شعار قسم ميدان

الشافعي: شابا!

midan - mosque

"فغدوتُ عليه وابتدأتُ أن أقرأ ظاهرًا، والكتاب في يدي، فكلّما تهيبتُ مالكًا، وأردتُ أن أقطع، أعجبَه حُسنُ قراءتي وإعرابي، فيقول: يا فتى زِد، حتى قرأتُه عليه في أيام يسيرة".

– الشافعي متحدثًا عن نفسه قارئًا ومتعلما بين يدي شيخه مالك بن أنس.

في العام 150هـ ولد محمد بن إدريس الشافعي المطِّلِبي في مدينة غزة على شاطئ البحر المتوسط، ثمة روايات تخبرنا أن الشافعي ولد في عسقلان وأخرى في اليمن، على أن الكثرة مجمعة على مولده في غزّة. لقد ولد الشافعي في أسرة يعود نسبها إلى قريش، فهو مطِّلبي يجتمع نسبه مع نسب النبي – صلى الله عليه وسلم – مع جدّه عبد مناف، ذلك الفرع القرشي الذي تسنّم ذروة المجد في الجاهلية، وارتفع بنبوّة محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، لكن أسرة الشافعي ذاتها كانت فقيرة، وقد اجتمع مع فقر الشافعي يُتمه، حين توفي أبوه صغيرًا، الأمر الذي اضطر أمه إلى الانتقال به إلى مكَّة المكرَّمة؛ موطن آبائه وأجداده، فدخلها وهو ابن العاشرة من عُمره، وجُعلت همّة الشافعي منذ ذلك الحين طلب العلم ونيله.

 

الفتى يؤسِّسُ نفسه!

لم يشأ الشافعي أن ينطلق إلى شيخه مالك بن أنس في المدينة النبوية دون زادٍ وتأسيسٍ جديد. (مواقع التواصل الإجتماعي)
لم يشأ الشافعي أن ينطلق إلى شيخه مالك بن أنس في المدينة النبوية دون زادٍ وتأسيسٍ جديد. (مواقع التواصل الإجتماعي)


حفظ الشافعي القرآن الكريم، واُستحفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان حريصًا على تدوين هذا الطلب، فتارة كان يكتب على الخزف، وأخرى على الجلود، وانصرفت همّته في فترة فتوّته الأولى إلى تعلّم اللغة العربية في موطنها الأصلي؛ ليبتعد كل البُعد عن العُجمة التي كانت قد أخذت تغزو اللسان العربي بسبب الاختلاط بالأعاجم في الأمصار والمدائن، يقول عن نفسه: "إني خرجتُ عن مكة فلازمتُ هُزيلاً بالبادية أتعلّم كلامها، وآخذ طبعها، وكانت أفصح العرب، أرحلُ برحيلهم، وأنزل بنزولهم، فلما رجعتُ إلى مكة جعلتُ أُنشدُ الأشعار، وأذكرُ الآداب والأخبار"، وفي رواية أخرى: "أقمتُ في بطون العرب عشرين سنة، آخذ أشعارها ولغاتها، وحفظتُ القرآن، فما علمتُ أنه مرّ بي حرفٌ إلاَّ وقد علمتُ المعنى فيه والمراد
[1]."

لم تتوقف مواهب الفتى الشافعي عند هذا الحد وهو في تلك النشأة الأولى، فقد اتجهت همّته إلى أمرين آخرينِ هما تعلّم الرمي والاستزادة من طلب العلم، يقول: "كانت همّتي في شيئين: في الرمي وطلب العلم، فصرتُ في الرمي بحيث أصيب من عشرة عشرة، ثم سكتَ عن العلم، فقال بعض الحاضرين: أنت والله في العلم أكثر منك في الرمي"[2]!

هذه الحماسة الشبابية الوقّادة المتطلعة إلى الجديد، والتأسيس المنهجي واللغوي الذي تحصّل عليه الشافعي في مكَّة جعله يتطلع إلى مرحلة ثانية من مراحل الطلب والتعلم؛ مرحلة اختيار الأساتذة الذين سينال على أيديهم مزيدًا من العلم والرسوخ؛ فلقد سمِع الشافعيُّ عن إمام أهل المدينة ورسوخه في العلم والفقه؛ مالك بن أنس، لكنه لم يشأ أن ينطلق إلى المدينة النبوية دون زاد وتأسيس جديد، فقد استعار كتاب "الموطّأ" من أحد أصدقائه في مكَّة، وقرأه واستظهر رواياته، وحفظه وفهمه، ثم إذا التمسَ من نفسه استيعابًا لكلام الإمام مالك انطلق إليه؛ مؤمِّلاً ملازمته وعلمه، وقد ذهب وهو يحمل معه كتاب "توصية" من والي مكَّة حينها.

كان الشافعي في الثالثة عشر من عمره حين رآه الإمام مالك، واجتمع به، وقد علم نبوغه وعبقريته، فقال له ناصحًا: "يا محمّد اتق الله، واجتنب المعاصي؛ فإنه سيكون لك شأنٌ من الشأن، إنَّ الله قد ألقى على قلبكَ نورًا، فلا تُطفئه بالمعصية". ثم قال له: "إذا ما جاءَ الغد تجيء ويجيء ما يقرأ لك، ويقول الشافعي: فغدوتُ عليه وابتدأتُ أن أقرأ ظاهرًا، والكتاب في يدي، فكلّما تهيبتُ مالكًا، وأردتُ أن أقطع، أعجبَه حُسنُ قراءتي وإعرابي، فيقول: يا فتى زِد، حتى قرأتُه عليه في أيام يسيرة"[3].

ظلَّ الشافعي ملازمًا شيخه الحبيب مالك حتى وافاه أجله في سنة 179هـ، وحينها كان الشافعي قد بلغ من العلم منزلة وهو في التاسعة والعشرين من عُمره، لذا زكّاه بعض كبار القوم وعليتهم إلى والي اليمن، ونصحوه أن يكون قاضيًا لنجران، وهنالك "أقام العدل، ونشر لواءه، وكان الناس في نجران كما هم في كل عصر، وفي كل بلد، يُصانعون الولاة والقضاة ويتملقونهم؛ ليجدوا عندهم سبيلاً إلى نفوسهم، ولكنهم وجدوا في الشافعي عدلاً لا سبيل إلى الاستيلاء على نفسه بالمصانعة والملَق"[4].
 

الوقوف بين يدي الرشيد

دخل الشافعي بغداد سنة 184هـ، في الرابعة والثلاثين من عمره، وأخذ يدرس آخر ما توصّل إليه العقل الإسلامي في العراق.
دخل الشافعي بغداد سنة 184هـ، في الرابعة والثلاثين من عمره، وأخذ يدرس آخر ما توصّل إليه العقل الإسلامي في العراق.
هذا القاضي الشاب الذي بدأت شهرته تذيع وتنتشر بين القبائل وفي البوادي والقرى، يقول عن نفسه في تلك المرحلة المهمة: "وليتُ نجران وبها بنو الحارث ابن عبد المدان، وموالي ثقيف، وكان الوالي إذا أتاهم صانعوه فأرادوني على نحو ذلك، فلم يجدوا عندي"[5]. على أنه إذا لم يرض من الناس التملق؛ فإنه لم يكن ليرضى من الولاة تجبرهم وعسفهم وظلمهم، الأمر الذي جرّ عليه نقمة الوالي اليمني الذي أرسل إلى الخليفة العباسي في بغداد هارون الرشيد قائلاً: "يعملُ بلسانِه ما لا يقدرُ عليه المقاتل بسيفه"[6]!


أرسل الخليفة العباسي إلى واليه في اليمن باستدعاء الشافعي والنفر الآخرين المثيرين للقلاقل، لكن لحُسن حظِّ الشافعي توسّط له محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة عند هارون الرشيد، لقد دخل الشافعي بغداد سنة 184هـ، في الرابعة والثلاثين من عمره، ولعل هذه المحنة كانت تحمل في طياتها منحة؛ فقد سيق الشافعي قسرًا إلى عاصمة الحضارة والعلوم في ذلك الحين.

فقد أخذ يدرس آخر ما توصّل إليه العقل الإسلامي في العراق، وراح يقرأُ كتب الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمام أبي حنيفة النجيب، وبذلك جمعَ الشافعيُّ بين مدرسة الحجاز وإمامها مالك، وبين مدرسة العراق وإمامها أبي حنيفة عن صاحبه وتلميذه محمد بن الحسن، الأمر الذي جعل الإمام ابن حجر العسقلاني تاليًا يقول في إعجاب بشيخه الشافعي وهو لا يزال شابًا: "اجتمع [إليه] علمُ أهل الرأي (العراق)، وعلم أهل الحديث (الحجاز)، فتصرّف في ذلك حتى أصّلَ الأصول، وقعّد القواعد، وأذعنَ له الموافق والمخالف، واشتُهر أمره، وعلا ذكره، وارتفع قدره حتى صار منه ما صار"[7].

عاد الشافعي بهذا العلم إلى مكة المشرفة التي قرّر أن يعقد فيها مجلسًا للعلم، وإنه لمن اللافت أن يقابله الإمام أحمد بن حنبل، ويأخذ على يديه، ويُعجب به، وهذا ما يرويه الإمام إسحاق بن راهويه أحد مشاهير المحدّثين الذين قابلوا الشافعي قائلاً: "كنا عند سفيان بن عيينة [في مكة] نكتب أحاديث عمرو بن دينار، فجاءني أحمد بن حنبل، فقال لي: قم حتى أريك رجلاً لم ترَ عيناك مثله، فقمتُ فأتى بي فناء زمزم، فإذا هناك رجل عليه ثياب بيض تعلو وجهه السُّمرة، حسن السمت، حسن العقل، وأجلسني إلى جانبه، فقال له: يا أبا عبد الله هذا إسحاق بن راهويه الحنظلي، فرحّب بي وحيّاني، فذاكرته وذاكرني، فانفجر لي منه علمٌ أعجبني حفظه، فلما طال مجلسنا، قلتُ يا أبا عبد الله قم بنا إلى الرجل، فقال: هذا هو الرجل. فقلتُ: يا سبحان الله! أقمتَ من عند رجل يقولُ حدَّثنا الزُّهْري (العالم المكي الكبير)، فما توهّمتُ إلا أن تأتينا برجل مثل الزُّهري أو قريب منه، فأتيتَ بنا إلى هذا الشاب! فقال لي: يا أبا يعقوب اقتبس من الرجل فإنه ما رأت عيناي مثلُه"[8]!

وبهذه الرواية عن الإمامين الكبيرين ابن راهويه وابن حنبل نختم حديثنا عن الشافعي شابًا، الذي ارتفع ذكره، وأصبح بهذه المنزلة مؤسس أحد أهم المذاهب الفقهية في تاريخ الإسلام، مذهب كان ولا يزال أساسًا لا غنى عنه للولوج إلى معرفة الشريعة وأحكامها.

المصدر : الجزيرة