شعار قسم ميدان

"ميتتان لرجل واحد".. أن تسخر من الحياة وتختار الموت!

ميدان - ميتتان لرجل واحد 5

"على كل فرد أن يعتني بدفن نفسه، فلا وجود لمستحيل"

(كلمة الوداع "لكينكاس هدير الماء" حسب رواية كيتاريا آخر من كان بجانبه)

 

لم يكن خبر وفاة "جواكيم سواريس دا كونيا" المعروف بين أصدقائه الصعاليك باسم "كينكاس هدير الماء" حدثا عاديا في مدينة باهيا البرازيلية، حيث مثّل هذا الخبر فاجعة المدينة ومأساتها، وسرعان ما أخذت الألسن بتداول عدة روايات لموته المفاجئ، مرددة كلماته الأخيرة التي تضاربت حولها المرويات والشكوك! حتى يومنا هذا ليس ثمة حقيقة مجمع عليها حول وفاة الرجل، فالغموض وحده هو سيد الموقف، والثغرات تكاد تتخلل وتنخر جميع الروايات المنتشرة حول وفاته، لا شيء يبدو واضحا، لا الزمان ولا المكان ولا حتى الكلمات الأخيرة التي نطق بها!

 
يدافع الأهل بضراوة عن رواية موته الصباحي الهادئ الوديع على فراش نومه وبلا أية أحداث مصاحبة أو كلمات وداعية، "قبل عشرين ساعة تقريبا من ذلك الموت الآخر، الذي شاع وانتشر، قبيل الفجر، عندما كان القمر يلفظ آخر ذرات النور على البحر، والعجائب تتهيأ لتأخذ مكانها على ضفاف مرسى "باهيا"… حينها وبحضور شهود طيّبي السمعة من رفاق التسكع -الذين قضى معهم آخر عشر سنين من حياته- قال كلماته الأخيرة التي باتت الآن محط أحاديث الناس على السفوح والمنحدرات المشبوهة، وكانت، بحسب رأي أولئك الناس، أكثر من مجرد وداع للعالم"![1]

 
قبل ذلك، لم تكن حياة صاحبنا حياة عادية بالمرة، "فجواكيم سواريس دي كونيا" الذي عاش حتى الخمسين من عمره في كنف العائلة حياة هادئة ورتيبة، قرر أخيرا أن "يهجر العائلة والبيت ومعارفه القدامى، أن يهجر عادات حياة بأكملها، ليتشرد في الشوارع ويسكر في الحانات الرخيصة ويمارس الدعارة، أن يعيش متسخا ملتحيا يسكن في حظيرة وينام على فراش بائس"،[2] وبجملة أخرى قرر أن يتخلى عن "جواكيم سواريس" ويكون "كينكاس هدير الماء" ملك مشردي باهيا كما لُقّب بين رفاقه!

 

ميدان - رواية (مواقع التواصل الإجتماعي)
ميدان – رواية (مواقع التواصل الإجتماعي)

 

رواية "ميتتان لرجل واحد" هي واحدة من عيون أدب الواقعية السحرية التي اشتهرت بها المدرسة الأميركية اللاتينية، وقد تُرجمت هذه الرواية إلى خمسين لغة، "وأجمع النقاد على أنها تمثل -رغم قصرها- تحفة الروائي البرازيلي جورج أمادو النادرة طوال مسيرته الحافلة بالإصدارات!"[2]

 

محاولة لإعادة سرد الحكاية.. ما الذي حدث؟

منذ مستهلّ الرواية وحتى منتهاها يعبث بنا جورج أمادو ويسخر منا نحن القراء إذ نظن أن بوسعنا القبض على حقيقة ما جرى، ثمة تابوت واحد وميت واحد، لكن هناك روايات متضاربة حول ذلك الرجل المسجّى في التابوت، وحقيقة وفاته!

 
يتلاعب أمادو بقارئه، حيث يعتمد في سرده للحكاية على تقنيات "التقديم والتأخير والإخفاء والإظهار ونحو ذلك، خيوط منفردة ومتوازية يمسك بها الروائي ويلعب بها بالطريقة التي يضمن فيها الإمساك بتلابيب القارئ والاحتفاظ به لأكبر قدر ممكن من الوقت"[3]، وهكذا يجعل أمادو قارئه وسط حيرة مطبقة أمام الغموض الذي يكتنف الرواية، والذي يتجلى -منذ البداية- في عنوانها، إذ كيف يمكن لرجل واحد أن يموت مرتين!!

 undefined
 
تبدأ الحكاية على هذا النحو: "رجل في الستين من عمره يودع العالم، ونبأ موته يقلب المدينة رأسا على عقب".[4] يدفع هذا المشهد القارئ إلى التساؤل حول هوية الرجل: أتراه كان زعيما سياسيا؟ أم فنانا ذائع الصيت مات في ظروف غامضة؟ لكن أولى المفاجآت الساخرة ستكون حين يعلم القارئ أن الرجل الميت ليس سوى "كينكاس هدير الماء" زعيم مشردي باهيا وصعلوك صعاليكها!

 
يتطاير خبر موته إلى مسامع عائلته التي سرعان ما ستعمل على استعادة الجثمان وتنظيم دفن يليق بسمعة العائلة وفقا لأعرافها الأرستقراطية، كانت رغبة العائلة تتمثل بالقيام بتنظيم عزاء لـ "جواكيم سواريس دا كونيا رب العائلة الطيب والموظف المثالي في دائرة الضرائب، بحذائه اللامع، وذقنه الحليق جيدا، ومعطفه المصنوع من قماش القرمل. الرجل الذي كان يتأبط مذكرة صغيرة لتدوين المواعيد، ويصغي إلى جيرانه باحترام، حينما يتاح له أن يعبر عن آرائه في الطقس أو في السياسة"![1]

 
ومجددا، يجد القارئ نفسه محاطا بتساؤلات عديدة: من هو "جواكيم سواريس دي كونيا"؟ وما علاقته "بكينكاس هدير الماء"؟ هل نحن أمام أحجية أو فخ نصبه لنا أمادو؟ "أم هو فصام في الشخصية يتوسل به المؤلف بناء عمله الروائي؟"[4]

 
ومرة أخرى يصدم أمادو قارئه حين يكشف بعض الحقائق عن شخصية بطل روايته الموشومة بجملة من الآثار المتناقضة، فقد "عاش جواكيم سواريس إلى حدود عامه الخمسين ضمن الأطر المألوفة، رجلا مطيعا ورب أسرة محترما وأبا جيدا وموظفا مثاليا، وفجأة يهجر العائلة والبيت ومعارفه القدامى ويخلع عن ظهره عادات حياة بأكملها، ليتشرد في الشوارع ويسكر في الحانات الرخيصة، مقضّيا السنوات العشر الأخيرة من حياته في قلب العالم السفلي صعلوكا من أعتى صعاليك المدينة وقائدا فذا للسكارى يعرفه الجميع باسم "كينكاس هدير الماء"[4]، قبل أن يغادر العالم وحيدا على فراش حقير في غرفة قذرة في "طوباو"!

 

لقد كان الميت
لقد كان الميت"ممشط الشعر، حليق اللحية،يرتدي بدلة سوداء مع قميص أبيض وربطة عنق جديدة وينتعل حذاء لماعا". كان بحق "جواكيم سواريس دي كونيا النائم في تابوت يليق بملك"
 

هنا ينشب صراع حول امتلاك رواية موت الرجل بين العالميْن الذيْن عاش فيهما، حيث سيترك خبر وفاته تداعيات مختلفة على أسرته من جهة وأصدقاء حياة التشرد من جهة أخرى، فالعائلة -التي بات بمقدورها أخيرا أن تتنفس الصعداء بعد وفاة الرجل الذي ألحق بها العار حين قرر أن يحيا حياته الماجنة في سنواته العشر الأخيرة- ستبذل كل ما في وسعها لتغيير هيئة الرجل واستعادته من متشرد إلى جواكيم الزوج المطيع، وقد كلفت لتلك المهمة مؤسسة تجهيز الموتى، والتي قامت بالمهمة على أكمل وجه، "حتى أن بائع التماثيل الذي ظهر ليرى كيف تسير الأمور لم يتمالك نفسه من الهتاف: "هذا الميت شخص آخر!"[1]

 
لقد كان الميت "ممشط الشعر، حليق اللحية، يرتدي بدلة سوداء مع قميص أبيض وربطة عنق جديدة وينتعل حذاء لماعا"[1]. وبجملة أخرى كان بحق "جواكيم سواريس دي كونيا النائم في تابوت يليق بملك" كما هتفت ابنته فندا التي استطاعت أخيرا ترويض والدها واستعادة سيرته الأولى كـ" أب مثالي وزوج مطيع يكفي أن ترفع صوتها أمامه ليخفي وجهه ويعود عاقلا متصالحا معها من جديد"![1]

 
لكن جهد عمال وكالة الدفن في طمس آثار "كينكاس" واستعادة "جواكيم" لن يكلل بالنجاح التام، حيث إن أثرا بارزا لا تخطئه عين ظلّ يذكر بالصعلوك "كينكاس هدير الماء"، ويحول دون "التطابق التام بين جواكيم والميت"، وهو الأثر الذي سيُمكّن رفاقه من التعرف عليه حين يأتون لإلقاء نظرة على رفيقهم الميت!

  undefined
 
في واقع الحال، "لم يجئ الرفاق الأربعة لإلقاء نظرة الوداع على جثمان صديقهم العزيز وحسب، وإنما لتصحيح خطأ في رواية موته حين لم يقتنعوا أن كينكاس ملك مشردي باهيا الذي أقسم ألا يموت إلا بين الأمواج يمكن أن يلقى حتفه، هكذا على سرير رث في غرفة بائسة. ومن هنا سيعيدون تشكيل الحكاية من جديد!"[1]

 
وفي غرفة مظلمة تحتوي على شمعتين تجاهدان العتمة، ورجل أنيق مسجى في تابوت، يضعنا أمادو في مشهد بالغ السخرية والعبثية، حيث تلتقي العائلة برفاق "الشلة"، الذين سيجدون -في بادئ الأمر- صعوبة بالغة في التعرف على صديقهم، حيث "شعر "الطائر الجميل" بأن في الأمر خدعة، فلا يمكن أن يكون هذا الميت "كينكاس هدير الماء"، ولكنه تعرف إليه بصعوبة من خلال الابتسامة الساخرة"[1] كانت الابتسامة الساخرة التي طبعت محيّا الميت الأثر الذي بقي شاهدا على وجود كينكاس، والذي سيُمكّن رفاقه من التعرف عليه!

 
إن جميع الأحداث التي ستدور في تلك الغرفة تبرز مدى الافتراق بين الفريقين (العائلة والشلة) والشخصيتين (جواكيم وكينكاس)، فالابتسامة الساخرة التي أنكرتها العائلة كانت الأثر الوحيد الذي تعرفت من خلاله الشلة على رفيقها، وعلى هذا النحو تتعاضد جملة من المواقف المتناقضة التي تُشكّل في مجموعها مشهدا بالغ السخرية والطرافة!
  

رفاق
رفاق "كينكاس" وهم يسخرون من منظره الأنيق في التابوت! (مواقع التواصل)

 

وبعد أن ضاقت العائلة ذرعا من وجود هؤلاء المتطفلين، انسحبوا تاركين الغرفة لهم، وفي مشهد ينزع فيه أمادو عن الموت ثقله وهيبته، يقرر رفاقه أن هذه الملابس الأنيقة تحول بينهم وبين أبيهم الروحي كينكاس، فيقومون بخلعها عنه وإلباسه ملابسه القديمة الرثة الملقاة في ركن الغرفة: "لقد نزعوا عنه ثيابه قطعة بعد أخرى وتقاسموها، ثم جمع "المدهون" ملابس صديقه القديمة الرثة الملقاة في زاوية الغرفة وألبسوه إياها. وحينها فقط تمكنوا من التعرف إليه: أجل هذا هو كينكاس العجوز!"[1]

 
وفي مشهد يصل فيه أمادو ذروة التخييل الروائي، تدبّ الحياة في جسد الرجل الممدد في التابوت بعد أن تخلص من تلك الملابس المزعجة! للوهلة الأولى يشعر القارئ أن في الأمر خدعة ما وتساوره الأسئلة عن حقيقة ما جرى: هل أفرط الرفاق في الشرب إلى الحد الذي توهموا فيه أن رفيقهم قد استعاد الحياة؟ لكن أمادو سيغض الطرف عن هذه التساؤلات المحقة ويمضي في سرد أحداث تلك الليلة الرهيبة!

  

سيقوم الرفاق بحمل أبيهم الروحي كينكاس إلى حفلة أُعدّت له خصيصا في قارب الكابتن مانويل، معلنين للناس الذين لبسوا ثياب الحداد: "أيها الناس، لقد سرت إشاعة مفادها أن "هدير الماء" لقي حتفه، فخيم الحزن ولبس الناس ثياب الحداد.. إنه هنا أيها الناس، والليلة هي ليلة عيد ميلاده، وها نحن نحتفل به. سنقيم وليمة في مركب صيد الكابتن "مانويل"".[1]

  

رفاق كينكاس وهم يسيرون به نحو الشاطئ للاحتفال بعيد ميلاده!  (مواقع التواصل)
رفاق كينكاس وهم يسيرون به نحو الشاطئ للاحتفال بعيد ميلاده!  (مواقع التواصل)

 
وبحسب ما نقله رفاقه، فقد كان كينكاس في تلك الليلة "في ذروة البهجة عابثا بكل شيء، فمرة يحاول أن يعرقل "العريف" و"المدهون" معا، ومرة يخرج لسانه للمارة وكأنه يسخر من الناس جميعا، وأحيانا يميل برأسه على أحد الأبواب ليتحسس بخبث على عشيقين متلاشين بالحب، ومع كل خطوة كان يعلن عن رغبته في التمدد بالشارع!"[1]

 
وفي عرض البحر، كانت الليلة عاصفة، وقد هبت عليهم الرياح القوية، وحاصرتهم الأمواج العاتية وأظلم كل شيء حولهم، "وفي ذروة هيجان البحر، وفي قلب الخطر المحدق بالمركب المنهار، تحت وميض البرق، شاهدوا جميعا "كينكاس" يلقي بنفسه في البحر، وسمعوا كلماته الأخيرة" التي كانت تعبّر خير تعبير عن جموح روحه، والتي سخر فيها بوضوح من عائلته ومثاليتهم الزائفة، في خضم ذلك الاضطراب العميم سُمع كينكاس يقول: 

"سأدفنُ كما أشتهي،

في الساعة التي أشتهي.

يمكنكم أن تحفظوا تابوتكم إذن،

لميتة جديدة،

وميت جديد.

أمَّا أنا

فلن أترك أحدا يحبسني،

في قبرٍ أرضِّي رذيل"[1].

 

الإنسان بين المظهر والجوهر

إن التساؤل الذي يلحّ على القارئ طوال الرواية هو عن السبب الذي دفع جواكيم سواريس دي كونيا في سن الخمسين إلى هجر العائلة وحياته القديمة بأكملها، واختيار العيش متشردا في الشوارع والنوم على فراش بائس، هل كانت تلك مجرد رغبة/نزوة في أن يحيا حياة بوهيمية؟ أو أن ثمة ما هو أعمق من ذلك؟

 
على الرغم من أن جورج أمادو -كعادته في إخفاء الحقائق أكثر من إظهارها- لم يمنحنا إجابة دقيقة عن هذه التساؤلات، فإن ثمة إشارات مهمة نجدها منبثّة بين ثنايا السطور وفي الحوارات التي تجري هنا وهناك، هذه الإشارات تسعفنا في فهم التحول الذي طرأ في الشخصية المحورية في الرواية والإجابة عن هذه التساؤلات، ولعل أهم الإشارات هي تلك التي جاءت على لسان العمة ماركوس، حيث تقول: "يا لـ "جواكيم" المسكين… كان رجلا طيبا. ولم يسئ إلى أحد. لقد تملكه حب جارف لحياة التشرد هذه، وكأنها كانت قدره منذ الصغر. ألا تذكر ذلك يا "إدواردو"؟ في إحدى المرات كان يريد الرحيل مع جماعة السيرك، وحينها سلخ سلخا من شدة العقاب!"[1]

 
 

undefined

 
وتتابع العمة ماركوس حديثها موجهة إياه إلى "فندا" ابنة كينكاس قائلة: "وأمك يا صغيرتي كانت متسلطة بعض الشيء. أذكر أنه فر بعيدا ذات يوم، وحين عاد قال إنه يريد أن يكون حرا كعصفور. في الحقيقة كم كان ظريفا!"[1] إن هذه الكلمات تكشف -كما يشير إلى ذلك شوقي العنيزي- في تقديمه للرواية عن "جوهر هذه الشخصية، عن طبيعتها النشيطة الحالمة، فإلامَ انتهى هذا العصفور المتخبط داخل قفص؟… انتهى إلى التضاؤل، الغياب والتلاشي والطاعة المطلقة!"[4] ذلك أن النمط الذي كانت تعيشه العائلة هو النمط التملكي الذي يتمحور حول الأشياء، بينما كان كينكاس يتمثل نمط "الكينونة" والذي يتمحور حول الحياة بكل مافيها من عنفوان وجموح وحرية!

 
في كتابه الذي حمل عنوان "الإنسان بين المظهر والجوهر" يشير الفيلسوف وعالم النفس الألماني إيريك فروم إلى أن ثمة طريقتين لتمثّل الوجود، يطلق على الطريقة الأولى مسمى التملك، وهو النمط الذي يحوّل الإنسان إلى مجرد ترس أو شيء من الأشياء، وذلك في سعيه المحموم نحو الامتلاك والحيازة، بينما يسمّي النمط الثاني "بالكينونة"، وهو النمط الذي يعطي الوجود بكل ما فيه من خبرات وتجارب وحرية وعنفوان أولوية على الحيازة والاستهلاك![5]

 يقول شوقي العنيزي عن رواية "ميتتان لرجل واحد": أنها تنتصر للذات إزاء القوالب الجاهزة التي تحاصرها وتمنحها شكلها كل يوم، تنتصر للهامش الخلفي في وجه الواجهة الكاذبة، تنتصر للإنسان هذا الكائن الهش

يشير فروم كيف تقوم السلطة في المجتمعات التي تنتمي إلى النمط الأول "نمط التملك" بترويض الإنسان وكبح جماح روحه وتزييف وعيه وسلبه لإرادته، وإعادة إنتاجه وفقا للأنماط التي تتبناها، فيقول: "والذي يجري الحدُّ منه وكبحه هو التعبير الحرُّ العفويُّ لإرادة الإنسان، وكذا ظمؤه للمعرفة، وبحثه عن الحقيقة، ويُرغَم الشخص أثناء نموه على التخلي عن معظم رغباته واهتماماته المستقلة الأصيلة وعن إرادته الشخصية؛ ليتبنَّى إرادة غير إرادته، ورغبات ومشاعر غير رغباته ومشاعره، تفرضها كلها الأنماط الاجتماعية للفكر والشعور. وعلى المجتمع، وعلى الأسرة باعتبارها الوكيل النفسي الاجتماعي للمجتمع أن تحل المعضلة الصعبة: كيف يمكن تحطيم إرادة الشخص دون تمكينه من الوعي بذلك؟ والحق أنها قادرة بالفعل -من خلال عملية معقدة من التلقين والثواب وبَثِّ الأيديولوجية المناسبة- على النهوض بهذه المهمة على نحوٍ لا بأس به، إلى الحد الذي يجعل أغلبية الناس يعتقدون أنهم يسيِّرون حياتهم وفق إرادتهم دون أن يكونوا على وعي بأن إرادتهم ذاتها مصنوعة ومكيَّفة"[5]

 
أليس هذا هو بالضبط ما هجره كينكاس واختار السخرية منه؟ ألم يكن في حياته الأولى حبيسا لإرادات غيره ومرغما على فعل ما لم يشعر يوما بالانتماء إليه؟ ألم تكن كل تلك "المواضعات والأعراف التي انصب اهتمام العائلة بها تؤدي إلى تجريد الإنسان من ذاته وتقديمه قربانا للشكل الخارجي المخادع والصورة النمطية الثابتة حيث تتهافت الأحلام والانفعالات والهواجس والرغبات في قبر الصورة المتعالية على حقيقة الإنسان وفي سجن المظهر؟"[4]

 
إنها رواية -كما يقول شوقي العنيزي- "تنتصر للذات إزاء القوالب الجاهزة التي تحاصرها وتمنحها شكلها كل يوم، تنتصر للهامش الخلفي في وجه الواجهة الكاذبة، تنتصر للإنسان هذا الكائن الهش وقد ظل كرة تتقاذفها أرجل الأعراف والتقاليد والعائلة والمدرسة.. إلخ"[4]، وهي رواية لا بد أن توقظ في داخل كل منا "كينكاسه" الذي لطالما حاول قمعه وتقديمه قربانا للأعراف المتداولة والمكرورة!

المصدر : الجزيرة