شعار قسم ميدان

هل كان الفاتحون المسلمون مجرمي حرب؟

ميدان - هل كان الفاتحون المسلمون مجرمي حرب؟

اضغط للاستماع
 

              

"إن أذرع القسر عند الدولة الحديثة هي جزء من الأيديولوجية الحاكمة، إن إدراك الناس بأن الجيش والشرطة والقانون ليسوا إلى جانبهم في الواقع وليسوا في الحقيقة تحت تصرفهم أو على استعداد للعمل دفاعا عنهم، يمكن أن يصبح بالنسبة للكثيرين منهم عاملا مثبطا جديا، وشكلا من أشكال إضعاف مقاومتهم بحيث يأخذون في تقبل الوضع الراهن. ومن جهة أخرى فإن القبول غير النقدي بخرافة حياد الدولة، وما يجره ذلك من اعتقاد بضرورة المحافظة على "القانون والنظام" القائمين، يحوّلان الأقسام الأكثر محافظة من السكان إلى أنصار للنظام القائم إلى درجة أن يصبحوا أكثر استعدادا لمساندة ردة يمينية"[1].

    

هذه الرؤية التي يقدمها جاك وودير في كتابه "الجيوش والسياسة" والذي يكشف فلسفة الدولة الحديثة في تكييف العنف الداخلي والخارجي لاستمرار الأيديولوجية الحاكمة، بل يصلح أداة تفسيرية لحركة الإمبراطوريات العالمية في عصر الاحتلال الكولونيالي في القرن التاسع عشر والعشرين وحتى اليوم، كما يفتح لنا بابا من التساؤلات حول حقيقة استخدام مثل هذا الآلية في حركة الفتوح الإسلامية الأولى وهي الشبهة التي طالما رددها عدد من المستشرقين، فهل استخدم المسلمون أدوات العنف في إكراه الناس على أيديولوجيتهم/دينهم؟ وما الإستراتيجية التي استخدمتها حركة الفتوح؟ هل اعتمدت على الجانب العسكري فقط أم استخدمت معه أدوات أخرى لتحقيق الأهداف العسكرية التي خرجت من أجلها هذه الحملات؟!

 

استنفار الأمة

عندما تولى أبو بكر الصديق الخلافة وقامت حروب الردة، عمل على استنفار كل القوى التي أمكن له حشدها حتى انتهت حروب الردة بإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه، واعتمدت تلك الحروب على المهاجرين والأنصار، وعقب استتباب الأمور، وتوحد الجبهة الداخلية في الجزيرة العربية، بدأت على الفور عمليات الفتوح على الجبهتين الشمالية والشرقية، فأرسل الخليفة أبو بكر رسالة إلى اليمن وكافة الأقاليم يستنفرهم للحرب جاء فيها: "لقد استنفرنا المسلمين إلى جهاد الروم بالشام وقد سارعوا إلى ذلك فسارعوا عباد الله"[2].

  

undefined

 

ويبدو أن عملية الاستنفار قد بلغت مداها على الجبهة الشرقية في العراق، ووجد قائدا الجبهة خالد بن الوليد والمثنى بن حارقة أن الطاقة البشرية لديهما لا تستطيع تلبية متطلبات المعركة والقيام بالواجبات المحددة لها، فكتبا إلى الخليفة أبي بكر يلتمسان دعمه، فأجاب الخليفة: "استنفرا من قاتل أهل الردّة وثبت على الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يغزونَّ معكم أحد ارتد حتى أرى رأيي"[3].

 

وهكذا أذن الخليفة أبو بكر باستنفار كل القوى، وحشد كل الإمكانيات مستثنيا أهل الردة تأديبا لهم، وإشعارهم بفداحة الجرم الذي ارتكبوه، وكانت هذه العقوبة رادعة لهم في الواقع وتركت آثارا كبيرة في نفوس المرتدين لا سيما عندما كانوا يشهدون الانتصارات الرائعة التي كان يحققها المسلمون يوما بعد يوم وهم محرومون من شرف الإسهام بها، لكن تغيرت هذه الإستراتيجية في زمن عمر بن الخطاب حين رأى عزم الفرس على حشد كل طاقاتهم ضد المسلمين، وسمح لمن ارتدوا بالقتال مع المسلمين، ولكن لم يسند إليهم أدوارا قيادية وكتب إلى الأقاليم يستنفرها قائلا: "لا تدعوا أحدا له سلاح أو فرس أو نجدة أو رأي إلا انتخبتموه ثم وجهتموه إليَّ"[4].

 

وهكذا أصبح الخليفة عمر يستنفر جميع المقاتلين وبصورة خاصة منهم الفرسان والقادرين على ممارسة أدوار قيادية، ثم انتقل بعد ذلك من الاستنفار الطوعي إلى التجنيد الإجباري فكتب إلى المثنى بن حارثة قائد الفتوح في العراق: "لا تدعوا في ربيعة ولا مضر ولا حلفاؤهم أحدا من أهل النجدات ولا فارسا إلا جلبتموه فإن جاء طائعا وإلا حشرتموه"[5].

  

undefined
 
 
 

وفي أيام الخليفة عمر توسع مجال الخدمة فبدأ بتسجيل المقاتلين وإبدال من يريد ذلك، وتطوع عدد كبير من المسلمين وشكل منهم جيش البدال للتعويض عن خسائر المقاتلين في اليرموك، ثم أصبح التطوع في الجيش والاحتراف فيه يسير جنبا إلى جنب مع نظام التعبئة العامة. ونتيجة لتوسع الفتوحات أيام الأمويين لم يعد أمر الحرب متروكا للعرب وحدهم بل أصبح بإمكان كل من يشهر إسلامه الاشتراك في الحرب إلى جانب المسلمين دونما تمييز، كما أصبح باستطاعة غير المسلمين أن يقاتلوا في صفوف المسلمين[6].

 

يتضح من هذا أن الخليفة كان هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وكان هو الذي يحدد أهمية مسارح العمليات وإعطائها الأفضليات يعاونه في ذلك مجلس الشورى، وكان تحديد مسارح العمليات وإعطائها الأفضليات وتحديد الإمكانات اللازمة لنجاح هذه العمليات وتنسيق التعاون بين مختلف المسارح من أول العوامل التي حققت للمسلمين انتصاراتهم في معاركهم الحاسمة.

 

فعندما تولى عثمان بن عفان الخلافة كانت القوات الإسلامية قد أحاطت بالهضبة الإيرانية، وكانت الجبهة الشمالية قد استقرت وبقي خطر بيزنطة يتهددها، فتم تركيز الجهد على محور العمليات الغربية مع التركيز على بناء القوة البحرية بهدف تأمين الاتصال بين الدول الإسلامية الواقعة على البحر من جهة وبهدف السيطرة على البحر وحرمان بيزنطة من مجالها الحيوي وقدرتها القتالية، وانتهى الأمر إلى الأمويين وكانت عملياتهم باستمرار تسير وفق مخطط الأفضلية لمسارح العمليات، فعندما أغارت بيزنطة على حدود الشام ولم يكن باستطاعة معاوية التفرغ لها، عقد صلحا مع بيزنطة وأعطى الأفضلية للمقاومات التي هددت حكمه، وعندما فرغ من ذلك تحول إلى الجبهة الشمالية فقاد الصوائف والشواتي ونظمها حتى وصلت في بعض غزواتها القسطنطينية وحاصرتها فترة طويلة، وعندما تمردت إيران أعطيت الأفضلية الأولى، وتم التركيز أيام عبد الملك بن مروان حتى وصلت القوات حدود الصين واحتلت أجزاء كبيرة من شمال آسيا، وعندما استقرت الأمور أعطيت الجبهة الغربية الأفضلية فكانت عمليات فتح إسبانيا[7].

  

undefined

 

وهكذا كانت العمليات العسكرية تقوم على الخطة العامة التي كان يضعها القائد الأعلى للقوات المسلحة وهو الخليفة في المدينة المنورة، وتُعطى في المقابل حرية المناورة والحركة وترتيب العمليات للقائد الميداني، فمثلا حين أراد أبو بكر الصديق فتح العراق، رسم خطته أن يُطْبِق على الجيش الفارسي بفكي كماشة بجيشين، جيش من أسفله وجيش من أعلاه بحيث يلتقيان في الحيرة، فكتب إلى خالد بن الوليد وهو في اليمامة شرق الجزيرة العربية بعد أن فرغ من حرب مسيلمة الكذاب وبني حنيفة: "إن الله فتح عليك، فسِرْ إلى العراق، وابدأ بفرج (ميناء) أهل السند والهند، وهي الأبلة، حتى تلقى عياضا (عياض بن غنم) وتألف أهل فارس ومن كان في ملكهم".

 

وكتب في المقابل لعياض بن غنم وهو في منطقة العراض بين النباج والحجاز وهو يحارب المرتدين أن "سِر حتى تأتي الُمصيّخ فابدأ بها ثم ادخل العراق من أعلاها حتى تلقى خالدا، ثم استبقا إلى الحيرة". كانت خطة أبي بكر أن يضع قوات الفرس غربي نهر الفرات بين فكي كماشة الجيش الإسلامي، بحيث تواجه هذه القوات أحد الجيشين وهي مهددة من خلفها بالجيش الثاني، مما يخلق ارتباكا للقوات المعادية، وقد حققت هذه الخطة نجاحا باهرا بقيادة خالد بن الوليد وعياض بن غنم رغم رجوع أعداد كثيرة من القوات ممن سُمح لهم بذلك[8].

 

أخلاق الجيش الإسلامي

كان دخول القوات الإسلامية إلى البلدان المفتوحة ذا هدف واضح لدى جميع الجنود والقادة على السواء، هذا الهدف هو نشر الإسلام، ونزع الظلم والاسترقاق عن الشعوب التي كانت تخضع للاحتلالين الساساني والبيزنطي على السواء، فحين سأل رستم قائد الجيش الفارسي ربعي بن عامر عن هدف المسلمين من الحرب مع الفرس، قال له ربعي: "الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"[9].

 

في تلك اللحظة كان الخليفة عمر بن الخطاب قد أرسل بتوقف حركة الفتوح في الشام لاستجلاء الموقف على الجبهة العراقية أمام الجيش الفارسي الذي يتعدى المائتي ألف مقاتل، كان المسلمون في الشام قد فتحوا دمشق وحمص وغيرها، وكانوا يتجهون لفتح حلب، وقد التزم قائد الجبهة أبو عبيدة بن الجراح بأمر الخليفة عمر، وقرر ومجلس الشورى الحربي في الجبهة الشامية الانسحاب من حمص التي فتحها صلحا على جزية كان يدفعها أهلها.

    

لم يقف أبو عبيدة عند هذا الحد، بل إنه قرر رد الأموال التي أخذها من أهل حمص؛ لأن من مقتضيات دفع الجزية الدفاع عن غير المسلمين، والآن ينسحب المسلمون من المدينة، وحين أعاد الأموال اندهش أهل حمص من هذه الأخلاق التي لم يتعودوا عليها في ظل الاحتلال الروماني البيزنطي لبلادهم، وقالوا لأبي عبيدة: "ردكم الله إلينا، ولعن الذين كانوا يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم ما ردوا علينا بل غصبونا، وأخذوا ما قدروا عليه من أموالنا، لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم، والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم"[10]!

 

حيث قدم توماس أرنولد -وهو واحد من أهم المستشرقين الأوروبيين- في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" شرحا وافيا لآليات عمل الجيوش الإسلامية مع الوظيفة الأهم التي أُنيطت بها وهي الدعوة إلى الدين الجديد، وقد اعترف أرنولد أن هذه القوات التزمت التزاما تاما بالعقيدة الأخلاقية والقتالية التي كانت تستمدها من الإسلام ووصايا الخلفاء وقادتهم من كبار الصحابة، يقول: "ومن هذه الأمثلة التي قدمناها عن ذلك التسامح الذي بسطه المسلمون الظافرون إلى العرب المسيحيين في القرن الأول من الهجرة، واستمر في الأجيال المتعاقبة، نستطيع أن نستخلص بحق أن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك عن اختيار وإرادة حرة"[11].

 

ويتمادى أرنولد في التأكيد على أخلاقية هذه الجيوش الإسلامية وأثر هذه الأخلاق على قوة اللُحمة بين المسيحيين والمسلمين حتى بعد ألف سنة أو أكثر على هذه الفتوح يقول: "إن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح، يقول لاريارد: إنه صادف مخيما من العرب المسيحيين في مدينة الكرك، شرقي البحر الميت، لا يختلفون عن العرب المسلمين بحال ما سواء في الزي أو في العادات. وقد أخبر رُهبان دير طور سينا الرحال بُركارت أنه كان لا يزال هناك في القرن الماضي بعض أسر من البدو المسيحيين الذين لم يدخلوا الإسلام، وأن آخرهم كانت امرأة عجوزا ماتت سنة 1750م، ودُفنت بحديقة الدير"[12].

   

"توماس أرنولد" من أهم المستشرقين الأوروبيين (مواقع التواصل )

 

هذه الحقيقة ذاتها يؤكدها مؤرخ الحضارة "ول ديورانت" الذي يقول: "خطة التسامح الديني التي كان ينتهجها المسلمون الأولون، أو بسبب هذه الخطة، اعتنق الدين الجديد معظم المسيحيين، وجميع الزرادشتيين، والوثنيين إلا عددا قليلا جدا منهم، وكثيرون من اليهود في آسية، ومصر وشمالي أفريقية. فقد كان من مصلحتهم المالية أن يكونوا على دين الطبقة الحاكمة، وكان في وسع أسرى الحروب أن ينجوا من الرق إذا نطقوا بالشهادتين ورضوا بالختان. واتخذ غير المسلمين على مر الزمن اللغة العربية لسانا لهم، ولبسوا الثياب العربية، ثم انتهى الأمر باتباعهم شريعة القرآن واعتناق الإسلام.

 

وحيث عجزت الهلينية عن أن تثبت قواعدها بعد سيادة دامت ألف عام، وحيث تركت الجيوش الرومانية الآلهة الوطنية ولم تغلبها على أمرها، وفي البلاد التي نشأت فيها مذاهب مسيحية خارجة على مذهب الدولة البيزنطية الرسمي، في هذه الأقاليم كلها انتشرت العقائد والعبادات الإسلامية، وآمن السكان بالدين الجديد وأخلصوا له، واستمسكوا بأصوله إخلاصا واستمساكا أنساهم بعد وقت قصير آلهتهم القدامى، واستحوذ الدين الإسلامي على قلوب مئات الشعوب في البلاد الممتدة من الصين، وأندونيسيا، والهند، إلى فارس، والشام، وجزيرة العرب، ومصر وإلى مراكش، والأندلس؛ وتملك خيالهم، وسيطر على أخلاقهم، وصاغ حياتهم، وبعث فيهم آمالا تخفف عنهم بؤس الحياة ومتاعبها، وأوحى إليهم العزة والأنفة"[13].

 

كان هذا التسامح وإقبال الناس على الإسلام تجليا لفلسفة الفتوحات الإسلامية آنذاك، ففي خارج الجزيرة العربية لم يعقد المسلمون الفاتحون صلحا مع الساسانيين والروم؛ لأن الأولين فرّوا عن أراضيهم، والآخرين كانوا غرباء، وما جاء الإسلام إلا ليخلص الأرض من مستغلّيها ومستعمريها، فلم يرَ أن يمد يده بالصلح إلى هؤلاء، فلا شأن لهم، وإنما الشأن لأهل البلاد الأصلاء، لذا عقد المسلمون صلحا مع أهل المدن التي فتحت في الشام، ومع القبط في مصر، ولم يعقد صلحا مع الرومان، وكان هذا سببا آخر في إقبال أهل البلاد على الإسلام[14].

 

undefined

 

 تلك الحقيقة رآها المستشرق الفرنسي رينان، ونقلها عنه المؤرخ والفيلسوف جوستاف لوبون، حين قال: "لم يظهر قط فاتحون بالغوا في التسامح والحلم نحو المغلوبين كما صنع العرب، وليس يطعن في ذلك الأمر بشد الوثاق على الكفار بعد إثخانهم الذي أوصى به القرآن؛ إذ لا يُراد منه الإرهاق، وإنما إحكام شروط الصلح، ولا يكلف فوق طاقته عدو مقهور، وقد يظهر ذلك غير مقبول لأول وهلة، ولكن من يرى الدعوة للإسلام أو الجزية التي تسبق القتال، ويرى الحث على تسكين الهياج ومسالمة المحايدين، ويرى الأوامر المتكررة في القرآن بالوفاء بالعهود وعدم نقضها، ويرى الأمر بالجنوح إلى السلم فور جنوح العدو له، ويرى الوصايا بالتزام جانبي الاعتدال والتخفيف من شروط الصلح، كل من يرى ذلك تذهب عنه أول وهلة، ويستيقن أنه ليس أعطف على السلام من الإسلام"[15].

 

مما سبق نرى أن مدرسة القوات المسلحة في العصرين النبوي والراشدي قامت على قاعدتين أساسيتين، الأولى الالتزام بالأخلاق وأهداف الفتوحات وعلى رأسها رفع الظلم الحاصل عن أهل البلاد من المدنيين المحتلين من الفرس والروم، وتخييرهم بين الإسلام أو دفع الجزية بالحصول على حق الدفاع والعيش المشترك، وهو ما كشفه المستشرقون والمؤرخون المنصفون من الغربيين، والقاعدة الثانية هي التطور العسكري في الجانب الميداني الذي أفرز هذا النجاح الباهر على الجبهتين العراقية والشامية ثم المصرية على السواء، وهو نجاح يكشف التطور المذهل لفن الحرب الإسلامي، ولأخلاقيته في آن واحد، مما يصعب تكرره في سياق حركة التاريخ.

المصدر : الجزيرة