شعار قسم ميدان

أبو بكر الرازي.. طبيب مسلم لن يحدثك عنه الغرب

اضغط للاستماع

في سنة 148هـ/765م أصيب الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بمرض في معدته لم يتمكن معه من الطعام، ولم يستطع أطباء بغداد علاجه، وكانت حالته تسوء باستمرار، فاجتمعوا ثم بحثوا عن أعلم أهل زمانهم في علم الطب، ثم أشاروا عليه باستقدام جرجيس بن جبرائيل من مدينة جنديسابور بإيران، فأُحضر إليه، ولما وصل دعا إليه بالفارسية والعربية، فتعجّب الخليفة من حُسن منظره ومنطقه، فأجلسه قدامه وسأله عن أشياء فأجابه عنها بسكون، فقال له: "قد ظفرت منك بما كنت أحبه وأشتاقه، وحدّثه بعلّته وكيف كان ابتداؤها، فقال له جورجس أنا أدبرك كما تحب. ولما كان من غدٍ دخل إليه ونظر إلى نبضه وإلى قارورة الماء ووافقه على تخفيف الغذاء، ودبّره تدبيرا لطيفا حتى رجع إلى مزاجه الأول، وفرح به الخليفة فرحا شديدا وأمر أن يُجاب إلى كل ما يُسأل"[1].

 

بعد تطور المعرفة الطبية منذ العصر النبوي والأموي وحتى بواكير العصر العباسي في منتصف القرن الثاني الهجري، كلل الخليفة العباسي المأمون هذه المعرفة بإنشاء دار الحكمة التي اهتم فيها بترجمة العلوم اليونانية كالفلسفة والطب والرياضيات وغيرها إلى العربية، مما كان دافعا لظهور شخصيات وعلماء عظام في ذلك العصر.

 

الرازي: الطبيب الفيلسوف!

ظهر في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي واحد من أهم وأعظم أطباء الحضارة الإسلامية في القرون الأربعة الأولى، هذا الطبيب هو أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، ولد الرازي بالري بالقرب من طهران سنة 250هـ/864م وقد توفي في بغداد في شعبان 313هـ/925م[2].

قال فيه القفطي في "تاريخ الحكماء": "محمد بن زكريا أبو بكر الرازي طبيب المسلمين غير مدافع وأحد المشهورين فِي علم المنطق والهندسة وغيرهما من علوم الفلسفة"
قال فيه القفطي في "تاريخ الحكماء": "محمد بن زكريا أبو بكر الرازي طبيب المسلمين غير مدافع وأحد المشهورين فِي علم المنطق والهندسة وغيرهما من علوم الفلسفة"
        

نشأ الرازي محبا للعلم، مشهورا بالذكاء والفطنة، وقد شهد عدد من المستشرقين الغربيين ببراعة الرازي، ودائما ما يصفونه بـ (Rhazes)، قال عنه ستابلتون الإنجليزي بأنه "بقي بلا ندّ حتى بزوغ فجر العلم الحديث بأوروبا"، وعلقت مدرسة الطب بباريس صورة ملونة للرازي إلى جانب ابن سينا وابن رشد، وخصصت جامعة برنستون الأميركية أفخم ناحية في أجمل مبانيها لعرض مآثره[3]!

 

ومن قبل وصفه مؤرخو الطب في الحضارة العربية بذات الأوصاف، قال فيه القفطي في "تاريخ الحكماء": "محمد بن زكريا أبو بكر الرازي طبيب المسلمين غير مدافع وأحد المشهورين فِي علم المنطق والهندسة وغيرهما من علوم الفلسفة"[4]. فماذا فعل الرجل في مجال الطب منذ ألف عام ليستحق هذه المكانة المرموقة حتى اليوم؟ من المفارقات أن الرازي تعلّم الطب كبيرا وهو في العقد الثالث من عمره، فحين دخل بغداد قادما من الري زار أهم بيمارستاناتها حينذاك "البيمارستان العضدي" الذي بناه عضد الدولة البويهي في القرن الثالث الهجري، وفيه سأل عن الأدوية، ورأى بعض الحالات المرضية الغريبة التي شاهد أثناءها مناقشات الأطباء ومقترحاتهم[5].

 

درس الرازي الطب، وعمل في بيمارستان بلده الري، وجاء إلى بغداد ثم أشرف على بناء البيمارستان العضدي، وفي قصة بناء هذا المستشفى الكبير في بغداد ما يُدلل على ذكاء الرازي، حيث سأله عضد الدولة الأمير البويهي عن أفضل المواضع لبناء هذا المستشفى، فأمر الرازي "بعض الغلمان أن يُعلق في كل ناحية من جانبي بغداد شقة لحم، ثم اعتبر التي لم يتغيّر فيها اللحم بسرعة فأشار بأن يبنى في تلك الناحية، وهو الموضع الذي بني فيه البيمارستان"[6]، وهذا دليل على ذكاء الرازي، فهذا المكان كان أفضل مواضع بغداد في نقاء الهواء وجودته واعتداله، وهي عوامل غاية في الأهمية لعلاج المرضى أصحاب المناعات الضعيفة.

كتاب

لم يكتف عضد الدولة بهذا، فحين فرغ من بناء البيمارستان أراد أن يعيّن له رئيسا حاذقا بالطب ومعرفته، له دربة وخبرة واسعة بمجالاته، فجمع أمهر أطباء بغداد فكانوا مئة منهم أبو بكر الرازي، فاختبرهم واختار منهم خمسين فكان منهم الرازي، ثم اختبرهم واقتصر على عشرة فكان منهم الرازي، ثم اختار ثلاثة من العشرة فكان منهم الرازي، ثم إنه ميّز بينهم فبان له أن الرازي أفضلهم، فعينه "ساعور" أي مديرا ورئيسا لأطباء البيمارستان العضدي[7].

 

ومما يُدلل على ذكائه أن غلاما من بغداد قدم الري وكان ينفثُ الدم من فمه ولا يعرف مرضه، وكان لحقه ذلك في طريقه، فاستُدعي أبو بكر الرازي الطبيب المشهور بالحذق، صاحب الكتب المصنفة، فأراه ما ينفث ووصف له ما يجد، فأخذ الرازي مجسّه، ورأى قارورته واستوصف حاله منذ ابتداء ذلك به، فلم يقم له دليل على أنه مريض سُل ولا قرحة، ولم يعرف العلة، واستنظر الرجل لينظر في الأمر، فقامت على العليل القيامة وقال: هذا أيأس لي من الحياة لحذق الطبيب وجهله بالعلة، فازداد ما به من الألم، فعاد الرازي إلى المريض فسأله عن المياه التي شربها في طريقه، فأخبر أنه شرب من مستنقعات وصهاريج، فعلم الرازي بشدة ذكائه أن عَلَقَة كانت في الماء وقد حَصَلَت في معدته، وأن ذلك الدم مِن فعلها.

وقال له: إذا كان في غد جئتك فعالجتُك ولم أنصرِفْ حتى تبرأ، ولكن بشرط أن تأمرَ غلمانك أن يطيعوني فيك لما آمرهم، فقال: نعم؛ فانصرف الرازي فجمع ملء وعائين كبيرين من الطحالب فأحضرهما في غد معه فأراه إياهما وقال له: ابلع، فقال: لا أستطيع، فقال للغلمان: خذوه فأنيموه، ففعلوا به ذلك، وطرحوه على قفاه وفتحوا فاه، وأقبل الرازي يدسّ الطحلب في حلقه ويكبسه شديدا ويسأله ببلعه ويهدده بأن يُضرب، إلى أن أبلَعه كارها أحد الوعائين بأكمله، والرجل يستغيثُ فلا ينفعه مع الرازي شيء، إلى أن قال المريض: الساعة أقذف "القيء"، فزاد الرازي في ما يكبسه في حلقه، فذرعه القيء فقذف، فتأمل الرازي قذفة فإذا فيه عَلقَة (ديدان)، وإذا هي لمّا وصل إليها الطحلب قربت إليه لتتغذى عليه وتركت موضعها، والتفت على الطحلب ونهض المريض معافى[8]!

 

علوم الرازي

ترك الرازي مؤلفات كثيرة ما بين رسائل وكتب في كافة مواضيع العلوم الطبية في عصره، فمثلا كتابه عن "الجدري والحصبة" يعد الأشهر بين جميع أعماله الأخرى، وفيه يظهر الرازي اهتمامه بعلم المداواة، ويتباين تعمقه فيه بوضوح صمت المقالات الهلينستية والبيزنطية التي وصلتنا حيال هذا الموضوع، والحق أن الجدري حتى العصر الحديث سبب من أسباب العمى في العالم العربي، فتعقيداته الأكثر شيوعا هي الندبات القرنية وإتلاف القرنية بسبب البثرات[9].

 

يقول الرازي في كتابه "الحاوي في الطب" عن علاج الجدري: "إذا بَدَت أمَارَات الجدري فابدأ بالفصد، وَإِن لم يتَمَكَّن فالحجامة إِن كَانَت القُوَّة ضَعِيفَة. وَإِذا خرج فَاسق مَاء الشّعير مَعَ عدس مقشر مطبوخ. قبل أَن يظْهر فِي العين جدري فقطر فِيهَا مَاء ورد قد أنقع فِيهِ سماق أَو مَاء شَحم الرُّمَّان. فَإِن ظهر فِي الْعين جدري فقطر فِيهِ كحلاً قد حككته بِمَاء الكزبرة الرّطبَة أَو بِمَاء كزبرة يابسة قد طُبخت بِمَاء المَطَر، واسقه طبيخ اللك والعدس والتين ليسرع الْخُرُوج، وَلَا تغذه بفروج وَلَا بِغَيْرِهِ مِمَّا يُشبههُ حَتَّى تبطل الحمى الْبَتَّةَ ويخف الجدري، واجعَل غذاءه الماش والعدس والبقول"[10].

 

لم ينس الرازي أن يكتب في أخلاقيات مهنة الطب، فكتب في ذلك رسالته المهمة "أخلاق الطبيب" ناصحا الأطباء قائلا: "اعلم أنه من أصعب الأشياء للطبيب خدمة الأمراء، ومعالجة المترفين والنساء، فإن الطبيب الحر السيرة إذا اشتغل بصناعته، وحفظ الخاصة والعامة، فإنه يعيش بخير، ويكون عليهم أميرا، وإذا توسّم بخدمة الملوك، ربما صار بخدمتهم أميرا لا سيما إذا كان الملك عاميا"[11]. وهي نصيحة ذهبية في أخلاقيات مهنة الطب دوّنها الرازي قبل ألف عام.

 

قدّم لنا ريتشارد وولزر (Rıchard Walzer) أحد أهم مؤرخي الفلسفة العربية رأيه في الرازي قائلا: "إننا نشعر عند قراءة كل سطر كتبه الرازي بأننا أمام فكر عال، ورجل يعرف قدره الخاص دون أن يؤدي به ذلك إلى الغرور، وهو لا يحسب نفسه أدنى مستوى لا في الفلسفة ولا في الطب، وحسب رأيه ليس بالإمكان التفوق على سقراط أو أفلاطون أو أرسطوطاليس، أو أبقراط، أو جالينوس، لكنه لا يتردد في تغيير استنتاجاتهم الفلسفية عندما يشعر بأنه قد تجاوزها معرفة، كما لا يتردد في أن يضيف إلى مجموعة العلوم الطبية المتراكمة ما اكتشفه بنفسه بواسطة أبحاثه وملاحظاته الشخصية، ففي كل مرة عندما كان يدرس مرضا خاصا، كان يبدأ بتلخيص جميع المعطيات التي يستطيع الحصول عليها حول هذا الموضوع من المصادر اليونانية والهندية المتوفرة في الترجمات العربية، ومن أعمال الأطباء العرب المحدثين، ولم يكن يفوته أبدا إضافة رأيه الخاص أو حكمه الشخصي، ولم يكن يعترف بكفاءة أية شخصية استنادا إلى شهرتها فقط"[12].

تطور الطب بعد الرازي في القرن الرابع والخامس الهجري تطورا لافتا، وتمكن العرب من إضافة عناصر جديدة إلى الأدوية والعقاقير مثل العنبر، والكافور، وخيار الشنبر، والقرنفل العطري، والزئبق، والسنالمكي، والمر، كما أدخلوا في الأبنية مستحضرات طبية جديدة منها أنواع الشراب، والحلاب، وماء الورد وما إليها. وكان من أهم الأعمال التجارية بين إيطاليا والشرق الأدنى استيراد العقاقير العربية. وكان المسلمون أول من أنشأ مخازن الأدوية والصيدليات، وهم الذين أنشأوا أول مدرسة للصيدلة، وكتبوا الرسائل العظيمة في علم الأقرباذين (الأدوية).

 

وكان الأطباء المسلمون عظيمي التحمس في دعوتها إلى الاستحمام، وخاصة عند الإصابة بالحميات، وإلى استخدام حمام البخار، ولا يكاد الطب الحديث يزيد شيئا على ما وصفوه من العلاج للجدري والحصبة، وقد استخدموا التخدير بالاستنشاق في بعض العمليات الجراحية[13] كما يصف مؤرخ الحضارة ول ديورانت. وهكذا لم تكد تنقضي القرون الأربعة الأولى من عمر الإسلام حتى رأينا في الحضارة العربية الإسلامية تطور العلوم والمعارف الطبية تطورا مذهلا، في المجالين النظري والعملي على السواء، ولعلنا في تقاريرنا القادمة نقف مع مزيد من مشاهد تطور علم الطب والأدوية في القرون التي تلت عصر الرازي الذي كان نابغة زمنه علما وعملا.

المصدر : الجزيرة