإنشاء مدرسة كانت فيما بعد من كبريات مدارس الفقه والحديث في الشام، كما بنت مدرسة /كلية أخرى؛ لذا عُرفت في التاريخ بـ"واقفة الشاميَتيْن بدمشق"[4]، إحدى هاتين المدرستين كانت تطل على منظر بهيج عند نهر برَدى.

ولعل أشهر من بنى المدارس في تاريخ الإسلام الوسيط الوزير والأديب نظام الملك الطوسي (ت 485هـ /1092م) وزير السلاجقة الأشهر؛ لكن  تنبه مؤرخو الإسلام إلى أن نظام المدارس قد وُجد قبل أن يولد نظام الملك الطوسي بقرن على الأقل، فهذا السبكي يقرر أن شيخه العلامة شمس الدين الذهبي (ت 748هـ/1349م) يقول إن المدرسة البيهقية أُنشئت قبل أن يولد نظام الملك بقرن[5]، وهو الأمر الذي يؤكده شيخ المؤرخين العلامة المقريزي (ت 845هـ/1441م) قائلاً: "والمدارس مما حدث في الإسلام، ولم تكن تعرف في زمن الصحابة ولا التابعين، وإنما حدث عملها بعد الأربعمئة من سني الهجرة، وأوّل من حفظ عنه أنه بنى مدرسة في الإسلام أهل نيسابور، فبُنيت بها بالمدرسة البيهقية، وبنى بها أيضا الأمير نصر بن سبكتكين مدرسة، وبنى بها أخو السلطان محمود بن سبكتكين مدرسة، وبنى بها أيضا المدرسة السعيدية، وبنى بها أيضا مدرسة رابعة"[6].

الوزير والأديب "نظام الملك الطوسي".

إن دخول المدارس كتعليم ثانوي وجامعي آنذاك، لم يكن أيضًا لاحترام خصوصية المساجد، وتطور نظم وطرائق التدريس؛ لكنه كان في بعض الأوقات تحت وطأة أسباب سياسية محضة، وتحت ضغط الأحزاب المعارضة للسلطة أُنشئت هذه المدارس لتعليم الناس وفق أفكار هذه الحركات ومبادئها، فضلاً عن رفع مستواها الفكري[7].

وخلال القرنين الثالث والرابع الهجريين تطورت المدارس في الشكل والمضمون، فقد كان التدريس يشمل النحو والصرف وفقه اللغة والبلاغة والأدب والمنطق والرياضيات، وكان التلاميذ الجالسون حول المعلم يتلقون تعليمًا شفهيًا أكثر منه كتابيًا، وفي معظم الأحيان كانوا يذهبون بعيدًا للاستماع والتعليم على يد العلماء الكبار في مكّة وبغداد ودمشق والقاهرة، وفي طريقهم كانوا يجدون المأوى والمأكل والتعليم مجانيًا في كل مكان.

ثورة التعليم السنية.. مدارس نظام الملك

يبدو أن نظام الملك الطوسي كان أول من خصّص الرواتب والأجور للمدرّسين وكل العاملين في مدارسه، كما تكفّل بإعاشة الطلبة، وتحمّل جميع مصروفاتهم. قال ابن خلّكان عن جهود الوزير السلجوقي نظام الملك: "بنى المدارس والرُّبط والمساجد، وهو أول من أنشأ المدارس فاقتدى به الناس، وشرع في عمارة مدرسته ببغداد سنة سبع وخمسين وأربعمئة"[8].
إن نظام الملك الطوسي سارع في إنشاء المدرسة النظامية التي صارت منذ ذلك الحين النموذج والمقياس الذي نسج الناس على منواله شكل المدارس وطرائق التربية والتعليم فيها، سارع للتنافس الشديد مع الحركات المناوئة للحكم السلجوقي والخلافة العباسية، وعلى رأسها الحركات الباطنية الإسماعيلية التي نشطت طوال القرنين الرابع والخامس الهجريين، في كل من بلاد فارس من جهة الشرق ومصر ومناطق الشام الخاضعة للنفوذ الباطني في جهة الغرب.

لقد وقفت خلف هؤلاء دولة قوية في مصر هي الدولة الفاطمية التي حاولت بكافة السبل مواجهة الإسلام السني عسكريًا وثقافيًا، وكان الناس في مناطق تواجدهم في فارس والشام يتأثرون تحت سلطان القهر تارة، والجهل أخرى بالدعاية العقدية والفكرية لهؤلاء الباطنية، الأمر الذي ظهر أثره بتوسّع النفوذ الباطني حينئذ، ويبدو أن هذا التوسّع حدا بالخليفة العباسي المستظهر بالله إلى تكليف الإمام أبي حامد الغزالي إلى تأليف كتاب "يفضح" فيه هذه العقائد المخالفة لأهل السنة والجماعة، وهو ما امتثله الغزالي بالترحاب والقبول بتأليف كتابه "فضائح الباطنية".undefined

وبالتوازي مع المواجهة العسكرية التي كانت على أشدها، عمل وزير السلاجقة أبو الحسن علي الطوسي على توسيع المواجهة في ميدان الثقافة وتشكُّل العقول، وكان الطوسي للحق عالمًا فقيهًا مثقفًا على قدر كبير من الثقافة وله مؤلف مشهور للغاية هو "سياست نامه" (سير الملوك) في شؤون الحكم وتدبير السياسة ألّفه ليكون بمثابة النموذج والدستور للسلاجقة، لذا كان الرجل مثقفًا واعيًا لهذا الميدان الخطر قبل أن يكون نظامًا للملك ووزيرًا.

فأمسى التوسع في نشر المدارس مشروعًا عملاقًا في كافة أطراف ومراكز الدولة الإسلامية، وهو ما نفهمه من خلال هذا النص شديد الأهمية للمؤرخ الدمشقي شهاب الدين أبي شامة (ت665هـ/1267م) الذي يقول: "ومدارسه في العلم مشهورة لم يخلُ بلد منها، حتى جزيرة ابن عمر التي هي في زاوية من الأرض لا يؤبه لها، بنى فيها مدرسة كبيرة حسنة، وهي التي تُعرف الآن بمدرسة رضى الدين"[9]، وجزيرة ابن عمر التي أشار لها أبو شامة هنا تقع بالقرب من الموصل شمال العراق، وكانت موضعًا هادئًا، ومنشأ لأسرة اشتُهرت بالعلم والأدب هي الأسرة الأثيرية التي أنجبت العلماء عز الدين بن الأثير وضياء الدين بن الأثير ومجد الدين بن الأثير، وكلهم لمع في ميدان الفقه والحديث والتاريخ، ولربما كان لخروج هذا الجيل في النصف الثاني من القرن السادس الهجري أثر من آثار التعليم المدرسي الذي أسّسه الوزير نظام الملك الطوسي.

كانت المدرسة النظامية في بغداد ونيسابور للحق أكبر من أن تكون مدرسة بمفهومنا الحالي، لقد كانت من أكبر الجامعات العالمية وقتها، وقد حرص الوزير نظام الملك على استيفاد أكابر الشيوخ والعلماء من ذوي التخصصات المختلفة ممن شُهد لهم بالعلم الراسخ، ولم يكن علماء المدرسة النظامية في بغداد من أهل بغداد أو العراق فقط، فنظرة إلى قائمة العلماء الذين درّسوا في هذه المدرسة تكشف لنا أنها كانت بالفعل جامعة عالمية كبرى، فهذا العلامة الشافعي أبو إسحاق الشيرازي عالم الشافعية في زمانه من أهل فيروز آباد في فارس، يقال إن نظام الملك الطوسي بنى له المدرسة النظامية خصيصًا، وكان علامة زمانه، شيخ هذه المدرسة.

وهذا أبو القاسم علي بن أبي يعلى السغدي القادم من منطقة السغد بين بخارى وسمرقند يرتقي معلمًا في المدرسة النظامية و"كانت له يد قوية باسطة في الجدل" والمنطق[10]، ويوسف بن عبد الله الدمشقي الشامي إمام الفقه والتفسير القادم من دمشق إلى بغداد كان أيضًا أحد علماء هذه الجامعة أو المدرسة، والعلامة أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، القادم من نيسابور (في أقصى شرق إيران الآن) إمام الأصول والتصوف والتفسير درّس في ذات المدرسة سنة 469هـ، ويبدو أنه لكونه أشعريًا لاقى اعتراضًا عنيفًا من حنابلة بغداد وعلمائها الكبار، وكانت -حينذاك- إحدى أكبر وأعظم قلاع المذهب الحنبلي في العالم الإسلامي؛ بل جاء من غرب العالم الإسلامي عدد من كبار العلماء للتدريس في هذه الجامعة العالمية، كأبي القاسم البكري المغربي الأشعري الذي لُقّب رسميًا في بغداد بـ"علَم السّنة"[11]. ولدينا قوائم طويلة للعلماء الذين درّسوا في هذه المدرسة الكبيرة من كافة أقطار العالم الإسلامي يمكن أن ترجع لسيرهم وتراجمهم في "ذيل تاريخ بغداد" لابن الدبيثي على سبيل المثال لا الحصر.

لقد بقيت المدرسة النظامية وقفًا على أصحاب المذهب الشافعي أصلاً وفرعًا، ولعل ذلك كان عائدًا لكون الوزير السلجوقي يدين بهذا المذهب؛ لكن بالرغم من ذلك فقد خرّجت هذه المدراس أجيالاً من العلماء الراسخين الذين أثروا بعلمهم أقطار العالم الإسلامي كله، وكانت عامل صد ثقافي لا غنى عنه أمام المد الباطني والصليبي على السواء.

المصدر : الجزيرة