شعار قسم ميدان

عماد الدين زنكي.. كيف وحد العراق والشام وفتح الطريق لصلاح الدين الأيوبي؟

ميدان - عماد الدين زنكي.. كيف وحَّد العراق والشام وفتح الطريق لصلاح الدين الأيوبي؟

اضغط للاستماع

  

"وكان هو أول مَن حمل على الفرنج ومعه ذلك الصبي (الشجاع)، وحمل فارس من خيالة الفرنج على أتابك (زنكي) عرضا، فاعترضه ذلك الأمير فطعنه فقتله، ونازلَ البلد، وقاتله ثمانية وعشرين يوما… وأخذ البلد عنوة وقهرا، وحصر قلعته فملكها أيضا، ونهب الناسُ الأموالَ وسبوا الذرية وقتلوا الرجال، فلما رأى أتابك (عماد الدين زنكي) البلد أعجبَه، ورأى أن تخريب مثله لا يجوزُ في السياسة، فأمر فنُودي في العساكر بردّ مَن أخذوه من الرجال والنساء والأطفال إلى بيوتهم، وإعادة ما غنموه من أثاثهم وأمتعتهم".

(المؤرخ عز الدين بن الأثير في وصفه لفتح إمارة الرها الصليبية على يد عماد الدين زنكي)

     

كان ظهور الأتراك السلاجقة على مسرح التاريخ الإسلامي نقطة فاصلة وعلامة تحوُّل كبرى في مسيرة التاريخ؛ ذلك أن السلاجقة الذين بدأ نجمهم في البزوغ منذ أواخر القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي قد انطلقوا من وسط آسيا في أقاليم تركستان الفسيحة كقبائل رعوية انتهى بهم الأمر إلى السيطرة السياسية على تلك الأقاليم ثم إيران وأفغانستان، حتى تكلّل نفوذهم وتوسعهم الكبير بدخول بغداد سنة 447هـ دعما للخلافة العباسية في مواجهة البويهيين الشيعة.

    

ولم يكن مجيء الأتراك السلاجقة إلى بغداد مجرد غزو عسكري أو فرض للهيمنة السياسية العابرة بقدر ما كان مشروعا كاملا لم يتوقف إلا مع السيطرة على الأناضول وبلاد الشام والقوقاز الجنوبي والعراق والحجاز، ولأجل تحقيق هذا النفوذ كان من الطبيعي الاعتماد على نظام عسكري صارم لأمراء العائلة السلجوقية وكبار القادة العسكريين التابعين لهم، ومن رحم هذا النظام برز عدد من القادة الكبار الذين حققوا نجاحات باهرة في مسيرة ليست للسلاجقة فقط، بل للحضارة الإسلامية كلها، وكان من جملة هؤلاء الأمراء قسيم الملك آقسُنقر وولده عماد الدين زنكي.

   

فكيف برز هؤلاء على سطح الأحداث السياسية والعسكرية؟ وما أهم الأدوار التي لعبوها؟ وما أبرز المزايا التي اشتهر بها عماد الدين زنكي؟ وكيف استطاع أن يضع اللبنة الأولى في توحيد الشام ومواجهة النفوذ الصليبي ليفتح الطريق لابنه نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي من بعده؟! ذلك ما سنراه في السطور القادمة.

   

قسيم الدولة ولصيق السلطان!

undefined

  

في عام 465هـ/1073م ارتقى إلى عرش إمبراطورية السلاجقة الكبار السلطان ملكشاه بن داود السلجوقي الذي سيمكثُ في الحكم عشرين عاما كاملة بلغت فيها الدولة السلجوقية عظمتها وقوتها، حيث كانت تحكم مساحة جغرافية هائلة تبدأ من حدود الصين في أقصى الشرق إلى سواحل البحر المتوسط، بل وحتى خليج مرمرة في مواجهة القسطنطينية (إسطنبول)، وكان يعاونه في حكم هذه المساحة الهائلة عدد كبير من أفراد أسرته مثل أخيه تُتش الذي حكم مناطق بلاد الشام الجنوبية، وابن عمه سُليمان بن قتلمش الذي حكم بلاد الأناضول وأسَّس فيها دولة سلاجقة الروم، وبعض أقاربه الآخرين في مناطق إيران وما وراء النهر وغيرها.

  

كما ساعده على ذلك جيش قوي كان جاهزا على الدوام، على رأسه قادة أوفياء ومحترفون من الأتراك والتركمان، الذين كان منهم أبو سعيد قسيمُ الدولة آقسُنقر التركماني، والد عماد الدين، ولم تُخبرنا المصادر التاريخية بتفاصيل نشأته وارتقائه في المناصب العسكرية والقيادية غير أنه كان من قبيلة ساب يو التركمانية التي يبدو أنها تمتّعت بمكانة كبيرة لفتت إليها أنظار السلاجقة الأتراك[1].

   

وقد ترقّى آقسُنقر حتى بلغ مرتبة الصداقة المتينة مع السلطان ملكشاه الذي منحه واحدا من أعظم الألقاب آنذاك وهو "قسيمُ الدولة"، أي الشريك في إدارة الدولة، يقول الذهبي في تاريخه "سير أعلام النبلاء" إنه "الأمير الكبير، قسيم الدولة أبو الفتح آقسُنقر التركي، الحاجب، مملوك السلطان ملكشاه السلجوقي، وهو جدُّ نور الدين الشهيد. وقيل: لا بل هو لصيق بملكشاه، فيُقال اسم أبيه آل تُرغان. كان رفيع الرتبة عند السلطان"[2].

      

السلطان ملكشاه بن داود السلجوقي (مواقع التواصل)
السلطان ملكشاه بن داود السلجوقي (مواقع التواصل)

    

لقد بلغ آقسُنقر منزلة الحاجب للسلطان ملكشاه، وهي المرتبة التي تُبرز مدى قربه والثقة التي أودعها ملكشاه فيه، حتى منحه هذه الوظيفة التي كانت تُخوّل له صلاحية مَن يدخل إلى السلطان ومَن لا يدخل، وظل آقسنقر في هذه الوظيفة العالية القدر حتى استجدت أحداث في شمال بلاد الشام، لا سيما مدينة حلب وما حولها، بسبب تنازع طرفين من السلاجقة للاستيلاء عليها.

  

كان الطرف الأول سُليمان بن قُتلَمش السلجوقي الذي يسيطر على مساحات شاسعة من الأناضول، والثاني تُتش بن داود أخو السلطان ملكشاه والذي أراد أن يمد نفوذه على كامل بلاد الشام وكان الحاكم المطلق لدمشق وجنوب الشام، وكانت حلب تقع في سيطرة العقيليين العرب الذين هزمهم سُليمان بن قتلمش بسهولة تامة، وكاد أن يستولي على حلب، لكن سرعان ما انطلق تُتش من دمشق إلى حلب، وانضم إليه عدد كبير من القادة التركمان في جيش سليمان، واستطاع هزيمة خصمه بسهولة، ولم يحتمل سليمان هذه الهزيمة فقتل نفسه في عام 479هـ.

   

آقسنقر وتُتش وجها لوجه

كان السلطان ملكشاه يتابع بقلق هذه الحرب الداخلية بين أفرع البيت السلجوقي على مناطق شمال الشام، وكانت استغاثة وشكوى الحلبيين قد بلغت مسامعه، فانطلق بجيوشه الجرارة من إيران، الأمر الذي اضطر أخاه تُتش إلى الانسحاب؛ إدراكا منه أنه لن يقدر على أخيه ملكشاه، ليدخل السلطان مدينة حلب في نهاية المطاف، ويرتب أوضاعها وأوضاع مناطق شمال بلاد الشام وجنوب الأناضول كلها، فأعطى حلب ومناطقها وحماة ومنبج واللاذقية وما يتبعها إلى آقسُنقر ليكون أميرا حاكما عليها تابعا للسلطان مباشرة، ثم أقطعَ أميرا آخر هو ياغي سيان أنطاكية، ومنح مدينة الرُّها وما حولها للقائد بوزان التركي، وعيّن الأمير برسُق التركماني حاكما على أملاك السلاجقة في الأناضول، وذلك في شهر شوال سنة 479هـ/يناير/كانون الثاني 1087م[3].

   

كان حُكم آقسُنقر لمدينة حلب بداية للسيطرة التركية على هذه المناطق بعد هيمنة دامت لعدة قرون للقبائل العربية من الحمدانيين والعُقيليين وغيرهم، وكانت حلب تعاني قبل مجيء آقسنقر تمزقا واحترابا أهليا، حتى تدهورت أوضاع المدينة الأمنية والاقتصادية، يقول العلامة الذهبي: "فأحسن (آقسُنقر) السياسة، وأباد الدُّعّار، وعُمّرت حلب، وقصدَها التُّجار، وأنشأ منارة جامعها، فاسمُه منقوش عليها… وصار دخلُ البلد في اليوم ألفا وخمسمئة دينار"[4].

   

ظلت المنافسة والتربص على أشدّه بين تُتش في جنوب بلاد الشام وقسيم الدولة آقسنقر في شمال الشام في حلب، حتى كانت وفاة السلطان ملكشاه في العام 485هـ/1092م واختلاف أبنائه على العرش من بعده سببا في ارتفاع أسهم تُتش الذي رأى نفسه أحق من أبناء أخيه في السلطنة، وأدرك آقسنقر أنه في هذه اللحظة سيكون أضعف من أن يقف في وجه تُتش، فأعلن مضطرا تأييده مع غيره من أمراء جنوب الأناضول، واستطاعوا السيطرة على مناطق الشام والعراق، وكان بِركياروق بن ملكشاه قد حسم الأمر لنفسه وسيطر على عاصمة السلاجقة في الري (طهران)، وحينها قرّر تُتش أن يُلاقي ابن أخيه ويقضي عليه، غير أن آقسنقر وبوزان انسحبا فجأة من تحالفهما مع تُتش وانضما إلى بركياروق، فأدّى ذلك إلى هزيمة فادحة لتُتش، فانسحب مسرعا إلى دمشق، عازما على الانتقام من آقسنقر والفتك به[5].

       

بركياروق بن ملكشاه (مواقع التواصل)
بركياروق بن ملكشاه (مواقع التواصل)

    

وبالفعل خرج تُتش إلى قتال آقسنقر في عشرين ألف مقاتل، واستطاع سحق قواته، وأسره ثم قتله على الفور، وذلك في شهر جمادى الأولى سنة 486هـ/مايو/أيار 1094م، وبعد التخلص من آقسُنقر تمكّن تُتش من أن يستولي على كامل بلاد الشام، لتنقسم عقب وفاته بين ولديه رضوان في حلب ودُقاق في دمشق، وتبدأ طلائع الحملات الصليبية في القدوم واحتلال كثير من بلدان الشام مثل الرها وأنطاكية وطرابلس وبيروت وصيدا ويافا وكامل بلاد فلسطين وفي القلب منها القدس في عام 492هـ.

  

عماد الدين وسنوات التنشئة والخبرة

كان قسيم الدولة آقسُنقر قد ترك بعد وفاته ولدا وحيدا هو عماد الدين زنكي يبلغ العاشرة من عُمره، وقد عزم كبار قادة والده وأصدقاؤه والسلطان السلجوقي بركيارُوق أن ينشأ هذا الفتى نشأة عسكرية صارمة مثل أبيه، تحت رعاية الدولة وعينها للخدمة الكبيرة التي قدّمها والده لهذا السلطان، حيث قرّر أن يُلحقه بإمارة الموصل التي حكمها عدد من الأتابكة وهم مجموعة من الأمراء الأتراك عُهد إليهم تربية الأمراء السلاجقة الصغار عسكريا مع حكم هذه الأتابكية أو الإمارة ورعاية شؤونها، وقد تتابع عليها عدد من الأتابكة العسكريين مثل كربوقا الذي كان زميل آقسنقر، فحرص على رعاية زنكي وحسن تنشئته، وشهِد معه عددا من حروبه ومعاركه منذ عام 489هـ[6].

  

ظل عماد الدين زنكي ينتقل من رعاية أمير إلى آخر من حكّام الموصل الأتراك التابعين لسلطان السلاجقة، حتى جاء الأمير آقسُنقر البُرسُقي سنة 507هـ، وكان على قدر كبير من الهمّة والشجاعة، ويدرك خطورة المشروع الصليبي وضرورة مواجهته، فاشترك معه زنكي في مواجهة هذا المد الصليبي في مناطق الرها وسُميساط وسروج، وسرعان ما فاق أقرانه، واشتهر بشجاعته وجرأته على القتال ومواجهة العدو، كما استطاع أن يكسب رضا سلاطين السلاجقة، حيث استُدعي إلى بغداد مع أميره آقسُنقر البرسقي الذي تم تعيينه شِحنة العراق وبغداد، أي المسؤول الأول على الأمن فيها، وكان جُلّ الاهتمام موجّها لصد هجمات بني مزْيَد وأميرهم دُبيس بن صدقة أمير الحلّة الذي كان يطمع في السيطرة على بغداد والقضاء على الخلافة العباسية لكونه شيعيا، مستغلا حالة من الضعف السلجوقي والعباسي في العراق[7].

  

الأتابك زنكي ومشروع التوحيد

  

سرعان ما كسب زنكي ثقة السلطان محمود بن محمد السلجوقي الذي قرّر إطلاق لقب "أتابك" عليه، وهو لقب يعني "الأمير المربي"، وجعل ولديه تحت إشرافه وتأديبه المباشر، ثم قرّر السلطان في العام نفسه 521هـ أن يعهد لعماد الدين زنكي بولاية الموصل والجزيرة الفراتية وما يفتحه من بلاد الشام، وقد كان عماد الدين زنكي مدركا منذ اللحظات الأولى لاعتلائه هذا المنصب ما يريده بالتحديد.

  

فقد عمل على تأسيس دويلة أو دولة وراثية وتوسيعها عن طريق ضم المدن والإمارات المحلية في الجزيرة وبلاد الشام وتوحيدها مع إمارة الموصل، ثم تكوين جبهة إسلامية مُتماسكة تستطيع مواجهة الصليبيين وتطردهم من بلاد الإسلام، غير أن الساحة العراقية كانت تستنزفه بسبب الصراع الداخلي بين سلاطين السلاجقة والخلافة العباسية التي كانت تطمح على يد الخليفة المسترشد ومن تلاه إلى الاستقلال بحكم العراق وطرد السلاجقة منها، الأمر الذي كان كان يضطر زنكي إلى المراوحة في علاقاته بين الجانبين السلجوقي والعباسي[8].

  

وبسبب هذا الانخراط لاقى عماد الدين زنكي هزيمة قاسية من الخليفة العباسي المسترشد سنة 525هـ قرب مدينة سامراء، فاضطر إلى الهرب صوب مدينة تكريت حيث آواه وأكرمه نجم الدين أيوب حاكم المدينة، وكانت تلك لحظة البداية لتوثيق عُرى المودة والصداقة والثقة المطلقة بين الفريقين الزنكي والأيوبي، إذ سيضطر نجم الدين أيوب وكامل أسرته إلى الخضوع لأمر الخليفة بالانسحاب من تكريت لاحقا، بعدما عرف بإيوائه لزنكي، واضطروا إلى الذهاب إلى الموصل حيث الالتجاء إلى زنكي، الذي أكرمهم وجعلهم محط عنايته ورعايته، لتبدأ مرحلة جديدة في حياة هذه الأسرة التي ستُنشئ دولتها على أنقاض دولة الزنكيين بعد أقل من نصف قرن على هذا التاريخ!

    

كانت عين عماد الدين زنكي على الدوام صوب مدينة حلب، تلك المدينة العريقة والكبيرة والتي تستطيع سكانيا وجغرافيا وعسكريا أن تُجابه النفوذ الصليبي وتقضي عليه
كانت عين عماد الدين زنكي على الدوام صوب مدينة حلب، تلك المدينة العريقة والكبيرة والتي تستطيع سكانيا وجغرافيا وعسكريا أن تُجابه النفوذ الصليبي وتقضي عليه
   

حينئذ قرّر عماد الدين زنكي الالتفات إلى الجبهة الشامية والجزيرة الفراتية التي رأى فيها خطرين عظيمين، الأول مجموعة من الإمارات والمدن الضعيفة التي يحكمها عدد من الأمراء المسلمين المشرذمين، والثاني وجود الإمارات الصليبية القوية والمتمرّسة وفي القلب منها الرُّها وأنطاكية وطرابلس التي كانت بمنزلة الكمّاشة على هذه المدن، وكان من السهولة بمكان أن يهاجم الصليبيون المسلمين في مدنهم أو تجارتهم فيقتلون ويغنمون منهم بصورة مروعة للسكان وعابري السبيل بصورة شبه دورية وبلا أي خوف من مقاومة المسلمين.

   

وبسبب ذلك؛ حسم عماد الدين زنكي أمره بتوحيد وضمّ هذه المدن، وبدأ بمدينة البوازيج قُرب تكريت والواقعة على طريق الموصل سنة 521هـ، ثم ضمّ جزيرة ابن عُمر وتقع في الشمال من الموصل لأهميتها الاقتصادية والسياسية الكبيرة، وكانت عينه على الدوام صوب مدينة حلب، تلك المدينة العريقة والكبيرة والتي تستطيع سكانيا وجغرافيا وعسكريا أن تُجابه النفوذ الصليبي وتقضي عليه في هذه المناطق الشمالية، وقد رأى عماد الدين استغلال الصليبيين لأوضاع المدينة السياسية وتنازع الأمراء الصغار للاستئثار بهذه المدينة، حيث راحوا يهاجمونها مرة بعد مرة، وهنا استغل المنشور الذي أعطاه له السلطان بحكم الموصل والجزيرة وبلاد الشام، فأرسل حاجبه إلى المدينة وسكانها يأمرهم فيها بتسليم مفاتيحها إليه والدخول في طاعته، وقد غادر الموصل في أوائل سنة 522هـ/1128م، واستطاع أن يضم في طريقه بُزاعة ومنبج وغيرها.

  

وفي هذه الأحداث يقول كمال الدين بن العديم (ت 660هـ) مؤرخ حلب: "في سنة اثنتين وعشرين وخمسمئة، في جمادى الآخرة منها وصل الأمير عماد الدين قسيم الدولة أبو سعيد زنكي بن آق سُنقر قسيم الدولة إلى حلب وملَكها، وصعَد القلعة"[9]، وقد كانت سيطرة عماد الدين زنكي على حلب في واقع الأمر عزلا لإمارة الرُّها الصليبية بين الغرب والجنوب حيث الدعم الصليبي في أوقات الحصار.

    

    

سقوط أول إمارة صليبية ونهاية البطل

حين استقرت الأوضاع لعماد الدين زنكي بضم حلب، قرّر الاستيلاء على مدينة سنجار الواقعة في منتصف الطريق بين الموصل وحلب بدعم من أهلها في عام ضم حلب نفسه، ثم تمكّن من ضمّ مدينة الخابور القريبة، وفي العام التالي استطاع عماد الدين ضمّ مدينة حرّان بمساعدة أهلها، ثم إربل في عام 526هـ، ثم الرقة ودقوقا وشهرزور ثم الحديثة وعانة على نهر الفرات، ثم كان نصره العظيم بالسيطرة على الرها والقضاء على الوجود الصليبي بها، فكان أول قائد مسلم يُحرِّر المدينة الإسلامية الأولى من الاحتلال الصليبي وذلك عام 539هـ.

   

وقد أخبرنا ابن الأثير مؤرخ الدولة الزنكية الأشهر في تاريخيه "الكامل" و"الباهر" عن إستراتيجية عماد الدين زنكي وذكائه الذي أوهم الصليبيين في الرها بمحاربته أمراء الأراتقة الأكراد في ديار بكر لضم بلادهم إلى دولته، فأمِن "جوسلين" حاكم الرها الصليبي إلى خطة عماد الدين وتحرُّكاته البعيدة عنه، فغادر المدينة مطمئنا إلى الحرب الأهلية بين القادة المسلمين[10].

    

يقول ابن الأثير عن بعض تفاصيل حصار عماد الدين زنكي لمدينة الرها الصليبية: "وكان هو (أي زنكي) أول مَن حَمَل على الفرنج ومعه ذلك الصبي (الشجاع)، وحمل فارس من خيالة الفرنج على أتابك (زنكي) عرَضا، فاعترضَه ذلك الأمير فطعنه فقتله، ونازلَ البلد، وقاتله ثمانية وعشرين يوما… وأخذ البلد عنوة وقهرا، وحصر قلعته فملكها أيضا، ونهب الناسُ الأموالَ وسبوا الذرية وقتلوا الرجال، فلما رأى أتابك (عماد الدين زنكي) البلد أعجبَه، ورأى أن تخريب مثله لا يجوزُ في السياسة، فأمر فنُودي في العساكر بردّ مَن أخذوه من الرجال والنساء والأطفال إلى بيوتهم، وإعادة ما غنموه من أثاثهم وأمتعتهم، فردُّوا الجميع عن آخره لم يُفقد منهم أحد إلا الشاذ النادر الذي أُخذ"[11].

   

  

وفي العام 541هـ/1146م كان عماد الدين زنكي قد بلغ درجة كبيرة من القوة مما دفعه إلى ضمّ قلعة جعبر المُطِلّة على نهر الفرات عملا بخطته القاضية "بألا يبقى وسط بلاده ما هو مِلك لغيره" كما يذكر ابن الأثير في تاريخه الباهر، وكانت هذه القلعة تحت حكم العُقيليين العرب، فهاجمها على حين غرّة وحاصرها، واستمر القتال حتى اليوم الخامس من شهر ربيع الآخر من ذلك العام، وبينما عماد الدين في خيمته مستريحا أثناء الحصار إذ هاجمه بعض مماليكه فقتلوه غيلة وغدرا، وقد سرد ابن الأثير كثيرا من مآثره في تاريخه، لا سيما إصلاحاته الكبيرة والمهمة في الموصل وحلب وغيرها، كما تناول أخلاقه وسجاياه الحسنة مع عامة الناس، وذكاءه وشجاعته العسكرية، الأمر الذي يضعه في مرتبة عالية من القيادة والكفاءة العسكرية الفريدة في ذلك العصر[12].

    

وهكذا كانت نهاية عماد الدين زنكي وهو فوق الستين من عُمره، ولقد استطاع هذا الرجل الفذ أن يُوحِّد مناطق شاسعة بين الموصل في شمال العراق، مرورا بالجزيرة الفراتية ومناطق جنوب الأناضول، وبين حلب في شمال بلاد الشام غربا، ويطرد الصليبيين من إمارة الرها الإستراتيجية، ويحتضن الأسرة الأيوبية التي شاركته في حروبه وجهاده الطويل، ليفتح زنكي بموته الطريق لجيل جديد يحمل راية تحرير الشام بل ومصر، وسيبزغ في ذلك الجيل اسم القائدين الكبيرين نور الدين محمود الشهيد والناصر صلاح الدين الأيوبي.

المصدر : الجزيرة