شعار قسم ميدان

المقدسيات.. كيف أظهرتهن الوثائق في العصر الوسيط؟

ميدان - القدس نساء القدس المرأة
لعبت المرأة في التاريخ والحضارة الإسلامية أدوارًا عدة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومنذ عصر الرسالة وأمهات المؤمنين والصحابيات الجليلات يؤكدن على دورهن الذي اتخذته نساء الحضارة أسوة في تلك المسيرة الطويلة.

 

في قصور الحُكم

لقد وصلت المرأة في عصر المماليك -على سبيل المثال- إلى منصب السلطنة، وكانت شجرة الدر زوجة الصالح نجم الدين أيوب وأم ولده خليل قد بويعت بالسلطنة لمدة ثلاثة أشهر تقريبا بعد وفاة زوجها، وانتصار المماليك على الصليبيين في معركة المنصورة، واعتبرها كثير من المؤرخين أول سلاطين الدولة المملوكية، وظلت تمارس كامل صلاحياتها من إنفاذ المراسيم، وممارسات الإدارة، بل وسُكت العُملة باسمها، وأظهرت براعة في مهام الحُكم، ورغم ارتقاء زوجها الجديد المعز عز الدين أيبك التركماني إلى سُدة الحكم فإن التاريخ يؤكد أنها ظلت تمارس نفوذها بلا مواربة، وتتدخل في الشأن السياسي بكل قوة، ولعل هذا التدخل كان سببا من أسباب نهايتها فيما بعد.

 

كذلك نسمع عن أم السلطان السعيد بركة خان زوجة السلطان الظاهر بيبرس التي كانت تتمتّع بنفوذ عظيم ليس فقط على ابنها ولكن أيضا على أمراء الدولة، بدليل أنه عندما شب الخلاف سنة 676هـ/1277م بين المَلِك السعيد وأمرائه لم يجد خيرا من أمه ليبعث بها للتفاوض السياسي مع الأمراء في الصلح، فأظهروا لها كل احترام، واشترطوا عليها شروطًا كثيرة التزمت لهم بها، وعادت إلى ولدها لتخبره نتيجة وساطتها[1].

 

إننا نملك معلومات وفيرة عن تدخل نساء السلاطين للإصلاح بينهم وبين أمرائهم، فيروي المقريزي أن السلطان الكامل شعبان بن الناصر محمد بن قلاوون قصد في سنة (747هـ/1346م) أخذ أموال أحد الطواشية الكبار من رؤساء الخدم واسمه كافور الهندي، فشفعت فيه خوَندطَغاي أرملة أبيه السلطان الناصر محمد بن قلاوون فاكتفى السلطان شعبان بإخراجه إلى القدس. أما السخاوي فيصف لنا كيف أن السلطان الظاهر خُشقدم الذي حكم دولة المماليك في منتصف القرن التاسع الهجري قد أمر بنفي أحد المربين واسمه اللالا خُشقدم الرومي إلى المدينة المنورة، لكن زوجة السلطان القوية شكر باي رفضت الموافقة على ذلك، فاضطر السلطان في النهاية إلى التراجع في قراره هذا[2]!

 

ومن اللافت أننا نملك اليوم وثائق تاريخية على درجة كبيرة من الأهمية في العصر المملوكي عن مدينة القدس الشريف، هذه الوثائق التي هي أم التاريخ وأهم روافده تكشف لنا الحرية والحقوق التي كانت تتمتع بها المرأة في عصر الإسلام الوسيط، وهي عصور تكذّب الدعاوى التي تصوّر المرأة مجرد لاهية في قصور الحريم، لا شأن لها إلا في إسعاد سيدها وفقط! 

 

المرأة في وثائق القدس
تتناول الوثائق التاريخية أحوال المرأة المقدسية في العصر المملوكي، فتصف الأصول العرقية لها، والوضع الاجتماعي، والحقوق المدنية والشرعية التي تمتعت بها، ومكانتها في مجتمع بيت المقدس
تتناول الوثائق التاريخية أحوال المرأة المقدسية في العصر المملوكي، فتصف الأصول العرقية لها، والوضع الاجتماعي، والحقوق المدنية والشرعية التي تمتعت بها، ومكانتها في مجتمع بيت المقدس

 

لقد أُعطيت للمرأة الذمة المالية الكاملة، وهو وصف في الفقه الإسلامي يفترض المشرّع وجوده في الإنسان ويصير به أهلا للإلزام والالتزام، أي له حقوق وعليه واجبات، وتؤكد الشريعة الإسلامية على انفصال الذمة المالية للمرأة عن الأب والأخ والزوج والابن، فلا سلطان لأحد منهم على تصرفات المرأة المالية.

 

إن "وثائق الحرم القدسي الشريف" التي تم الكشف عنها في الربع الأخير من القرن العشرين في المتحف الإسلامي بالقدس، والتي تُعنى بمجتمع بيت المقدس بجميع طوائفه الدينية مدة قرنين -منذ النصف الثاني من القرن (السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي) وحتى النصف الثاني من القرن (التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي)- تُعطي لنا مادة تاريخية على قدر كبير من الأهمية لأحوال المرأة في ذلك العصر، وهو العصر المملوكي، فهي تصف لنا الأصول العرقية للمرأة المقدسية، وأسباب الهجرة إلى مدينة القدس حينذاك، والوضع الاجتماعي للمرأة، والحقوق المدنية والشرعية التي تمتعت بها المرأة المقدسية، والرعاية الاجتماعية، ومكانتها في مجتمع بيت المقدس، والزواج وحالاته المختلفة، ومسألة تعدد الزوجات، وسن الزواج ومعدل الإنجاب وغير ذلك[3].

 

من نشاطات المرأة الاجتماعية المساهمة في الأعمال الخيرية، إذ ثبت قيام المرأة المقدسية بحبس الأملاك ووقفها على مصالح العامة، ومثال ذلك الوقف الذي حبسته فاطمة بنت محمد بن علي المغربية، في حارة المغاربة بالقدس على الفقراء والعجائز

على أن ما يهمنا هنا أن نلقي مزيدًا من الضوء على المعاملات التجارية للمرأة في ذلك العصر، هل شاركت في عمليات البيع والشراء؟ هل كان لها تجارتها الخاصة بها بعيدا عن زوجها وأبنائها؟ وإذا أُعطيت لها الحرية في ذلك، وكُفلت لها الحقوق من خلال النظام القضائي بين قضاة القضاة الأربعة الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة، فكيف استطاعت أن تباشر هذه الأعمال؟

 

إن الوثائق التي بين أيدينا تكشف مزيدًا من الضوء، وتجيب عن هذه الأسئلة، ففي الوثيقة رقم 42 المؤرخة في 27 رمضان سنة 756هـ/ 5 (أكتوبر/تشرين الأول) 1355م تبيّن أن إحدى نساء بيت المقدس واسمها الحاجة زاهدة بنت إدريس بن رازي بن عبد الله اشترت بنفسها ولنفسها ومن مالها الخاص من الشيخ عبد الله بن محمد دكانين من الدكاكين التي ذُكرت في أعلى الوثيقة، وتم نقل الملكية للمُشترية بموجب عقد بيع شرعي نظير 350 درهما تسلّمها منها البائع المذكور. أما الوثيقة التالية رقم 43 والمؤرخة في 4 رمضان سنة 758هـ/ 31 (أكتوبر/تشرين الأول) 1383م فتحدثنا عن امرأة اشترت من أخيها بيتا، فقد جاء في نص الوثيقة أن "خديجة بنت الحاج أحمد بن عبد العزيز المشرقي تشتري من أخيها عمارة البيت من تركة والدها، الواقع في باب حطة، في حكر المدرسة الصلاحية، بمبلغ 250 درهمًا دمشقيًّا"[4].

 

ومن نشاطات المرأة الاجتماعية المساهمة في الأعمال الخيرية، إذ ثبت قيام المرأة المقدسية بحبس الأملاك ووقفها على مصالح العامة، ومثال ذلك الوقف الذي حبسته فاطمة بنت محمد بن علي المغربية، فقد ورد في الوثيقة رقم 833 المدونة بتاريخ 25 ربيع الأول 747هـ/ 16 (يوليو/تموز) 1349م أن هذه السيدة أوقفت دارها المستجدة في حارة المغاربة بالقدس على الفقراء والعجائز، وبالإضافة إلى الوقف الذي حبسته عائشة الرومية في وثيقة أخرى[5].

 

وتُشير الوثيقة رقم 614 المؤرخة في 25 شعبان 765هـ/ 28 (مايو/أيار) 1364م إلى أن المرأة في بيت المقدس في تلك الفترة تمّتعت بحق استثمار أموالها جنبًا إلى جنب مع الرجل، فقد جاء في هذه الوثيقة أن "أحمد بن سليمان بن محمد المعروف بالراعي، وزوجته قطلو ملك بنت شرف الدين بن ناصر الدين، المقيمين بالقدس، يشتريان غراسا (عبارة عن تمر وعنب وغيره) من علي بن إبراهيم بن محمد التركماني الدمشقي الحاضر بالقدس، بمبلغ 400 درهم". وفي الوثيقة رقم 658 بتاريخ 24 ذي الحجة 784هـ/28 (فبراير/شباط) 1383م توضيح بأن عملية المتاجرة في شراء وبيع تلك الغراس كانت تُحقق أرباحا عالية جدا قد تصل إلى 220% من سعر الشراء[6].

 

المرأة العالِمة
نرى ثراء وتنوع أنشطة المرأة المقدسية في عصر الإسلام الوسيط ما بين التجارة والعلم، وقد كشفت هذه الوثائق عن أدوار أخرى، مثل الأوقاف، وممارسة دور الوصاية، فضلا عن بعض الملامح الاجتماعية الأخرى
نرى ثراء وتنوع أنشطة المرأة المقدسية في عصر الإسلام الوسيط ما بين التجارة والعلم، وقد كشفت هذه الوثائق عن أدوار أخرى، مثل الأوقاف، وممارسة دور الوصاية، فضلا عن بعض الملامح الاجتماعية الأخرى

 

أما نشاط المرأة المقدسية في ميدان العلم فلا يخفى على القارئ والباحث في تاريخ هذه الحقبة الازدهار العلمي والحضاري الذي عاشته القدس في ذلك العصر، وقد كان للمرأة نصيب في المشاركة بهذه النهضة العلمية، وأثبتت النساء المقدسيات وجودهن على المستوى العلمي، وظهر منهن عالمات وحافظات ومُدرّسات نلْنَ من شتى صنوف العلم، ومنهن على سبيل المثال:

 

زينب بنت أحمد بن عبد الرحيم المقدسية المعروفة ببنت الكمال (ت 740هـ/1339م) كانت "ديّنة وخيّرة، روت الكثير وتزاحم عليها الطلبة، وقرؤوا عليها الكتب الكبار"، وقيل عنها "مُسندة الشام المرأة الصالحة العذراء، وتكاثر عليها، وتفردت وروت كتبا كبارا"[7]. ومثلها زينب بنت أحمد بن عمر المقدسية (ت 722هـ/1322م) اشتُهرت بعلمها الراسخ حتى صارت مقصدا لطلبة العلم من كافة البلدان، وحدّثت بمصر والمدينة المنورة والقدس، وكانت موصوفة بالعبادة والخير، وتوفيت ودُفنت بالقدس[8].

 

وهكذا نرى ثراء وتنوع أنشطة المرأة المقدسية في عصر الإسلام الوسيط ما بين التجارة والعلم، وقد كشفت هذه الوثائق عن أدوار أخرى ربما نتطرق إليها قادما، مثل الأوقاف وأنواعها، وممارسة دور الوصاية على بعض أبناء الأقارب، فضلا عن بعض الملامح الاجتماعية الأخرى في مسائل الزواج والطلاق والعتاق، ووظائف المرأة المقدسية التي تنوعت آنذاك.

المصدر : الجزيرة