شعار قسم ميدان

زمن الاستبداد.. حين واجه الكواكبي العثمانيين وحيدا

midan - الكواكبي
اضغط للاستماع

   

"أسير الاستبداد يعيش خاملا خامدًا، ضائع القصد، حائرًا لا يدري كيف يُميت ساعاته وأوقاته، ويدرج أيامه وأعوامه، كأنه حريص على بلوغ أجله؛ ليستتر تحت التراب"!

(الكواكبي "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد")

حين ضاقت الشام وحلب بعبد الرحمن الكواكبي، وواجه هجوما وسجنا من المتآمرين عليه، وخسارة لأمواله وتجارته، ورأى في مصر متنفسا للحرية، وأنها الأقدر على استيعاب أفكاره، قرر الهجرة إليها، وكان أول دخوله مصر في سنة 1899م وهو في السابعة والأربعين من عمره، وحين دخل مصر لم يضع الكواكبي أي وقت فقد شرع  الرجل من فوره في نشر أفكاره في مجلة المؤيد المصرية، بالحديث عن "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد".

 

في القاهرة استفاد الكواكبي من نشاطها الفكري والثقافي، ذلك النشاط الذي تمتع بقدر من الحرية سمح به المحتل البريطاني، وعمل على نشره الخديو عباس حلمي الثاني الذي كان يميل إلى الحركة الوطنية، والاستقلال الفكري بطبعه، ثم استفاد الكواكبي من نقاشاته مع الشباب المصريين الذين طرحوا عليه عددا من الأسئلة أفادته حين أخرج الطبعة الثانية من كتابه "طبائع الاستبداد" إلى النور، يقول:

"في زيارتي هذه لمصر نشرت في أشهر جرائدها (المؤيد لصاحبها الشيخ علي يوسف) بعض مقالات سياسية تحت عنوانات: الاستبداد، ما هو الاستبداد؟ وما تأثيره على الدين؟ على العلم؟ على التربية؟ على الأخلاق؟ على المجد؟ على المال؟ إلى غير ذلك.. ثم في زيارتي مصر ثانية أجبت تكليف بعض الشبيبة، فوسّعت تلك المباحث خصوصا في الاجتماعيات، كالتربية والأخلاق، وأضفت إليها طرائق التخلص من الاستبداد، ونشرت ذلك في كتاب سميته (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) وجعلته هدية مني للناشئة العربية المباركة الأبية المعقودة آمال الأمة بين نواصيهم"[1].

كتاب طبائع الاستبداد

كانت "المسألة الاجتماعية في الشرق" حديث الساعة آنذاك في الأقطار العربية وفي القلب منها مصر، لماذا تقدم الغرب ولماذا تتأخر الدولة العثمانية وأقطارها؟ ما سبب هذا الداء والشقاء؟ وما السبيل للعلاج؟ ما الذي أوصلنا للانحطاط؟ وكيف نخرج منه؟

 

عايش الكواكبي هذه الإشكاليات في الساحة الثقافية المصرية، وهي الإشكاليات التي كان يتردد صداها في أقطار العالم الإسلامي، يقول: "وجدتُ أفكار سُراة القوم في مصر كما هي في سائر الشرق خائضة في عباب البحث في المسألة الكبرى، أعني المسألة الاجتماعية في الشرق عموما وفي المسلمين خصوصا، إنما هم كسائر الباحثين كلٌّ يذهب مذهبًا في سبب الانحطاط وفي ما هو الدواء، وحيث إني قد تمخّض عندي أن أصل هذا الداء هو الاستبداد السياسي، ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية، فقد استقر فكري على ذلك بعد بحث ثلاثين عامًا"[2].

 

الاستبداد.. أصل الداء والبلاء

ثلاثون عامًأ قضاها الكواكبي متأملاً في أصل الداء العضال الذي أصاب العالم الإسلامي بالخمول والتراجع أمام عدو غربي لم يحتل الأراضي الإسلامية من الصين إلى المغرب، ومن القوقاز إلى أفريقيا فقط، بل سبق بعلومه ومعارفه وأفكاره في ميداني العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية على السواء، كان هما ثقيلا على كاهل الكواكبي حين رأى هذا التراجع، وفوق ذلك عانى الرجل من انتشار المحسوبية والفساد الإداري والاتجار بالدين في كيان الدولة وولاياتها لاسيما في موطنه حلب.

الاستبداد

كان هذا في الشرق، على حين أن الغربيين بدأوا بعد ابن خلدون يبحثون في المجتمعات بحثًأ واسعا يتعرفون علل الجماعات وأمراضها وأنواع الحكومات ومزايا كل شكل وعيوبه، ويتحررون من القيود، ولا يعبئون بالتضحيات في سبيل الحريات، وقد اقتبس الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد" كثيرا من أقوال عالم الاجتماع الإيطالي ألفيري، وهو كاتب عاش في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي، وقد درس كتب فولتير وروسّو ومنتسكيو من كبار أدباء وفلاسفة عصر النهضة في فرنسا، وتشبع بآرائهم التي كانت تدعو إلى الحرية، وتكره الاستبداد أشد الكره، ومنه تشرب الكواكبي فلسفة الحرية، على أنه هضمها وعدّلها بما يناسب المجتمع الشرقي الإسلامي، وزاد عليها من تجاربه وآرائه[3].

 

 

يدور كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" حول تعريف الاستبداد وهو يراه "صفة للحكومة المطلقة العنان، التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء، بلا خشية حساب ولا عقاب". فالمستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق ومطالبتها به.

 

والمستبد يود أن تكون رعيته بقرا تُحلب، وكلابا تتذلل وتتملّق، وعلى الرعية أن تدرك ذلك فتعرف مقامها منه، هل خُلقت خادمة له، أو هي جاءت به ليخدمها فاستخدمها؟ بحث الكواكبي بحثا مستفيضًا في علاقة الاستبداد بالدين، ونقل على بعض علماء الاجتماع الغربيين آراءهم في أن الاستبداد في السياسة منبثق عن الاستبداد في الدين أو مساير له، كما كان في العصور الأوروبية الوسطى، فهو يرى أن المستبد يتبع سياسة القساوسة ورجال الدين القديمة، فالسياسيون بحسب وصفه "يسترهبون الناس بالتعالي الشخصي والتشامخ الحسي، ويذلونهم بالقهر والقوة وسلب الأموال حتى يجعلوهم خاضعين لهم، عاملين لأجلهم، يتمتعون بهم كأنهم نوع من الأنعام التي يشربون ألبانها، ويأكلون لحومها، ويركبون ظهورها، وبها يتفاخرون"[4].

رأى الكواكبي أن العامل الأهم في الوقوف ضد الاستبداد يتمثل في نشر الوعي القائم على حرية الكلمة وحرية البحث

لاحظ الكواكبي أن المجتمعات الغربية ليست مثالية مطلقة وأن بها لوثة من الاستبداد، بيد أنه رآه استبدادا خفيفا لا يُقارن بالاستبداد في الشرق، فيلاحظ أن المستبدين الغربيين لا يمنعون العلم إجمالاً، وإنما يحرصون على عدم إدراك الناس أن الحرية أفضل من الحياة، فهم يحاربون تعليم الناس حقوقهم حتى لا ينقلبوا على ملوكهم مُطالبين بها، لكن المستبدين الشرقيين يحاربون العلم جملة وتفصيلا، فالمستبدون في الشرق عثمانيهم وعربيهم ترتجف أفئدتهم هواء وخوفًا "من صولة العلم، كأن العلم نار وأجسامهم بارود"[5].

 

رأى الكواكبي كذلك أن العامل الأهم في الوقوف ضد الاستبداد يتمثل في نشر الوعي القائم على حرية الكلمة وحرية البحث، يقول: "قد أجمع الحكماء على أن أهم ما يجب عمله على الآخذين بيد الأمم الذين منهم ثمة مروءة وشرارة حمية، الذين يعرفون ما هي وظيفتهم بإزاء الإنسانية أن يسعوا في رفع الضغط عن العقول؛ لينطلق سبيلها في النمو فتمزق غيوم الأوهام التي تمطر المخاوف"[6].

 

بث الكواكبي في كتابه جل أفكاره التي ظلت حبيسة في أدراج نفسه خوفا من انتقام العثمانيين في الشام، وهي الأفكار التي لم تقف عند المشكلة مبديا فيها الكواكبي أسبابها ومنطلقاتها وآثارها الوخيمة على الدين والأخلاق والسياسة والاجتماع والمال والمجد وكل ما يمس كيان الناس في حياتهم الشخصية والاجتماعية من سلبيات من جراء الاستبداد وفقط، وإنما رأينا في كتابه رجلاً باحثا عن الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية بين عموم الناس، داعيا إليها، فهو يتأمل في تاريخنا بحسب رأيه فلا يجد إلا بضعة حكّام في طوال هذا التاريخ الإسلامي هم الذين أنصفوا الرعية، وحققوا المساواة والعدالة.

الاستبداد

يقول: "وأظهر (الإسلام) للوجود حكومة كحكومة الخلفاء الراشدين التي لم يسمح الزمان بمثال لها بين البشر، حتى ولم يخلف فيها بين المسلمين أنفسهم خلف؛ إلا بعض شواذ كعمر بن عبد العزيز والمهتدي العباسي ونور الدين الشهيد، فإن هؤلاء الخلفاء الراشدين فهموا معنى ومغزى القرآن النازل بلغتهم وعملوا به واتخذوه إماما فأنشأوا حكومة قضت بالتساوي حتى بينهم أنفسهم وبين فقراء الأمة في نعيم الحياة وشظفها، وأحدثوا في المسلمين عواطف أخوة وروابط هيئة اجتماعية اشتراكية لا تكاد توجد بين أشقاء يعيشون بإعالة أب واحد وفي حضانة أم واحدة"[7].

 

ولعل دعوة الكواكبي إلى العدالة الاجتماعية والاشتراكية هي التي جعلت بعض الباحثين يصفونه بأنه من أوائل من دعوا إلى الاشتراكية في الفكر العربي المعاصر في فاتحة القرن العشرين، على أن ما يهمنا في كتاب الكواكبي تلك النظرات الثاقبة التي أبداها مع كل أثر سيء من آثار الاستبداد، وهو في هذه الآثار لا يبدي مجرد رأي أو شكوى، وإنما يبدو رجلا على دراية بعلوم الاجتماع والأخلاق، ينفذ إلى الأسباب الكامنة من وراء ستار الظلم وغياب العدل، رأى على سبيل المثال أن المجتمعات والأفراد الذين ينشأون في ظل من الاستبداد يكونون كالأسرى، ويفقدون الثقة في أنفسهم وفي الآخرين، فينشأ المجتمع ضعيفا مفككا مهملا شئونه "شاعرًا بفتور همته، ونقص مروءته، ويبقى طول عمره جاهلاً مورد هذا الخلل"[8].

 

وعلى هذا المنوال يناقش الكواكبي في كتابه إحدى أهم وأعظم العلل التي ابتليت بها المجتمعات العربية في قرونها الأخيرة. قيمة كتابه تلك وأهميته الفكرية دفعت مفكرا كبيرا كالعقاد بعدم رؤية منهج الكواكبي باعتباره رؤية أو مذهب فلسفي للإصلاح، وإنما "جاوزت المذهب إلى القرار الذي يوضع موضع التنفيذ ولا يعوقه عنه إلا أن يتولاه العاملون"[9].

 

"أم القرى" .. مؤتمر الأمة في مواجهة الاستبداد

كتاب

في كتابه الثاني والمهم "أم القرى" والذي صاغه الكواكبي في قالب أدبي حيث جعل أبطاله القادمون من أقطار العالم الإسلامي المختلفة يلتقون في مكة المكرمة قُبيل موسم للحج، يناقشون ويبحثون فيه الأمراض الاجتماعية والسياسية في عصرهم، وهي أفكار أراد الكواكبي من خلال هذا الأسلوب الأدبي الجاذب أن تصل للقارئ بسهولة ويُسر، تحدث في "أمر القرى" عن جمعية من المسلمين عُقدت في مكة حضرها ممثل أو أكثر لكل قطر إسلامي، ففاضل شامي، والمولى الرومي والمجتهد التبريزي والرياضي الكردي والعالم النجدي والمحدث اليمني والعلامة المصري والخطيب القازاني وتتري وتركي وأفغاني وقازاني وهندي وصيني، وأسندت رئاسة الجمعية للمكي، والسكرتارية للفراتي ويعني الكواكبي نفسه، تخيل الكواكبي اجتماعهم في موضع ناء من مكة قرب موسم الحج.

 

يرى العقاد في تناوله لهذا الكتاب أن تلك الألقاب لم يضعها الكواكبي جزافًا، ولم يتميز بعضها من بعض لأسباب تتعلق بأفراد المندوبين، وأن تجاوز الألقاب إلى السجلات وما وعته من الآراء والأوصاف والوقائع ومناحي التفكير، يوضح أن الكواكبي كان على قدر عال من المعرفة بأحوال الشعوب الإسلامية، ومميزاتها في مجال العلوم والمعارف[10]. كانت نقطة الفصل التي أراد الكواكبي على لسان أبطال "جمعية أم القرى" أن يصل إليها؛ قضية جمود الأمة وآلامها وأسباب تراجعها التي يجعلها الكواكبي كلها بسبب الحكومة السيئة والاستبداد.

 

فلماذا يضعف المسلمون؟

يضعفون لأنهم أهملوا آداب الدين التي نهضوا بها في صدر الإسلام.

ولماذا أهملوا آداب الدين؟

لأنهم جهلوا لبابه وأخذوا منه بالقشور.

ولماذا جهلوها؟

لأنهم فقدوا الهمة وقنعوا بالضعة، واستكانوا إلى الخور والتسليم[11].

تبدي كل شخصية من شخصيات "أم القرى" على تنوعهم الجغرافي والعلمي رأيها في حل مشاكل الأمة وعلى رأسها التخلف والاستبداد، فالمجتهد التبريزي يرى أن تلك الأسباب تعود إلى الأمة نفسها، فقد كنا خير أمة أخرجت للناس لأننا لا نخضع لغير الله، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر قولا وعملا، أما اليوم فإننا غارقون في عبادة أمرائنا وأهوائنا وأوهامنا والمستبدين بنا. بينما أعاد المرشد الفاسي الأسباب إلى انحلال الرابطة الدينية والخلقية وانحصار همة الأمراء الدخلاء بالجباية والجندية الجبرية. بينما يرجع ممثل أهل المدينة المنورة أسباب الانحطاط والضعف إلى العلماء المدلّسين وغلاة الصوفية، حتى التبس على العامة علماء الدين الحقيقيون الفقراء من هؤلاء السحرة المدلسين الأغنياء الأعزاء بالسلطان حتى تشوشت عقائد العامة وضعف يقينهم[12].

كتاب

ولعل كلام ممثل أهل المدينة المنورة قصد الكواكبي من ورائه غريمه الأول أبا الهدى الصيادي الذي كان يتخذ الطريقة الرفاعية مذهبا له في التصوف، بل إنه ألف وقيل أُلّف له كتاب "قلادة الجواهر في ذكر الغوب الرفاعي وأتباعه الأكابر"، وأمر الصيادي أتباعه بنشره وقراءة أدعيته في الأقطار، كما أمرهم بنشر عدد آخر من المؤلفات الصوفية التي رآها الكواكبي تنم عن غلو وجهل مثل "فرحة الأحباب في أخبار الأربعة الأقطاب"، و"الجوهر الشفاف في طبقات السادة الأشراف"، و"ذخيرة المعاد في ذكر السادة بني الصياد".

 

كان الكواكبي يفرق بين الدين الخالص الذي ينبغي أن يكون الأساس المكين للنهضة والتقدم، وبين الدين الحاضر أو السائد، فالإسلام مثلما كان يُمارس في أواخر القرن التاسع عشر ليس بالدين المطلوب منه أن يحقق نهضة ومدينة، فقد داخل الدين كما رأى الكواكبي طوارئ غيرت من نظام الدين، وفوق تلك الجهالات التي رآها الكواكبي صُدم ببعض المقربين من السلطان عبد الحميد يدعونه خليفة الأمر الذي اعتبره جهلا فوق جهل.

 

ولعل ذلك كله جعله يحمل على العثمانيين حملة شعواء لا هوادة فيها، اضطر فيها صديقه محمد رشيد رضا إلى تهذيب وحذف بعض العبارات التي فهم من ورائها مهاجمة الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد، وكانت تلك ملاحظة الشيخ محمد عبده أيضا أثناء مراجعتهما للكتاب، ونصحاه بتخفيف حدة النقد هذه، لكنه كان يرى أن الدولة العثمانية لم تنعقد بها بيعة من حكومات المسلمين ولا من رعاياها، فلم يقبلها ملوك إيران والمغرب والجزيرة العربية، ولا يذكرها المسلمون في صلاة الجمعة إلا حيث يدينون لتلك السيادة في أوضاعهم السياسية، ولم يحدث قبل السلطان محمود في النصف الأول من القرن التاسع عشر أن تلقب أحد من سلاطين العثمانيين بلقب الخلافة والإمامة الكبرى أو إمارة المؤمنين[13].

 

يقول بامتعاض ونقد بيّن متتبعا تطور انتقال لقب السلطنة إلى الخلافة في القرن التاسع عشر عند العثمانيين: "صار بعض وزراء السلطان محمود يخاطبون بذلك أحيانا تفننا في الإجلال، وغلوا في التعظيم، ثم توسع استعمال هذه الألقاب في عهد ابنيه وحفيديه، إلى أن بلغ ما بلغه اليوم بسعي أولئك الغشاشين الذين يدفعون ويقودون حضرة السلطان الحالي (عبد الحميد) للتنازل عن حقوق راسخة سلطانية لأجل عنوان خلافة وهمية مقيّدة في وضعها بشرائط ثقيلة لا تلائم أحوال الملك، ومعرّضة بطبعها للقلقلة والانتزاع والخطر العظيم". ويرى من تحقيقه التاريخي أن ساسة الدولة العثمانية "لا يقصدون بالاستناد للدين غير التلاعب السياسي وقيادة الناس إلى سياستهم بسهولة، وإرهاب أوروبا باسم الخلافة واسم الرأي العام"[14].

الكواكبي

بل إن الكواكبي عدّد فيما رآه "جرائم العثمانيين" في حق الشعوب المسلمة الأخرى، بل قال بوضوح وباندفاع أن العثمانيين سعوا في تدمير و"انقراض خمس عشر دولة وحكومة إسلامية"، ومنها أنهم أغروا وأعانوا الروس على التتار المسلمين، وهولاندة على الجاوة والهنديين، وتعاقبوا على تدويخ اليمن، فأهلكوا إلى الآن عشرات ملايين من المسلمين يقتلون بعضهم بعضًا، لا يحترمون فيما بينهم دينا ولا أخوّة ولا مروءة ولا إنسانية، وقد أطال الكواكبي حديثه عن تلك "الجرائم" بحسب رأيه، ثم يختمه بقوله: "وفي هذا المقدار كفاية إيضاح لقاعدة أن مؤيدات الملك عند السلاطين مقدّمة على الدين، أما صفة خدمة الحرمين، وألفة مسامع العثمانيين للقب الخلافة، فهذا كذلك لا يفيد الدين وأهله شيئا، وليس له ما يتوهم البعض من الإجلال عند الأجانب"[15].

 

وفي هذا السياق يتواصل النقاش بين عدد من الأعضاء الأساسيين بعد انفضاض المؤتمر المتخيّل حول مدى صلاحية بني عثمان لأمر ولاية المسلمين، وهل من المصلحة فضح عيوبهم خاصة وأنهم أعظم دولة إسلامية موجودة آنذاك، فيأتي الرد على لسان المجتمعين في "أم القرى" برفض ترك المسلمين "متكلين على دولة ما توفقت لنفع الإسلام بشيء في عز شأنها بل أضرتها"، ومن ثم يتساءل أحدهم قائلاً: "أليس الترك قد تركوا الأمة أربعة قرون ولا خليفة، وتركوا الدين تعبث به الأهواء ولا مرجع، وتركوا المسلمين صمّا بكما عميا ولا مرشد، أليس الترك قد تركوا الأندلس مبادلة، وتركوا الهند مسالمة، وتركوا الممالك الجسيمة الآسيوية للروسيين، وتركوا قارة أفريقيا الإسلامية للطامعين، وتركوا المداخلة في الصين كأنهم الأبعدون؟!"[16].

 

مثل هذه الآراء الشديدة والمتجنية على الدولة العثمانية كانت السبب في تأليب هذه الدولة عليه، فالتاريخ لا يؤكد هذه الحوادث، ولا توجد ثمة وثائق بين أيدينا تدلل على هذا "التآمر العثماني" على الشعوب الإسلامية بمثل هذه البساطة التي ساقها الكواكبي في معرض حديثه "الاندفاعي" بعض الشيء، وليس المجال مجال دفاع عن العثمانيين، بل على النقيض يؤكد لنا التاريخ الدور العثماني في حماية الأندلسيين وإنقاذهم من الغرق في لحظات الطرد والإبادة على سبيل المثال، واتحادهم مع غرامائهم المماليك في مصر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في المأساة الأندلسية[17].

السلطان عبد الحميد الثاني (مواقع التواصل)

يرى الأستاذ العقاد في تناوله لشخصية الكواكبي -وهو معجب به وبثوريته ونضاله وأفكاره، كما أنه في الوقت عينه هادئ في نقده وبسطه للحقائق- أن السلطان عبد الحميد الثاني حين دعا إلى الجامعة الإسلامية تحت ظل الدولة العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر، وإطلاق لقب الخلافة على نفسه، لم يكن مجرد استعراض، وإنما كان -ويؤيده للحق وقائع الأحداث حينذاك- كان يحتمي بعطف العالم الإسلامي في وجه التعصب الأوروبي المطبق عليه من كل جانب وأن يستمع العالم الإسلامي إليه حين يناديه بتلك الصفة؛ لأنه أكبر ولاة الأمر فيه، وأعظمهم مركزًا في مراسم السياسة الدولية"[18].

 

كان مما تطرق إليه الكواكبي في "أم القرى" قضية الغنى والفقر وأسبابها هذا التفاوت الطبقي الكبير، ولآراء الكواكبي حول هذه المسألة في كتابيه ومقالاته رأى عدد من الكتاب والباحثين أن الكواكبي كان من أوائل الداعين إلى المنهج التكافلي، بل صرح البعض مثل عبد الفتاح قلعجي أن الكواكبي كان "من طلائع الداعين إلى الاشتراكية الإسلامية لحل مشكلة الغنى والفقر في المجتمع، ويسميها الاشتراك العمومي المنتظم، وهذه المسألة تناولها على لسان عضو المؤتمر السعيد الانجليزي كأنه لا يريد بذلك أن ينقل لنا خبرة وتجارب الغرب فحسب وإنما يؤكد لنا أن ما نبحث عنه من حلول لمشكلاتنا موجود في جوهر التشريع الإلهي لدينا"[19].

 

عاش الكواكبي مدافعا عن وجهة نظره الداعية لمواجهة المتاجرين بالدين، والمحسوبية، والمنتفعين من وراء الاستبداد السياسي، والانغلاق الفكري، وكان دفاعه عن الناس والحرية والشورى بالموقف والقلم، مما حمله إلى السجن أول الأمر، ثم الهجرة ثانية بعيدا عن وطنه وأهله، وأخيرا موته مسمومًا في غربته، وتبقى علاقة الكواكبي بالدولة العثمانية شائكة معقدة، فقد كان السلطان عبد الحميد يواجه حربا لا هوادة فيها، وتآمرا بلغ مداه من الداخل والخارج، ولم تفت ست سنوات على مقتل عبد الرحمن الكواكبي سنة 1902م إلا وكان الانقلاب سنة 1908م على السلطان عبد الحميد ناجحا، تلك الإزاحة كانت بمثابة العقبة الأهم والأكبر التي لم تجاوزها في إسقاط الدولة العثمانية وهزيمتها فيما بعد.

المصدر : الجزيرة