شعار قسم ميدان

دماء في قرطبة.. كيف سقطت الخلافة الأموية؟

midan - الخلافة الأموية

رأينا في تقريرنا السابق ما أورثته السياسة المتعسِّفة الباطشة لشنجول العامري، والخليفة الأموي الجديد محمد المهدي، من نقمة البربر وجموعٍ من أهل قرطبة، وقد جمَّع الجند البربر جموعهم في نقطة شمال قرطبة عند قلعة رباح، وكان ممن فرّ معهم أحد الأمويين الناقمين على حكم قريبه المهدي، هذا الأمير الفارّ هو هشام بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، الذي قُتل عمه هشام بن سليمان على يد المهدي الأموي.

  

صراع العرش بين المستعين والمهدي!
أوكل الجند البربر إلى هشام مهمة القيادة، وقد تحالف هذا الفريق مع ملك قشتالة، سانشوغرسية الذي أمدهم بالسلاح والرجال. وبالفعل، التقى الجانبان عند منطقة في شمال الأندلس اسمها قلعة النهر، فهزَموا قوات المهدي، وتقدموا جنوبًا صوب قرطبة التي لم يقوَ جيشها على مواجهة هذا التحالف الثلاثي من البربر والقوات القشتالية بقيادة الأمير الأموي سليمان بن الحكم. في المقابل، حاول المهدي بالله أن يُظهر الخليفة هشام المؤيّد الذي ادعى سابقًا وفاته، لكن هذه الحيلة لم تنطل على الجموع المهاجمة؛ لذا لم يجد المهدي بُدا سوى الهرب صوب طُليطلة للنجاة بنفسه، وبالفعل تمكن البربر بقيادة زاوي بن زيري وهشام بن الحكم الأموي من الدخول إلى قصر الخلافة، ثم أُعلن عن تولي هشام بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر خليفة جديدًا للدولة الأموية، ملقَّبًا بالمستعين بالله، وقد فرح أهل قرطبة به، وبايعوه أملاً في الخلاص من الفتن المتلاطمة التي مرت بهم، وذلك في 15 ربيع الأول سنة 400هـ/5 (نوفمبر/تشرين الأول) 1009م[1].

 

في الشمال، تمكن المهدي من توحيد صفوف المؤيدين له، فضلا عن تحالفه مع بعض أمراء النصارى، وسرعان ما التقى بقوات البربر والمستعين بالله، واستمر التلاحم والكر والفر بين الفريقين حتى هُزم المهدي، ولم يجد بُدًّا سوى الارتداد شمالا متحصنًا بقرطبة، هذه المدينة التي كان قد أعاد أخذ البيعة لنفسه فيها من جديد.

    

استنفر زاوي البربر، والتقوا بأهل قرطبة، وجرت معركة دامية فاصلة بين الطرفين، أُعلن فيها عن استسلام عاصمة الخلافة للبربر وسليمان المستعين الأموي بعد عامين من الحصار والمقاومة في 5 شوال 403هـ
استنفر زاوي البربر، والتقوا بأهل قرطبة، وجرت معركة دامية فاصلة بين الطرفين، أُعلن فيها عن استسلام عاصمة الخلافة للبربر وسليمان المستعين الأموي بعد عامين من الحصار والمقاومة في 5 شوال 403هـ
   

في هذه الأثناء، كانت بقيّة الموالين للدولة العامرية ناقمة على هذه الأحداث والخلافات الأموية التي صار للبربر فيها دور وقوة ملحوظة، وكان هشام المؤيّد بالله لا يزال حيًّا، والعامريون في القصور يعلمون ذلك، فتقاطر العامريون صوب قرطبة، وتمكنوا من إخراج هشام المؤيد بالله من محبسه، واستطاعوا قتل محمد المهدي بالله الأموي الباطش، وخرج هشام الذي كان يبلغ من العمر حينها سبعة وأربعين عاما ليطوف قرطبة لأول مرة حُرًّا منذ أيام المنصور بن أبي عامر، لكن البربر في الجنوب الأندلسي كانوا يضطرمون حِقدًا على أهل قرطبة جرّاء ما وقع لهم من النكاية، فأعلنوا رفض هذه الإجراءات وعودة المؤيد، وأصروا على أن المستعين بالله الأموي سليمان بن هشام هو الخليفة الشرعي في نظرهم، وانطلقوا إلى الزهراء في غربي قرطبة التي عاثوا فيها إحراقا وإفسادًا، وذلك في ربيع الأول سنة 401هـ/(نوفمبر/تشرين الأول) 1010م، ومنذ ذلك الحين ضيّق البربرُ الخناق على أهل قرطبة، حتى قلّت الموارد، وزادت أعمال الشغب والسرقة، لكن الجميع كان متفقا على مناوئة العساكر البربرية على هذه البلايا التي تسببوا فيها منذ أواخر الدولة العامرية[2].

   

خليفة أموي على أكتاف البربر!
استمرَّ الحصار وزادت المناوشات بين الفريقين، حتى قُتل في إحداها ابن أخي زاوي بن زيري زعيم البربر على يد جماعة من أهل قرطبة، فاستنفر زاوي البربر، والتقوا بأهل قرطبة، وجرت معركة دامية فاصلة بين الطرفين، أُعلن فيها عن استسلام عاصمة الخلافة للبربر وسليمان المستعين الأموي بعد عامين من الحصار والمقاومة وذلك في 5 شوال 403هـ/19 (أبريل/نيسان) 1013م، لكن البربر حين دخلوا المدينة كما يقول المؤرخ محمد عبد الله عنان كان دخولهم "دخولَ الوحوش المفترسة، فقتلوا كثيراً من سكانها، وأوقعوا بها السلب والنهب، وأحرقوا الدور، واغتصبوا النساء والبنات، وارتكبوا أشنع ضروب السفك والإثم، وكانت محنة من أروع ما قاسته عاصمة الخلافة".

 

وفي اليوم التالي، دخل سليمانُ المستعين قصر قرطبة، واستدعى هشاماً المؤيد وعنّفه على موقفه، فاعتذر بأنه لم يكن له من الأمر شيء في ظل سيطرة العامريين. "وهنا تختلف الرواية في مصير هشام، فالبعض يقول إن سليمان أخفاه حيناً، ثم قتله ولده محمد بن سليمان، والبعض الآخر يقول بأنه فرَّ من محبسه، وقصد ألمرية حيث عاش حيناً في خمول وبؤس حتى تُوفي. بيد أننا نُرجّح الرواية الأولى، وإن كان اسم هشام سوف يظهر بعد ذلك على مسرح الحوادث"[3].

  undefined

 

ارتقى سليمان المستعين بالله العرش الأموي من جديد، وانتقل زاوي بن زيري زعيم العسكر البربري إلى غرناطة واليا عليها، لكن الفتيان العامريين الذين تعود أصولهم إلى العنصر الصقلبي الأوروبي كانوا حانقين على هؤلاء "المجرمين" الجدد، لقد ظنوا أن هشام المؤيّد الذي دان له المنصور العامري وبنوه بالولاء والحجابة لا يزال حيا، يخفيه سليمان المستعين بالله في أضابير القصور، وفي هذه الأثناء كان أحد القادة العسكريين الذي تعود أصوله إلى العلويين الأدارسة الذين حكموا المغرب الأقصى يتحرّق إلى منصب الزعامة وإقصاء هذا الخليفة الجديد، خصوصا أن الأمويين وعلى رأسهم الحكَم المستنصر قد قضوا على دولة الأدارسة في المغرب الأقصى، هذا الرجل هو علي بن حمود بن ميمون بن حمود، كان قد تحالف مع البربر هو وأخوه القاسم بن حمود وتمكنوا بالفعل من دخول قرطبة وهزيمة هشام المؤيد والقرطبيين سنة 403هـ[4].

 

القضاء على المستعين وظهور ابن حمود
وجد علي بن حمود في الفتيان العامريين، الذين كانوا يحكمون بعض ولايات شرق الأندلس مثل ألمرية وبلنسية وغيرها، خير معين فيما يزمع عليه، وسرعان ما وافقه زعيم البربر زاوي بن زيري وبقية البربر الناقمين على الحكم الأموي بالكلية، وعلى سليمان المستعين بالله الذي شاءت الأقدار أن يكون في طريقهم ليتخذوه تُكّاءة للقضاء على هشام المؤيد، خاصة وأنه لم يكن في أعين البربر جديرًا بمكانته، وهم الذين طالما قيّموا الرجال بمكانتهم الحربية والفروسية.
 

والحق أن سليمان المستعين، بالرغم من اشتهاره بالأدب والرفاهة، فإنه كان مذموم الجانب أيضًا عند عامة أهل الأندلس، في قرطبة وخارجها؛ فقد رآه الناس مرهونا بالبربر الذين أفسدوا وطغوا في هذه الفتن، كما رأوه "زنديقًا" لم يبلغ العرش إلا على أكتاف النصارى الإسبان الذين تحالف معهم على دماء المسلمين وأشلائهم، ثم إنه كان شديد الغفلة حين أنفذ إلى المدن الأندلسية عقب ارتقائه للعرش كُتبًا يهددها فيه بالإذعان والولاء وإلا سيُنزل بها ما أنزل بقرطبة[5]، فانصبت اللعنات عليه من كل ناحية، وقال في ذلك أحد الشعراء:

لا رحم الله سليمانكم … فإنّه ضدّ سليمان

ذاك به غُلّت شياطينها … وحلَّ هذا كلّ شيطان!

    

خرج المستعين بالله وجيشه من الأمويين والبربر الموالين له، والتقوا بالصقالبة العامريين ومن عاونهم خارج قرطبة، ونشبت بين الفريقين معركة حامية انتهت بهزيمة سليمان وأسره مع أفراد أسرته، وقُتل عدد جم من أنصاره
خرج المستعين بالله وجيشه من الأمويين والبربر الموالين له، والتقوا بالصقالبة العامريين ومن عاونهم خارج قرطبة، ونشبت بين الفريقين معركة حامية انتهت بهزيمة سليمان وأسره مع أفراد أسرته، وقُتل عدد جم من أنصاره
   

قضى سليمان المستعين في الخلافة هذه المرة الثانية نحو ثلاثة أعوام، استمر خلالها الاضطراب والفوضى في قرطبة وسائر أنحاء الأندلس. ولم تهدأ الخواطر ولم تطمئن النفوس. وغلب سلطان البربر، واشتد طغيانهم وتحكمهم، ولبثت الأهواء المتوثبة تجيش في صدور الطامعين من زعمائهم، حتى تمخض تغير بعيد عن انقلاب جديد في مصير الخلافة، ذاك هو انقلاب علي بن حمود الذي أيده البربر والصقالبة المعروفون بالفتيان العامريين الموالين لهشام المؤيد الذين كانوا يظنون أنه لا يزال حيا يخفيه المستعين في غَيَابات قرطبة، وقد ادعى علي بن حمود أن هشام الثاني المؤيد أرسل إليه من مخبئه معلنا إياه وليًا لعهده، وكان السبب الذي جعل ابن حمود ينشر هذه الإشاعة؛ استدراره لتعاطف الصقالبة العامريين له، وتأييدهم لموقفه من الإطاحة بالمستعين، وقد كان[6].

 

كتب ابن حمود إلى زعيم الصقالبة العامريين وأقوى أمراء شرق الأندلس الفتى خيران العامري، وقد عبر إليه من سبتة في المغرب إلى الجزيرة الخضراء في جنوب الأندلس أواخر سنة 406هـ/1016م، وسار في أنصاره من البربر إلى مالقة التي استولى عليها، والتقى به خيران في موضع بين مالقة وألمرية، ثم سار الفريقان صوب قرطبة، وبويع علي بن حمود على طاعة هشام المؤيّد، وانضم إليهم في الطريق زاوي بن زيري الصنهاجي أمير غرناطة وأنصاره من البربر.

 

خرج المستعين بالله وجيشه من الأمويين والبربر الموالين له، والتقوا بهذه الجموع خارج قرطبة، ونشبت بين الفريقين معركة حامية انتهت بهزيمة سليمان وأسره مع أفراد أسرته، وقتل عدد جم من أنصاره، ودخل علي بن حمود قصر قرطبة في 28 محرم 407هـ/ (يوليو/تموز) 1016م، وبحث عن هشام المؤيد فلم يجده، وكان الاعتقاد السائد أن سليمان أخفاه، فلما لم يجده أنزل عقوبة الإعدام في سليمان وأبيه وأخيه وقتلهم بنفسه انتقاماً للمؤيد. ثم أعلن وفاة المؤيد، ودعا إلى البيعة لنفسه، فبويع بالخلافة وتلقب بالناصر لدين الله، وكانت مدة خلافة سليمان الثانية منذ دخل قرطبة إلى أن قُتل ثلاثة أعوام وبضعة أشهر[7].

 

سقوط الأمويين والدرس القاسي
اختتمت الدولة الأموية حياتها بالأندلس بعد أن عاشت منذ عصر الإمارة مع عبد الرحمن الداخل حتى نهاية عصر الخلافة بخلع هشام الثالث المعتد بالله سنة 422هـ، مائتين وأربعة وثمانين عامًا
اختتمت الدولة الأموية حياتها بالأندلس بعد أن عاشت منذ عصر الإمارة مع عبد الرحمن الداخل حتى نهاية عصر الخلافة بخلع هشام الثالث المعتد بالله سنة 422هـ، مائتين وأربعة وثمانين عامًا
  
استولى بنو حمود على السلطة، لكن تفككت الأندلس بمقدمِهم، وقد حاول الفتيان العامريون في شرق الأندلس في إطار صراعهم مع بني حمود في قرطبة، تأييدَ بعض الأمويين الذين تمكنوا من العودة إلى سدّة العرش الأموي من جديد مثل عبد الرحمن المستظهر الأموي، ثم المستكفي الأموي، وأخيرا هشام الثالث المعتد بالله الذي ظل في الخلاقة لعامين ما بين سنتي 420هـ إلى 422هـ، وكان الناس في قرطبة قد وصلوا إلى قناعة مفادها أن عقِب بني أمية لم يعودا يصلحون للخلافة نظرًا للفتن وسوء التقدير الذي لازم حكمهم، واتفق رأي الجميع كبارًا وصغارا على إجلاء كل من ينتمي للبيت الأموي عن قرطبة، وكان المشير والمدبر لهذا الأمر زعيم قرطبة ووزيرها أبو الحزم جَهْور بن محمد الذي أصبح فيما بعد زعيم بني جهْور إحدى دويلات الطوائف التي اتخذت من قرطبة مقرا لها[8]. وهكذا انفرط العقد، واستأثر كل زعيم بناحيته، وبدأ عهد التشرذم والضعف والسقوط أمام العدو الصليبي في الشمال، ولم تمض على هذه الحوادث نصف قرن حتى سقطت طُليطلة على يد ملك قشتالة ألفونسو السادس سنة 478هـ/1084م.

 

وهكذا اختتمت الدولة الأموية حياتها بالأندلس بعد أن عاشت منذ عصر الإمارة مع عبد الرحمن الداخل حتى نهاية عصر الخلافة بخلع هشام الثالث المعتد بالله سنة 422هـ، مائتين وأربعة وثمانين عامًا، فانهارت دعائم الخلافة الأموية نهائياً، بعد أن لبثت منذ عهد هشام الثاني المؤيد بن الحكم المستنصر أربعين عاماً، ستاراً للمتغلّبين من بني عامر، وبني حمّود ثم شبحاً هزيلا يضطرب في غمرات الفتنة والفوضى[9].

 

إننا لنرى مما سبق من أحداث، كيف جنى تشرذم وتصارع البيت الأموي على نفسه، وكيف استغل الجميع من العرب والبربر والفتيان الصقالبة العامريين هذه الأحداث ليستأثروا بالمناصب والمدن والأموال على حساب وحدة الأندلس، ودماء الناس، وهيبة الدين في النفوس، كان القتل أهون الأمور أمام أمير طامع، أو أموي دنيء النفس يطمح إلى العرش بأي سبيل كانت، فضلا عما جرّه هذا الصراع من انسلاخ الوحدة الاجتماعية، وبروز الحقد العرقي الذي كان سببا في التشرذم والتشظي، وهكذا رأينا اقتتالا وجرأة في سبيل الوصول لمنصب الخلافة أو الحجابة، فوصل إليها الضعفاء، وغاصت الأندلس في مستنقع الفتنة والفوضى لمدة ربع قرن، حتى انفرط عقدها إلى دويلات متصارعة، يتقي بعضها شر بعض بالتحالف مع أعدائهم من القشتاليين في الشمال، وهو بلا شك من الأسباب التي أدت إلى ضياع الأندلس بالكلية عقب ذلك بخمسة قرون، وإن أخّر هذا السقوط مجيء المرابطين والموحدين!

المصدر : الجزيرة