شعار قسم ميدان

ماذا تعرف عن مكتبات الحضارة الإسلامية؟ (2)

ميدان - تاريخ بيت الحكمة
رسم تخيلي لما كانت عليه مكتبة بيت الحكمة أو خزائن الحكمة وهي أول دار علمية أقيم في عُمر الحضارة الإسلامية.

"رأيتُ كُتُبًا لم تقع أسماؤُها إلى كثير من النّاس، فقرأت تلك الكُتُب، وظفرت بفوائدها، وعرفتُ مرتبة كلّ رجلٍ في علمه"

(ابن سينا في وصفه لمكتبة ملوك بخارى من السامانيين)

اشتُهر عن الخلفاء الأمويين ثم العباسيين حبهم وشغفهم للعلم وإنشاء المكتبات، فقد كان خلفاء بني العباس من أكبر المشجعين على ارتياد مناهل العلم والإقبال عليه، وقد بذلوا في سبيل ذلك المبالغ الطائلة، فأسسوا المدارس، وعمّروا الخزائن بالأسفار النفيسة، ووصلوا العلماء والأدباء والشعراء بالصِلات السنية، ولم يكن قصر الخليفة إلا منتدى يتبارى فيه الشعراء والأدباء والعلماء، ومن كان مجلسه يحفل بمثل هذه الطبقة المتعلمة والمثقفة من الناس لزم أن يكون ذا وقوف على ما يجري في مجلسه، بل أن يدرك خفايا ما يدور فيه من مواضيع، ولا يتسنى للخليفة أن يكون في ذلك المقام إلا بالقراءة والدرس والمذاكرة، كما حرص الخلفاء على العناية بتعليم أولادهم تعليمًا مرموقًا، فنشأ بعضهم وهو مسلّح بسلاح العلم، راغب فيه، مشجع له[1].

 

مكتبات الخلفاء

أما أعظم المدارس العباسية فكانت المدرسة المستنصرية ببغداد التي اكتمل بناؤها سنة 631هـ، وفيها "وُقفت خزائن كتب لم يُسمع بمثلها في كثرتها وحُسن نسخها وجودة الكتب الموقوفة بها"[2]. ومن الطريف أن أمين المكتبة المستنصرية كان المؤرخ البغدادي الشهير ابن الساعي الذي كتب يقول في وصفها "هذه منقبة لم يسمُ إليها الأولون، فيها خزانة الكتب ونُقل إليها من الرَّبعات الشريفة، والكتب النفيسة، والأصول المضبوطة المحتوية على جميع العلوم مائتين وتسعين حِملاً سوى ما نُقل إليها بعد ذلك وشرط أن يكون في دار الكتب التي هي الخزانة عشرة يشتغلون بعلم الحديث النبوي، ويكون لهم شغلان يشغلون الطلبة بعلم الحديث النبوي، ورتّب عندهم شيخ على الإسناد يقرأ عليه الحديث"[3].
 

 المدرسة المستنصرية أسست زمن الخلافة العباسية في بغداد 1233م (مواقع التواصل)
 المدرسة المستنصرية أسست زمن الخلافة العباسية في بغداد 1233م (مواقع التواصل)

 

وللأسف الشديد فقد انحلّ أمر هذه المكتبات بانحلال الخلافة، فتبعثرت كتبها، ولا شك أن مجيء المغول إلى بغداد كان من أشد الضربات عليها، فبعضها نُقل وبعضها أُغرق، ذكر ابن الساعي أن المغول حين سقوط بغداد سنة (656هـ/1258م) "بنوا اسطبلات الخيول، وطوالات المعالف بكتب العلماء عوضًا عن اللَّبِن"[4].

 

وقد أشار القلقشندي صاحب الموسوعة الأشهر في عصر المماليك "صبح الأعشى في صناعة الإنشا" إلى المصير المحزن الذي وصلت إليه مكتبات الخلفاء العباسيين، وعدّها من أعظم ثلاث مكتبات في تاريخ الإسلام حتى عصره ، قال "يُقال إن أعظم خزائن الكتب في الإسلام ثلاث خزائن: إحداها خزانة الخلفاء العباسيين في بغداد، فكان فيها من الكتب ما لا يُحصى كثرة، ولا يقوم عليه نفاسة، ولم تزل على ذلك إلى أن دهمت التتر بغداد، وقتل ملكهم هولاكو المستعصمَ آخر خلفائهم، فذهبت خزانة الكتب فيما ذهبت، وذهبت معالمها وأعفيت آثارها"[5]. وذكر أن المكتبة الفاطمية في القاهرة والمكتبة الأموية بقرطبة الأندلس كانتا من جملة هذه المكتبات الثلاث العظام.

 

وكان من الطبيعي أن يحذو السلاطين والملوك حذو الخلفاء في هذا التنافس المحموم في بناء خزائن الكتب العامرة، ففي سنة 662هـ وبعد ثلاثين سنة من بناء المدرسة المستنصرية في بغداد، ومكتبتها العامرة، يبني السلطان المملوكي الظاهر بيبرس مدرسته الظاهرية في القاهرة وقد جعلها لتدريس الفقه الشافعي والقراءات السبع والحديث الشريف، وبنى بها "خزانة كتب وبنى إلى جانبها مكتباً لتعليم الأيتام وأجرى عليهم الخبز في كل يوم وكسوة الفصلين وسقاية تعين على الطهارة"[6].
 

العالم الرئيس ابن سينا (980-1037م) (مواقع التواصل)
العالم الرئيس ابن سينا (980-1037م) (مواقع التواصل)

 

ويروي الطبيب والفيلسوف الأشهر ابن سينا عن مكتبة ملوك السامانيين في بُخارى في حدود الربع الأخير من القرن (الرابع الهجري/العاشر الميلادي)، أن سلطان السامانيين نوح بن منصور مَرِض ذات مرة، فذكرت له حاشيته ابن سينا وتفوقه في ميدان الطب، فجاء وعالجه، قال "وسألته الإذنَ في دخول خزانة كُتُبهم ومطالعتها وقراءة ما فيها من الكُتُب وكَتْبِها. فأذن لي فدخلتُ، فإذا كُتُبٌ لا تُحصى في كلّ فنٍّ. ورأيتُ كُتُبًا لم تقع أسماؤُها إلى كثير من النّاس، فقرأت تلك الكُتُب، وظفرت بفوائدها، وعرفتُ مرتبة كلّ رجلٍ في علمه"[7].

 

واشتهر عن وزير السلاجقة الأشهر نظام الملك الطوسي حبه للعلم والعلماء، فقد بنى مجموعة (المدارس/الكليات) النظامية في عدد من بلاد المشرق الإسلامي مثل مرو ونيسابور فضلاً عن العاصمة العباسية بغداد، ثم إنه لم يكتف بذلك فقد وقفنا له على آثار علمية أخرى في عدد من المدن التي كانت تخضع للحكم السلجوقي في القرن الخامس الهجري، ومثله الوزير الخوارزمي الذي تسمى باسمه نظام الملك مسعود بن علي الذي قُتل على يد الباطنية الحشاشية في تكرار لمأساة سميّه نظام الملك الطوسي، وهو الوزير الخوارزمي المقتول سنة 596هـ، ذلك الوزير بنى "مدرسة عظيمة بخوارزم وجامعا، وجعل فيها خزانة كتب (مكتبة)، وله آثار حسنة بخراسان باقية"[8].

 

وحذا كثير من الأمراء حذو السلاطين والخلفاء في حب الكتب وجمعها، خاصة في أوقات قوة الدولة الإسلامية كما في عصر السلطان القوي محمد بن قلاوون (ت 741هـ/1341م)، فقد اشتهر عن الأمير بكتاش المنصوري أنه "كان مغرى باقتناء المصاحف الغالية الأثمان، والكتب النفيسة"[9].

 

ومن الطريف أننا وجدنا في القرن الثالث الهجري أن من جملة ما استولى عليه العباسيون من أحد المتمردين "خزانة كتبه وفيها خمسة عشر ألف مجلّد سوى الأجزاء والمشرّس (المضمم) غير المجلد"[10]!

 

مكتبة حلوان العمومية في بغداد، من مخطوطة من القرن الثالث عشر لمقامات الحريري (مواقع التواصل)
مكتبة حلوان العمومية في بغداد، من مخطوطة من القرن الثالث عشر لمقامات الحريري (مواقع التواصل)

 

مكتبات العلماء

وقد خرّجت المكتبات العامرة نوابغ العلماء في كل الفنون في الحضارة الإسلامية، نظرًا لانتشارها؛ فالمعرّي الأديب البارع، والفيلسوف الأديب، الساخط على زمنه لعدم اهتمام الناس بكتبه وحكمته وعبقريته، كان قد اتكأ في هذا العلم على رحلته الأولى "إلى طرابلس وكانت بها خزائن كتب موقوفة، فأخذ منها ما أخذ من العلم"[11]. أما إبراهيم بن عبيد الله المعروف بالنوالة، الذي وصف "بأنه بحر أدب ليس له ساحل، وأفق رئاسة قد زينه الله بنجوم المكارم والفضائل، وأنه كان ممن يؤخذ من ماله وأدبه وأنه استعان بخزائن كتبه العظيمة على ما صنفه في كتاب "المسهب"[12].

 

وما أكثر وأجل مكتبات العلماء في الحضارة الإسلامية، وإنك لترى حرصهم على إنشاء مكتباتهم الخاصة والعامة دون كلل، ومهما كان درجة المال المنفق عليها، فهذا أبو سعد النيسابوري الواعظ، أحد أعلام نيسابور في القرن الرابع الهجري كان يصنع الملابس "ويبيعها، ويأكل من كسْب يمينه. بني في سكّته مدرسةً ودارًا للمرضى، ووقَفَ عليهما الأوقاف. وله خزانة كُتُب كبيرة موقوفة"[13].

 

أما مكتبات العلماء الخاصّة فأكثر من أن تُحصى، فقد كانوا يعتمدون على هذه المكتبات في اطلاعهم وتأليفهم فهذا الحافظ الأبيوردي زين الدين أبو الفتح محمد بن محمد الصوفي الشافعي (ت 667هـ/1268م)، خرّج لنفسه معجمًا عن مشايخه الذين سمع منهم، وقد قام بوقف كتبه[14]. والشيخ يحيى بن عبد الوهاب بن عبد الرحيم الدمنهوري النحوي (ت 721هـ/1321م) كانت عنده مكتبة أوقفها على الجامع الظاهري بالقاهرة. أما الإمام الطوفي الحنبلي سليمان بن عبد القوي (ت 716هـ/1316م) فقد طالع كل ما وجده في مكتبات قوص بصعيد مصر، وقد كان في هذه المدينة مكتبة كاملة من تصانيفه[15]!

 

أما القاضي برهان الدين بن جماعة (ت 790هـ/1388م) ففي شغفه وحبه للكتب، ولمكتبته الخاصة يقول ابن حجر "اقتنى من الْكتب النفيسة بخطوط مصنفيها وَغَيرهم مَا لم يتهيأ لغيره"[16]. ومن أعجب الأمثلة سبط ابن عبد الظاهر شافع بن علي (ت 730هـ/1330م) أحد كبار العلماء والموظفين في ديوان الإنشاء المملوكي (وزارة الخارجية) "كان من شدّة حبّه للكتب إذا لمس الكتاب يقولُ: هذا الكتاب الفلاني ملَكته في الوقت الفلاني، وإذا طلب منه أي مُجلَد كان قام إلى الخزانة فتناوله كأنه كما وضعه فيها"[17].
 

الحملة الفرنسية على مصر
الحملة الفرنسية على مصر "معركة الأهرام" 1808م (مواقع التواصل)

 

وللأسف الشديد فقد اضمحل الاهتمام بالكتب وبالمكتبات العامة في العصور المتأخرة قُبيل سقوط العالم الإسلامي في براثن الاحتلال الأوروبي، وهو الأمر الذي لاحظه المؤرخ المصري الفذ عبد الرحمن الجبرتي في القرن (الثاني عشر وبدايات القرن الثالث عشر من الهجرة/نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر الميلادي)، نراه يتحسّر على المكتبات العظيمة التي كانت خاوية في عصره حسرة بالغة وأسى شديد؛ لأن أسماء المصنفات التي عرفها من الكتب التي اطلع عليها، لم يقف على أكثرها في عصره؛ بسبب الضياع والسرقة والتلف، حتى إن الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت على مصر (1798-1801م) قد ساهمت في هذا الفقد بالسرقة، يقول "صارت أسماء من غير مسميات، فإنا لم نر من ذلك إلا بعض أجزاء بقيت في بعض خزائن كتب الأوقاف بالمدارس مما تداولته أيدي الصُّحافيين، وباعها القَوَمة والمباشرون ونُقلت إلى بلاد المغرب والسودان، ثم ذهبت بقايا البقايا في الفتن والحروب، وأخذ الفرنسيس ما وجدوه إلى بلادهم"[18]!

 

وهكذا فإن ما مرّ بنا يعد مجرد أمثلة عابرة على اهتمام الحضارة الإسلامية ببناء المكتبات، فالمكتبة في هذه الحضارة كانت أصلاً أصيلا في بنائها الثقافي، حتى إن الباحث في هذا الموضوع الطريف والجميل ليقف على مكتبات أنشأها كثير من العلماء في الأزقة والحواري الضيقة في مدن وحواضر العالم الإسلامي!

المصدر : الجزيرة