شعار قسم ميدان

سيبويه.. الفارسي الذي أصبح إمام النحاة!

ميدان - سيبويه إمام النحاة

اضغط للاستماع

   

أُخيَّينِ كُنّا، فرّقَ الدهر بيننا *** إلى الأمدِ الأقصى ومن يأمنِ الدهرا!

(سيبويه راثيًا نفسه قُبيل وفاته)

   

سيبوَيْه، الكلمة الفارسية التي تعني رائحة التفاح أو ذا الثلاثين رائحة، والتي كانت الأم تُهدهد وتُدلّل بها طفلها الصغير حتى يهدأ، صارت ملازمة له حتى مماته، ذلك الفتى الذي لم يكن يعرف إلا اللغة الفارسية في مبتدأ حياته، لم يعلم أن الأقدار تخبئ له من الغرائب ما سيجعله أحد أئمة اللغة العربية، وأكثرهم عبقرية ونباهة وحفظا.

  

ذلك هو سيبويه الذي فاق كثيرا من أئمة العرب في معرفة علم النحو وأصوله وخباياه، وأضحى إمام مدرسة كبيرة في هذا المضمار، هي المدرسة البصرية التي لا تزال حتى يومنا هذا واحدة من المدارس الكبرى التي يستقى منها أصول علم النحو ووجوهه، وقد ابتدأت بهذا الفارسي ليكون خادما للغة العربية وإماما لها. فمَن هو سيبويه؟ وكيف تغير مصيره ليصبح واحدا من أعظم علماء النحو عبر كل الأزمنة؟ وكيف دُبرت له مكيدة صرفته عن العراق منهزما ليلقى منيته وهو لا يزال شابا في ريعان فتوته وحيويته؟!

  

من البيضاء إلى البصرة

في مدينة البيضاء التابعة لإقليم إصطخر جنوب إيران اليوم، وُلد أبو بشر عمرو بن عثمان بن قَنبْر، ولا يُعرف بالتحديد متى ولد في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، وإن عُلم تاريخ وفاته بالتقريب سنة 180 هجرية، هاجر أهلُه إلى مدينة البصرة جنوب العراق، وكانت واحدة من أنشط المدن، ومركزا قويا من مراكز الثقافة والعلوم الإسلامية، فضلا عن الاقتصاد الأمر الذي أغرى أسرته بالبقاء فيها.

    

سيبويه (مواقع التواصل)
سيبويه (مواقع التواصل)

   

وفي ظل هذه البيئة العلمية والثقافية الجاذبة، طفق سيبويه يطلب العلم بها، واستهواه في بادئ الأمر دراسة الحديث والفقه، فصحب الفقهاء وأهل الحديث، وكان يأخذ عن المحدث الشهير حمّاد بن سلمة البصري، وكان رجلا دقيقا شديد الأخذ، لا يحب اللحن في العربية قط، فبينما كان يُملي على تلامذته قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس من أصحابي إلا من لو شئتُ لأخذتُ عليه ليس أبا الدرداء". قال سيبويه: "ليس أبو الدرداء"، وظنّه اسم ليس التي هي من أخوات كان. فقال حمّاد: لحنتَ يا سيبويه، ليس هذا حيث ذهبت، وإنما "ليس" ها هنا استثناء. فخجل سيبويه، وأقسم على أن يتعلم النحو حتى لا يلحن في العربية أبدا[1].

   

إمام النحاة الشاب!

ثمة رواية أخرى تقول إنه أخطأ ولحن لحنا فاحشا، حتى قال له شيخه: يا فارسي لا تقل الصفاء؛ لأن الصفاء مقصور، فلما فرغ من مجلسه كسر القلم، وقال: لا أكتب شيئا حتى أُحكمَ العربية، وقد انطلق سيبويه يطلب النحو والعربية على العلامة الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب معجم "العين"، المعجم الأول للغة العربية، ففرح به، ووجد عنده ضالته، ولزمه ملازمة الظل لقرينه، كما تعلم على الأخفش الأكبر أحد مشاهير النحو والعربية، وكذلك أبو عمرو بن العلاء وطبقته، بل إنه تعلّم على الأعراب[2] ولازمهم كثيرا يسمع منهم ويُدوّن.

  

كان الخليل بن أحمد الفراهيدي أحب الشيوخ لسيبويه، وكان يجتمع عنده عدد آخر من التلاميذ الذين صاروا فيما بعد من أعلم أهل زمانهم، وهم النضر بن شميل، وعلي بن نصر الجهضمي، ومؤرّج السدوسي، ومعهم سيبويه، فكان سيبويه أبرعهم في النحو، في حين شغف النضر باللغة، واهتم مؤرج بالشعر، أما علي فقد اهتم بالحديث، وكان الخليل يفسح له صدره، ويرى فيه الطالب الذي لا يضن عليه، وازدادت مكانته في قلبه حتى صار أحب تلاميذه إليه، وقد روى بعض شهود العيان أن الخليل كان يقول لتلميذه سيبويه إذا أتاه: مرحبا بزائر لا يُملّ. قال الراوي: ما سمعتُ الخليل يقولها إلا لسيبويه[3]!

    

  

وكان سيبويه ثاقب الذهن، مستقل الرأي، ذا بصيرة نفاذة، وكان إلى هذا يُناقش أساتذته وينقدهم ويخالفهم في بعض المسائل، حتى إن البعض منهم كان يتحاشى مُساءلته لقوة مُناظرته وحُجّته وذكائه، حدّث الأخفش، قال: كنتُ عند إمام النحو يونس بن حبيب الضبي البصري فأقبل إليه سيبويه، فقال: أعوذ بالله منه، فجاء فسأله فقال: كيف تقول: مررت به المسكينِ؟ فقال: جائز أن أجرّه على البديل من الهاء. فقال له: مررتُ به المسكينُ بالرفع، على معنى المسكينُ مررتُ به. فقال يونس: هذا خطأ لأن المضمر قبل الظاهر. فقال له: إن الخليل أجاز ذلك، وأنشد فيه أبياتا. فقال: هو خطأ. قال: فمررتُ به المسكينَ بالنصب. فقال يونس: جائز. فقال على أي شيء؟ قال: على الحال. فقال سيبويه: أليس أنك أخبرتني أن الحال لا تكون بالألف واللام. فقال: صدقتَ. ثم قال لسيبويه: فما قال صاحبك فيه؟ أي الخليل بن أحمد، فقال سيبويه: قال لي إنه يُنصب على الترحّم. فقال يونس: ما أحسن هذا. يقول الراوي: ورأيت يونس مغموما بقوله: نصبتُه على الحال[4].

  

هذا وكان سيبويه مع تقديره واحترامه لأستاذه الخليل كثيرا ما يمتحنُ آراءه، وذلك بموافقة كلام العرب له أو مخالفته، يقول في كتابه "الكتاب" في علم النحو: "والذي ذكرتُ لك قول الخليل، ورأينا العرب توافقه بعدما سمعناه منه"[5]. فهذا منهج نقدي يدلل على براعة سيبويه في استقاء العلم، ومقارنته، والاطمئنان إلى نتائجه.

  

وفي حياة شيوخه، صار لسيبويه مجلس حافل في مساجد البصرة يؤمّه الكبير والصغير، وتناقلت مؤلفات طبقات النحاة أخبار هذا الدرس الحافل، وما كان يُدور فيه من مسائل عويصة لم يكن يقدر عليها إلا سيبويه، حتى أضحى له من التلاميذ ما لا يُحصون كثرة وهو لا يزال غض الشباب، نافذ البصيرة، ومما حُكي عنه أنه كان جالسا في حلقته في البصرة ذات يوم، فتذاكروا حديثا غريبا، وفي سنده سعيد بن أبي العروبة، فقال له بعض الحاضرين من ولد جعفر بن سليمان الهاشمي، ما هاتان الزيادتان يا أبا بشر؟ يريد الألف واللام في اسم "العروبة". فقال سيبويه: "هكذا يُقال؛ لأن العروبة هي الجمعة، ومن قال عروبة دون الألف واللام فقد أخطأ"[6].

  

ومن بغداد تكون النهاية!

undefined

  

لم تعد البصرة تكفي طموح سيبويه وعلمه الجم الذي كان يدوّنه في كتابه "الكتاب"، الذي قيل فيه أصل علم النحو في هذا "الكتاب"، الأمر الذي دفعه إلى الانطلاق إلى بغداد التي كانت تتلألأ كعاصمة العالم الإسلامي كله، في عصرها الذهبي، في خلافة هارون الرشيد ووزارة يحيى بن خالد البرمكي، وقد التقى سيبويه بيحيى الذي أُعجب به، ورأى أمامه ابن بلده فارس ينافس العرب في لغتهم، ويفوق عليهم في نحوهم وعلومهم، وقصده أن يستدعي الإمام الكسائي إمام أهل اللغة والنحو، ورأس المدرسة الكوفية في النحو ليناظره، ويقال إن يحيى رفض في بادئ الأمر، إلا أنه وافق تحت إلحاح سيبويه.

  

كان الكسائي، فوق زعامته لمدرسة النحو الكوفية، مؤدبا للأمين والمأمون ابني هارون الرشيد، ما يعد أحد رجالات الدولة الكبار، وقد أدرك أن إلحاح سيبويه للمناظرة إنما يهدف للإيقاع به، والحض من شأنه ومكانته وعلمه بين أهل بغداد وعلى رأسهم الخليفة والبرامكة، فاتفق مع تلامذته على حيلة وخطة، وكانت الخطة تقضي بأن يتقدم أصحاب الكسائي بمناظرة سيبويه وإرهاقه بالأسئلة والمخالفة حتى إذا فتُرت همّته، وظهر عجزه دلف الكسائي ليجده فاقد العزم، واهن الفكر، وكان للخطة ما رُسم لها، وأخذ تلاميذ الكسائي وعلى رأسهم الفراء والأحمر وابن سعدان بإمطار سيبويه الأسئلة، وهو يجيبهم بلا كلل على مذهبه البصري، وهم يخالفونه ويخطئونه بما يوافق مذهبهم الكوفي في علم النحو، حتى ملّ منهم ومن أسئلتهم.

     

  

وبينما هو في هذه الحالة من الضجر والتعب، إذ دخل الكسائي ومعه بعض الأعراب ممن كان ينتفع بهم لحاجة عند الخليفة والبرامكة، فسأل سيبويه: كيف تقول: كنتُ أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها؟ فأجاب سيبويه: فإذا هو هي. فبيّن له الكسائي أن الوجهين جائزان، وكان قد اتفق مع هؤلاء الأعراب وهم أهل اللغة والنحو ضد سيبويه، فوافقوا الكسائي، واختتم المجلس على هزيمة سيبويه ظاهرا، ليعود إلى البصرة منكسرا، ثم يقرر ترك العراق كلها باتجاه الأهواز وقيل إلى بلدته البيضاء في فارس[7]، لكن أجله يأتيه في الطريق سنة 180هـ/796م وهو في أواسط الثلاثينيات من عمره على الأرجح، إثر مرض ألم به، قيل إنه بسبب قهره وحزنه على تلك الهزيمة، ليرثي نفسه ورأسه في حجر أخيه قُبيل موته قائلا:

  

أُخيَّينِ كُنّا، فرّقَ الدهر بيننا *** إلى الأمدِ الأقصى ومن يأمنِ الدهرا!

  

وإذا كانت هزيمة سيبويه مؤامرة دُبّرت له لإقصائه من بغداد والعراق كلها، كي لا يحتل المكانة الأبرز كأحد عظماء النحو في عصره، فإن كتابه "الكتاب" ظل حتى يومنا هذا هو أساس علم النحو العربي، وقد شهد له جل أئمة وعلماء النحو، حتى قال فيه العلامة المبرِّد: "لم يعمل كتاب في علم من العلوم مثل كتاب سيبويه، وذلك أن الكتب المصنفة في العلوم مضطرة إلى غيرها، وكتاب سيبويه لا يحتاج من فهمه إلى غيره". وقد أُثِر أن الكتاب في صورته الأكمل قد أحرقته جارية لسيبويه كانت شغوفة به، لكنه كان يتركها حبا في العلم والسهر، فانتقمت منه فأحرقت الكتاب في صورته الأولى فغشي عليه، ثم طلقها، فأعاد ترميم الكتاب للمرة الثانية، لكن ذهب منه علم كثير مما أخذه عن شيخه وأستاذه الخليل بن أحمد[8].

  

وهكذا انتهت حياة علامة وإمام النحو، ذلك الفتى الذي كان لحنه وخطؤه في القراءة سببا في تصميمه على تعلم العربية وأصولها، كانت تلك الانعطافة في حياته فتحا على علم النحو والعربية بتأليف أول كتاب منهجي مقسّم إلى أبواب منسّقة، ذلك التنسيق والترتيب جعل الأديب الجاحظ يقول فيه: "لم يكتب الناس في النحو كتابا مثله، وجميع كتب الناس عيال عليه"[9]!

المصدر : الجزيرة