شعار قسم ميدان

عبد اللطيف البغدادي.. الرحّالة الذي شهد ظاهرة آكلي لحوم البشر في مصر!

عبد اللطيف البغدادي
اضغط للاستماع

  

في عصرها الوسيط، شهدت مصر منذ تسعة قرون واحدة من أبشع وأسوأ الكوارث الطبيعية التي مرت بها في تاريخها، تلك الكارثة التي ارتبطت بالنيل، ذلك النهر الذي لا تقوم مصر إلا بوجوده وبقائه، لكن ثلاث سنوات مرت على مصر دون جريانه تسببت في تلك المأساة الكبرى.

 

وكان من حظ التاريخ أن واحدا من كبار العلماء والرحالة الكبار الذين زاروا مصر في تلك الحقبة شاهد على بشاعة تلك الأحداث، سجلها قلمه بدقة تنم عن مكانته العلمية والفكرية والثقافية، وكان له مكانته بين ساسة وعلماء عصره، ذلك هو المحدث والكيميائي وعالم النبات عبد اللطيف البغدادي الذي ساقته الأقدار إلى اللقاء بصلاح الدين الأيوبي في أخريات عُمره، فمن هو عبد اللطيف البغدادي؟ وما أبرز مشاهداته على واحدة من أسوأ مجاعات مصر وكوارثها قبل تسعة قرون؟!

 

عبد اللطيف البغدادي العالم والرحالة

وُلد موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف بن محمد في مدينة بغداد سنة 557هـ/1162م، عاصمة الخلافة العباسية، وموطن العلم والعلماء، لأسرة تعود أصولها إلى مدينة الموصل، فنشأ فيها على ما نشأ عليه أقرانه البغداديون، فحفظ القرآن الكريم، ودرس علم الحديث، وحفظ الشعر والمقامات، واستهوته دراسة الكيمياء والطب، فأمعن في دراستهما والتخصص فيهما حتى أصبح واحدا من ألمع الأطباء والكيميائيين في زمنه، ورغب في أن يستزيد من العلوم والمعارف، فقرر السفر إلى خراسان شرق العالم الإسلامي لينال ما عندهم[1].

     

قرر عبد اللطيف السفر إلى دمشق لطلب العلم، ومناظرة علمائها، فوقعت بينه وبين علمائها مناظرات انتصر فيها عليهم، وزادت شهرته بسبب علومه ومعارفه
قرر عبد اللطيف السفر إلى دمشق لطلب العلم، ومناظرة علمائها، فوقعت بينه وبين علمائها مناظرات انتصر فيها عليهم، وزادت شهرته بسبب علومه ومعارفه
    

عاد البغدادي إلى موطنه، وعمل لسنوات في التدريس، لكنه في العام 585هـ، قرر السفر إلى الموصل لتدريس الحديث النبوي الشريف في كبرى مدارسها آنذاك، وانتهز فرصة وجود عالم الرياضيات والفقيه الشهير الكمال ابن يونس، الذي ذاع صيته حينذاك، وكان أحد خاصّة السلطان صلاح الدين الأيوبي، وفي الموصل سمع البغدادي عن السلطان صلاح الدين، وشخصيته العسكرية الفذة التي تُقدّر العلم والعلماء، وتضعهم في المكان اللائق لهم، وهم حاشيته المقربون، أصحاب المشروع الأهم في إعادة نشر الوعي، وتموضع مكانة العلماء في المجال العام.

  

من أجل ذلك، قرر عبد اللطيف السفر إلى دمشق لطلب العلم، ومناظرة علمائها، فوقعت بينه وبين علمائها مناظرات انتصر فيها عليهم، وزادت شهرته بسبب علومه ومعارفه، وقرر السفر لمقابلة السلطان صلاح الدين، فتوجّه إليه أثناء محاولة استرداده عكا التي أعاد الصليبيون احتلالهم لها في غفلة من صلاح الدين وقواته، وهنالك التقى بصلاح الدين وكبار رجالات دولته مثل بهاء الدين بن شداد قاضي الجيش، والكاتب الشهير العماد الأصفهاني، والقاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الذي زوّده بكتاب توصية إلى وكيله في مصر ابن سناء الملك لينزل البغدادي المنزل اللائق به[2].

  

نزل عبد اللطيف البغدادي مصر، والتقى بأعلام أطبائها وكيميائييها، مثل موسى بن ميمون وأبي القاسم الشارعي، وحرص على تدريس الفقه، وتابع أبحاثه في الطب وعلم النبات، ثم عاد إلى القدس ليلتقي بصلاح الدين، الذي عرف مكانته وعلمه ودرايته، فقرر تعيينه مدرسا في دمشق، لإقراء الناس في الجامع الأموي نظير راتب كبير قدّره بمئة دينار ذهب كل شهر.

     

أثناء مقام عبد اللطيف البغدادي بمصر، شاهد واحدة من كبريات كوارثها في عام 597هـ، فقد انخفض النيل عن الجريان بصورة لم تحدث من قبل، حتى هلك الثمر، وعمّ الجوع والجفاف
أثناء مقام عبد اللطيف البغدادي بمصر، شاهد واحدة من كبريات كوارثها في عام 597هـ، فقد انخفض النيل عن الجريان بصورة لم تحدث من قبل، حتى هلك الثمر، وعمّ الجوع والجفاف
    

غير أن البغدادي كان يسأم المقام في مكان واحد لفترة طويلة، فقد استهوته حياة السفر والترحال، ويبدو أن مصر قد أعجبته أكثر من الشام، فعاد إليها مرة أخرى بعد وفاة السلطان صلاح الدين في العام 589هـ/1193م، وكان هذه المرة يقرئ الناس في الجامع الأزهر، كما كان يخصص درسا لتعليم الطب، غير أنه عاد إلى السفر والترحال من جديد، فانتقل إلى القدس حيث درّس في الجامع الأقصى، ثم إلى دمشق التي بزغت شهرته فيها طبيبا حاذقا في عام 604هـ/1202م، ثم انتقل إلى حلب، ومنها إلى بلاد الأناضول التي كان يحكمها سلاجقة الشام في رحلة استمرت عدة أعوام زار خلالها عدة مدن أناضولية، والتقى بعدد من أمراء السلاجقة في مدينة أرزنجان، ثم عاد في شيخوخته إلى بغداد ليُمضي فيها أخريات عمره، بعد سفر طويل، وترحال لم ينقطع، ليلقى أجله في عام 629هـ/1227م عن عمر ناهز السبعين[3].

  

وفي أثناء مقام عبد اللطيف البغدادي في مصر، شاهد واحدة من كبريات كوارثها في عام 597هـ، 598هــ/1200م – 1202م، فقد انخفض النيل عن الجريان بصورة لم تحدث من قبل، حتى هلك الثمر، وعمّ الجوع والجفاف، واضطر مئات الآلاف من المصريين إلى النجاة بأنفسهم صوب بلاد الشام والحجاز والمغرب وغيرها، لكن من بقي منهم ولم يستطع النجاة بنفسه وعياله واجه المصائب الكبرى، خصوصا من أهل الأرياف من الضعفاء والفقراء.

  

في مصر يؤكل البشر!

دوّن عبد اللطيف البغدادي هذه الأحداث في كتابه "الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة في أرض مصر"، ونظرا لخطورة وفظاعة ما رواه، فقد ذاعت شهرة هذا الكتاب أو وصف تلك الرحلة، وتُرجمت إلى بضع لغات أوروبية، ويرى المستشرق الروسي إغناطيوس كراتشكوفسكي في كتابه المهم "تاريخ الأدب الجغرافي العربي" أن قيمة هذا الكتاب إنما تنبع من كون البغدادي طبيبا وبحّاثة، وأن تدوينه لما رآه تعود أهميته إلى قوة ملاحظته، ورباطة جأشه[4].

       

كتاب
كتاب "الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة في أرض مصر" لـ"عبد اللطيف البغدادي" (مواقع التواصل)

    

رأى البغدادي آثار القحط والوباء على المصريين، وطول أمد الأزمة الذي جعلهم يضطرون لأكل لحوم البشر والحيوان، حتى اضطروا إلى أن "أكلوا الميتات والجيف والكلاب والبعر والأرواث، ثم تعدوا ذلك إلى أن أكلوا صغار بني آدم، فكثيرا ما يعثر عليهم ومعهم صغار مشويون أو مطبوخون، فيأمر صاحب الشرطة بإحراق الفاعل لذلك والآكل"[5].

  

رأى البغدادي فظائع في تلك الشهور، فقد وصل الحال بالناس في مصر في سنوات المجاعة والقحط وانخفاض النيل إلى صيد الضعفاء والنساء والأطفال وأكل لحومهم، حتى إنه رأى جثة منزوعة اللحم، لم تبق إلا هيكلا عظميا، وقد أخذته غريزته الطبية ليقول إن الطبيب جالينوس، وهو أحد أعمدة طب اليونان ومرجع الأطباء حينذاك، لم يرَ مثل هذا الهيكل العظمي وهو يتكلم عن تشريح الإنسان في كتاباته، وأن مثل هذا الهيكل الذي ظهر في سنوات القحط والمجاعة مما يتمنى أن يراه كل طبيب وباحث في علم التشريح[6]!

  

رأى البغدادي أن حوادث أكل لحوم البشر في الشهور الأولى من المجاعة والقحط كانت مما يستفظعه الناس في مصر، لكن كلما مرت الأيام، وزادت الأحوال سوءا، وقلّت الأقوات والأموال؛ استمرأ الناس هذا الفعل الشنيع، وعدّوه طبيعيا، وتجرأوا عليه عيانا بيانا دون خوف من سلطان أو حاكم، وهو يروي ما شاهده بعينه ولم يُحكَ إليه، فقد رأى امرأة في أحد الأسواق منشغلة بأكل رضيع مشوي، وقد هاجمها الناس، لا لفعلها، وإنما لأخذ الشواء منها، ورأى شابان يأكلان صبيا مشويا في قارعة الطريق وقد أقرّا بجريمتهما دون وخز من ضمير أو ألم، بل حكت إليه بعض النساء أنهن يُدافعن عن أولادهن ممن يهاجموهن للخطف بهدف الشواء والأكل[7]!

    

 كان عبد اللطيف البغدادي شاهد عيان على ظاهرة خطيرة انتابت المصريين قبل ثمانية قرون، تلك هي ظاهرة آكلي لحوم البشر!
 كان عبد اللطيف البغدادي شاهد عيان على ظاهرة خطيرة انتابت المصريين قبل ثمانية قرون، تلك هي ظاهرة آكلي لحوم البشر!
   

وصل إجرام الناس وجوعهم إلى حدٍّ لا يُصدّق حتى أكل الجيران بعضهم بعضا، فقد جاءت امرأة قابلة تولِّد النساء مذعورة إلى القاضي، وأن قوما استدعوها للولادة، فقدّموا إليها صحنا مليئا باللحم والتوابل، لكنها لاحظت أنه ليس مثل اللحم المعتاد، فتقززت منه، واستطاعت أن تسأل بنتا صغيرة في خلوة عن سر هذا اللحم، فقالت لها إنها "فلانة السَّمينة دخلَت لتزورنا فذبحها أبي وها هي مُعلّقة إربا، فقامت القابلة إلى الخزانة فوجدتها" مليئة باللحم، ثم هربت من البيت وذهبت إلى الوالي الذي أرسل جنوده لمهاجمة الدار والقبض على من فيه[8]!

  

يسرد عبد اللطيف البغدادي كلامه عن هذه الظاهرة الخطيرة التي حدثت في مصر في سنوات قحطها ومجاعتها، وكأنه أدرك أن القارئ ربما لن يصدق روايته لهذه الأحداث الدامية، ليقول: "ولو أخذنا نقصُّ كل ما نرى ونسمع لوقعنا في التُّهمة أو الهذر، وجميع ما حكيناه مما شاهدناه، ولم نتقصده ولا تتبعنا مظانه، وإنما هو شيء صادفناه اتفاقا، بل كثيرا ما كنتُ أفرّ من رؤيته لبشاعة منظره"[9]!

  

تلك بعض من سيرة الرحالة والطبيب والكيميائي عبد اللطيف البغدادي، ولا تخلو رحلته من حديث مهم ولافت عن بعض الجوانب الأخرى علمية كانت أم آثارية رآها في مصر في فاتحة القرن الثالث عشر الميلادي، وكان شاهد عيان على ظاهرة خطيرة انتابت المصريين قبل ثمانية قرون، تلك هي ظاهرة آكلي لحوم البشر!