شعار قسم ميدان

الكواكبي.. فيلسوف الحرية الذي تجاهله العرب

ميدان - الكواكبي
اضغط للاستماع

   

"صريع الحرية"، ربما يكون هذا الوصف هو الأليق بخاتمة حياة عبد الرحمن الكواكبي، أول من وقف على أصل الداء السياسي في العالم الإسلامي في عصوره الحديثة، ولم يكن وقوف الرجل أمام هذه الحقيقة بقلمه فقط، وإنما كان بمواقفه وآرائه التي عبرت عن شجاعة نادرة في وجه الاستبداد والظلم الذي رآه في موطنه حلب، وقد كلّفه ذلك مناصبه وأمواله وهجرته من وطنه ثم في نهاية المطاف حياته، فمن هو الكواكبي؟ وكيف بحث عن الحرية وسار مدافعا عنها طوال حياته؟!

 

حين تفتحت عيناه على الاستبداد!

في عام 1854م ولد عبد الرحمن بن أحمد الكواكبي في مدينة حلب لأسرة عريقة تعود أصولها إلى النسب الهاشمي من جهة الأب والأم، تربى الكواكبي في بيت علم وأدب، فوالده كان مدرسا وشيخا للمدرسة الكواكبية في حلب، وحين بلغ الكواكبي العام السادس من عمره تُوفيت والدته، فتولت خالته السيدة صفية في مدينة أنطاكية لمدة ثلاث سنوات رعايته وتأديبه، وهنالك تعلم الكواكبي بعض اللغة التركية وقد استكمل تعلمها في حلب فيما بعد، ثم أضاف إليها تعلم الفارسية فضلا عن اللغة العربية التي بلغ فيها المستوى الذي يصبو إليه رواد الفكر العربي ونابغوه.

 

حين أتم الكواكبي دراسته في الحادية والعشرين من عمره انغمس في الحياة العملية، وتنوعّت أعماله، وتباينت اتجاهاته، فمن محرر لجريدة رسمية، إلى رئيس كُتّاب المحكمة الشرعية، إلى قاضٍ شرعي في بلدة من البلاد السورية، إلى رئيس البلدية، ثم هو بين الحين والآخر كان يعتزل الوظائف الحكومية فينشئ جريدة جديدة يصدح فيها بما يراه حقا وهي جريدة "الشهباء" صوت حلب، ثم حين تُغلق رغما عنه، يشتغل بالأعمال التجارية، أو يساهم في عدد من المشروعات العمرانية، ومن كل ذلك "يستفيد خبرة وتجربة بالحياة، وفي كل الأعمال الحكومية والحرة يصطدم بنظام الدولة، وباستبداد الحكام، وفساد رجال الإدارة، فينازلهم ويُنازلونه، ويحاربهم ويحاربونه، وينتصر عليهم حينا وينتصرون عليه حينا"[1].

   undefined

 

كان الكواكبي يمقت الفساد البيروقراطي والإداري في الدولة العثمانية التي كان يحكمها حينذاك السلطان عبد الحميد الثاني، ولأجل ذلك عكف على مقاومة هذه الحالة من انعدام التنوع في الآراء، ولمواقفه فقد وَثَق فيه علية القوم من الحلبيين، فكانوا يستشيرونه ويستفيدون من آرائه، وسرعان ما واجه الكواكبي الدسائس والمؤامرات من رجال الحكم وعلى رأسهم الوالي العثماني لمدينة حلب آنذاك عارف باشا، فأرسل إلى رؤسائه في عاصمة الدولة إسطنبول، ولم يكتف عارف باشا بهذا، بل زوّر عليه أوراقا يتهمه فيها بأنه يكاتب دولة أجنبية لتسليم حلب، وحبسه وطالب محاكمته، فبذل الكواكبي ومؤيدوه جهدا كبيرا ليُحاكم في ولاية غير حلب، بعيدا عن تأثير "عارف باشا"، وبالفعل حُوكم في ولاية بيروت، وأعلنت براءته، ولأجل هذه الفضيحة وخيانة الوالي صدر القرار بعزله عن ولايته.

  

اقترب الكواكبي من آلام الناس في حلب، وأعلن رفضه المظالم التي وقعت عليه وعليهم، فرفض قرار المراقبة والتضييق اللذين فرضا عليه سنة 1886م، فاستقال من مأمورية الإجراء، ومحكمة التجارة ليتفرّغ لمهنة قلّما امتهنها قبله أحد من المناضلين في تاريخ الشعوب، فيحرر ظلامات الناس وشكاواهم ضد الموظفين والولاة العثمانيين، ويصبح "عرضحالجي" للحرية يؤمه الجميع، ويصل الكواكبي من خلال هذا الطريق إلى معرفة أسرار حياة الناس، وما تحفل به من شقاء ومهانة وقصص دونها كل خيال، كما يصل عن هذا الطريق كذلك إلى قلوب الناس، وللحق أوفدت الدولة العثمانية أحد كبار الموظفين، رئيس دائرة المحاكمات في شورى الدولة، للتحقيق في هذه المظالم والشكاوى التي حرّرها الكواكبي للناس ضد الولاة والموظفين العثمانيين[2].

 

الكواكبي في مواجهة الصيّادي!

لم يكن عارف باشا أول المناوئين للكواكبي ولا آخرهم، فقد كان أشد هؤلاء الخصوم في مواجهة الكواكبي، وأقواهم تأثيرا على السلطان عبد الحميد الثاني الشيخ أبو الهدى الصيادي الحلبي، كان أبو الهدى متغلبا على عقل السلطان عبد الحميد، فقد ربط نسبه بالنسب الهاشمي العلوي، وكان ينتسب إلى الطريقة الرفاعية، لم يكن يعبأ بالمال يأتيه على كثرته فينفقه ويستدين؛ "لأن عز الجاه والسلطان عنده أقوى من من عز المال"[3]

 

undefined 

 

كان الصيادي حلبيا كما الكواكبي، يمقته الكواكبي لكونه ينسب نفسه إلى الهاشميين ولم يكن الكواكبي يراه من أهل البيت، وأيضا، وهذا هو الأهم والأخطر، لأن الصيادي كان السبب الأبرز في انتشار الفساد الإداري والسياسي في جسد الدولة العثمانية، فقد كان له أعين تأتي له بكل الأخبار، فيستغلها أمهر استغلال، لم يقف عند الدين والولاية والصوفية، بل مد نفوذه إلى الشؤون السياسية والإدارية والعسكرية، يحلم فلا حد لحلمه، ويبطش فلا حدّ لبطشه، سُمي "مستشار الملك" و"حامي العثمانيين" و"سيد العرب"، تمكن من استمالة كثير من الأمراء والوجهاء والأعيان والعلماء فكانوا عونا له على ما أراد، يبطش بهم حين يريد البطش، ويؤلف بهم الكتب حين يريد شهرة العلم، وينظّم بهم القصائد حين يريد الأدب والشعر.

 

وأخطر من ذلك، كان الصيادي يتحكم في مناصب القُضاة والمفتين، بل وفي مناصب الولاة والرؤساء فيسندها إلى أصهاره وأقربائه، ويذهب هؤلاء إلى مراكزهم وهم يعلمون ما تفرضه الوظيفة عليهم، وأولها تعظيم شأن المحسن إليهم، والتشهير بمن ينافسهم وينافسونه من العلماء الآخرين، وكما كان الصيادي مناوئا لجمال الدين الأفغاني مؤلبا عليه السلطان العثماني تألب كذلك على الكواكبي.

لذا، كان الكواكبي ينعى على عصره أن يرتفع بالجهلاء إلى مساندة الأئمة العلماء، و"لا بضاعة لهم من العلم والورع إلا بضاعة الحيلة والدسية، وصناعة الزلفى، والتقرب إلى السلاطين والأمراء، وقد ينقلون مناصبهم بالوراثة إلى ذريتهم فيصفون في المهد بصفات الجهابذة والأولياء"[4].

 

كان أبو الهدى الصيادي قد اغتصب من أسرة الكواكبي "نقابة الأشراف" في حلب، وخاض الكواكبي أمامه معركة ضارية وقف بجواره فيها الرأي العام الحلبي، صابا جام غضبه على الصيادي الذي أصبح في نظر الجميع رمزا للرجعية والاتجار بالدين، بل لقد رفض الناس تصديق صحة نسب الصيادي لأهل البيت، بعد أن رفض الكواكبي التصديق عليه[5].

 

الهجرة..

undefined

 

كان من جراء مناوءة الكواكبي لأبي الهدى الصيادي خسارته معظم تجارته وكانت بألوف الجنيهات، فاحتمل ذلك بنفس قوية، بل تأكد لديه شعوره بفساد حال المسلمين، وتخصيص جزء كبير من حياته في تعرف أحوالهم في جميع أقطار الأرض، وتشخيص أمراضهم، وتلمُّس العلاج لهم، فعكف على مطالعة تاريخهم في ماضيهم وحاضرهم، وما كتبه الكتاب المحدثون في ذلك في الكتب والمجلات والجرائد، وأحوالهم في الدولة العثمانية، ثم رحلته إلى كثير من البلدان الإسلامية الأخرى حتى وصل إلى أفريقيا الشرقية، وآسيا الغربية، ودخل بلاد الغرب وجال فيها، واجتمع برؤساء قبائلها، ونزل الهند وعرف حالها، وفي كل بلد ينزلها يدرس حالتها الاجتماعية والاقتصادية والزراعية، ونوع تربتها، وما فيها من معادن ونحو ذلك، دراسة دقيقة عميقة، ونزل مصر وأقام بها، وكان في نيته رحلة أخرى إلى بلاد المغرب يتم فيها دراسته، لكن عاجلته المنية[6].

  

لقي الكواكبي في مصر متنفسا لأفكاره وآرائه، وزادا جديدا لعبقريته، فلقد وجد بها كذلك مجتمعا خصبا من المفكرين والمثقفين والثوار مثل: رشيد رضا، ومحمد كرد علي، وإبراهيم سليم النجار، وطاهر الجزائري، وعبد القادر المغربي، ورفيق العظيم، وغيرهم الكثير من الصحفيين والكتاب والمفكرين الذين تتلمذوا على يد جمال الدين الأفغاني، والذين كان يلتقي بهم الكواكبي أو بكوكبة منهم كل مساء في مقهى "سبلندد بار" في القاهرة، وآثر الكواكبي أن يكون سكناه قرب الأزهر الشريف في شارع الإمام الحسين في قلب القاهرة القديمة.

 

نتيجة التناقضات السياسية بين الدولة العثمانية ومصر آنذاك، كان الخديو عباس حلمي قد قرّب إليه الكواكبي، وتكفل بمعاشه الشهري في القاهرة، وللحق فقد عُرف عن عباس حلمي ميله إلى الحركة الوطنية والثقافية وبغضه للاحتلال الإنجليزي، لكن فيما يبدو فإن الحرية التي تنعّم بها الكواكبي في القاهرة، والمساحة التي أُعطيت له ليبثّ أفكاره التي كانت موجّهة في المقام الأول لإدارة السلطان عبد الحميد، والإشاعات التي حامت حول الدعوة العربية لإقامة خلافة تكون في بلاد العرب، ويكون الخليفة عربيا، ولربما كان الخديو عباس حلمي، كل هذا كان سببا قويا في عداء العثمانيين له، واعتبارهم الكواكبي عدوا مهددا لكيان الدولة العثمانية.

 

الجريمة.. مقتل الكواكبي!

 

تروي بعض المصادر التاريخية أن العثمانيين أرسلوا إلى القاهرة أحد عملائهم حيث دسّ السم للكواكبي فأدركته الوفاة الفجائية في مساء الخميس 6 ربيع الأول 1320هـ/ 14 يونيو/حزيران 1902م، فأصيب المجتمع الفكري في مصر بصدمة بالغة، وأمر الخديو عباس حلمي بدفن الكواكبي على حسابه في قرافة القاهرة بجبل المقطم، وأقام له صديقه الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد مأتما استمر ثلاثة أيام، وقد نعاه كبار علماء وأدباء وشعراء مصر[7]. لقد تأثر عدد كبير من معاصري عبد الرحمن الكواكبي بالرجل ومكانته وعلومه وجهاده وسعيه، ويتعجب الشيخ محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار، وأشهر تلاميذ الإمام محمد عبده، من الكواكبي وجهوده الفكرية الجبارة، وسيرته الذاتية الفذة، فيقول في نعيه:

  

"إن من ينظر في هذه الترجمة الرسمية ولم يكن عارفا بالمترجم ولا بسيره في هذه الوظائف العلمية الأدبية، الإدارية القلمية، الحقوقية التجارية، الزراعية المالية يقول: إن صاحبها من أوساط عموم الناس لا من أفراد الرجال الذين يعدون من علماء الاجتماع وأركان العمران، ومهذبي الأمم، ولكن من يعلم أنه في كل عمل منها آية بينة في إتقان العمل، وحكمة التصرف، يحار كيف يحسن رجل هذه الأعمال المتباينة. وإذا وقف بعد ذلك على بعض سيرته في العزيمة وقوة الإرادة وعلِم ما كانت تسمو إليه نفسه، ويرمي إليه فكره، وقرأ بعض ما جادت به قريحته الوقادة، وفكرته النقادة، علم أنه من أفراد الزمان، وأدرك ماذا كان يرجى منه لو ساعد الزمان والمكان، وإننا نلم بشيء مما وقفنا عليه من سيرته في مدة صحبتنا له في هاتين السنتين اللتين أقامهما في مصر"[8].

  

يرى بعض النقاد والباحثين في تراث الكواكبي أن هجره المناصبَ، وسعيه للانتقال بين الأقطار العربية والإسلامية، لا سيما مصر التي جاء إليها أكثر من زيارة، واستقراره فيها في أخريات عمره، إنما عبّر عن رهافة إحساسه بالحرية، وعشقه الذي لم يكن يُوصف لها، وأن الرجل كان نموذجا طيبا للإنسان الذي يرفض الظلم، ويأبى أن يعايشه، فضلا عن أن يعيش تحت نيره؛ لأن في معايشته ظلما للنفس، فضلا عن ظلم الآخرين[9].

  

وكان العام 1899م بداية دخول الكواكبي القاهرة مهاجرا من حلب إثر التضييق العثماني عليه، والذي وقف خلفه عدوه الأكبر أبو الهدى الصيادي الذي كان مقربا من السلطان عبد الحميد الثاني، وفي القاهرة بدأ الكواكبي في كتابة مقالاته في جريدة المؤيد عن الاستبداد وعن جمعية أم القرى، ومجموع مقالات الجانبين جمعهما في كتابين عُرفا فيما بعد باسم "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" و"أم القرى"، وفي الكتاب الأول يناقش مسألة الاستبداد السياسي عند السلطة، وفي الكتاب الثاني يتناول الفساد السياسي والفكري عند الشعوب المسلمة[10]، وهما الكتابان اللذان سنقف معهما في تقريرنا القادم، لا سيما رؤية الكواكبي للاستبداد وأثره السلبي في الأمة، ولا يزال هذا الكتاب أساسا قويا ومهما لفهم طبيعة علم الاجتماع السياسي، وأصل الداء العُضال في منطقتنا العربية.[1]

المصدر : الجزيرة