شعار قسم ميدان

أرق كافكا.. مصدر عذاب ووقود للإبداع

midan - kafka
لأعمال كافكا طبيعة شبه كابوسية، وهي أعمال سريالية مشبعة بأجواء العزلة والأرق. حتى إن معرفتنا بأمر معاناته مع الأرق، وتدوينه معظم أعماله ليلا، وهوسه بالنوم واليقظة، لن تشكل لنا مفاجأة تذكر. وفي دراسة نشرت بمجلة ذا لانسيت لعلم الأعصاب، قدم أنطونيو بيرسياسنتي، وزميلته في البحث أليسيا كورالي، قراءة لحياة كافكا وأعماله من منظور علاقته بالنوم.

 

ما هي خلفيتك المهنية؟
أنطونيو بيرسياسنتي: أنا طبيب بقسم الباطنة في مستشفى جوريزيا بإيطاليا. ويجمعني بزميلتي في البحث وزوجتي أليسيا كورالي اهتمام بتاريخ الطب، وتحليل الفن من منظور المرض، وهو اهتمام بدأ قبل عامين تقريبا.

 

ما سبب عجز كافكا عن النوم؟
بيرسياسنتي: من الصعب معرفة نوع الأرق الذي عانى منه كافكا. ولتحديد الأسباب المحتملة، علينا النظر إلى نمط حياته واضطراباته النفسية. لقد أنتج كافكا معظم أعماله الفكرية ليلا. وفي مذكراته الشخصية، يحاول كافكا بنفسه تحليل أسباب أرقه، فيقول مخمنا "يخفي أرقي خلفه خوفا عظيما من الموت. ربما كنت أخشى أن لا تتمكن روحي، التي تفارقني خلال النوم، من العودة ثانية". وهذه اليقظة الشديدة، والميل إلى الاهتمام المفرط بالنوم، والقلق، جميعها ترجح إصابة كافكا بأرق سلوكي مزمن.

 

كانت علاقة كافكا بالنوم معقدة وهوسية ومتضاربة. فقد وصف الليل بأنه
كانت علاقة كافكا بالنوم معقدة وهوسية ومتضاربة. فقد وصف الليل بأنه "عدوي القديم"، والنوم بأنه "أكثر المخلوقات براءة"، والرجل اليقظ بأنه "الأكثر جرما"
 

كيف أثر الأرق على كافكا؟ هل كانت تجربته مع الأرق نموذجية؟
بيرسياسنتي: أثر الأرق على حياة كافكا وأعماله الأدبية أيضا. كانت علاقته بالنوم معقدة وهوسية ومتضاربة. فقد وصف الليل بأنه "عدوي القديم"، والنوم بأنه "أكثر المخلوقات براءة"، والرجل اليقظ بأنه "الأكثر جرما". اعتبر كافكا الأرق رفضا للطبيعي؛ بل وخطيئة أيضا؛ لكنه كان في الوقت نفسه يخشى النوم، لأنه يمثل منطقة يتيه فيها الوعي وتذوب فيها معالم هويته. صحيح أن الأرق سمح لكافكا بالكتابة، واللوذ بالأدب؛ لكن ذلك لم يكن كافيا لاسترضاء أشباحه. ففي رسالته إلى ميلينا يسينيسكايا، يحاول كافكا شرح العلاقة بين النوم والكتابة، فيقول: "حين أكتب إليك، في أي وقت كان ذلك، يغيب النوم عن المعادلة، سواء قبلها أو بعدها، وحين لا أكتب، أحصل على الأقل على ساعات معدودة من النعاس. حين لا أكتب أكون مجهدا، وحزينا، ومثقلا. حين لا أكتب، يمزقني الخوف والقلق".

إن تأثير الأرق على حياة شخص ما لهو أمر متغير وذاتي. فبعض الناس، مثل كافكا، يستفيدون من الأرق في إبداعهم.

 

كيف استفاد كافكا من الأرق في إبداعه؟ 
بيرسياسنتي: أقر كافكا نفسه بأن الكتابة في حالة الحرمان من النوم هذه، تسمح بالوصول إلى أفكار ليست متاحة في الحالات الأخرى. قال كافكا عن هذه التجربة: "… يا للسهولة التي يمكن لكل شي أن يقال بها، كأنها نار عظيمة أعدت للمخابئ التي تخرج منها أكثر الأفكار غرابة قبل أن تعود إلى الاختفاء فيها ثانية". أما عن دوره في هذه العملية، فقال: "كل ما أملكه هو قوى معينة، تستحيل أدبا، على عمق لا يمكن بلوغه في الظروف العادية".
يعتبر النوم، وجودة النوم، والأرق، مواضيع رئيسة في رواية
يعتبر النوم، وجودة النوم، والأرق، مواضيع رئيسة في رواية "التحول". فيظهر النوم بصورة السبب والحل لتحول جريجور وعزلته؛ حيث يعتبر عدم انتظام نوم البطل علامة على بدء خسارته لبشريته
 

لكن ما هذه الأفكار الغريبة؟ وما هي قوى كافكا التي تتيح له الوصول إلى أفكار يكاد يكون الوصول إليها مستحيلا؟ نحن نفترض أن في كلام كافكا إشارة إلى الهلوسة الهباكوكية، وأنه كان مريضا بها. فهو يقول في مذكراته "… إنها قوة أحلامي، مرة أخرى، تشرق على اليقظة، حتى قبل نومي، وهو ما منعني من النوم". يبدو ذلك وصفا واضحا لهلوسة هباكوكية، حالة هلوسة بصرية واضحة، قبل بداية النوم مباشرة.

 

عندما تنظر إلى أعمال كافكا الأدبية، ما الأدلة التي تراها على أرقه؟
بيرسياسنتي: يعتبر النوم، وجودة النوم، والأرق، مواضيع رئيسة في رواية "التحول". فيظهر النوم بصورة السبب والحل لتحول جريجور وعزلته؛ حيث يعتبر عدم انتظام نوم البطل علامة على بدء خسارته لبشريته. هذا أكيد، فهو يجد نفسه قد استحال حشرة بعد ليلة من النوم المتقطع. والأرق يؤبد هذا التجرد من البشرية، ويجعل الحل مستحيلا. إن "التحول" يرمز إلى العزلة الاجتماعية؛ لكننا نملك فرضية تفسيرية بديلة: قد تحمل الرواية كذلك إشارة إلى آثار النوم منخفض الجودة، وفترات النوم القصيرة، والأرق، على الصحة النفسية والجسدية.

 

ما المصادر التي استخدمتها في هذا البحث؟
بيرسياسنتي: استخدمنا نصوص سير ذاتية عن كافكا، وتأويلات أدبية لأعماله. إضافة إلى ذلك، كانت يوميات كافكا التي نشرت بعد وفاته من قبل صديقه ماكس برود، ومراسلاته، مثل "رسائل إلى ميلينا" و"رسائل إلى فيليس باور"، مفيدة بدرجة لا تقدر بثمن.

 

أرق كافكا يعد تأكيد جديد على العلاقة بين الأرق والإبداع، وينبغي أن يشكل ذلك حافزا آخر لدراسة الآليات المحتجبة خلف هذه العلاقة
أرق كافكا يعد تأكيد جديد على العلاقة بين الأرق والإبداع، وينبغي أن يشكل ذلك حافزا آخر لدراسة الآليات المحتجبة خلف هذه العلاقة
 
هل تعرف أمثلة أخرى على فن استقى من الأرق إلهامه؟ وهل تنصح به كأسلوب فني؟
بيرسياسنتي: هناك بالتأكيد عديد من الأمثلة على الفن المستلهم من الأرق، بما في ذلك مارسيل بروست، وفلاديمير نابوكوف، وإميلي برونتي، ووالت ويتمان، وغيرهم. لا أعرف ما إذا كان يمكن اعتبار الأرق أسلوبا فنيا؛ لكن أثره الإيجابي على الأعمال الإبداعية لبعض الكتاب أمر مؤكد.

 

ما قيمة تفهم أرق كافكا بالنسبة للعلم اليوم؟
بيرسياسنتي: إنه تأكيد جديد على العلاقة بين الأرق والإبداع، وينبغي أن يشكل ذلك حافزا آخر لدراسة الآليات المحتجبة خلف هذه العلاقة.

———————————————————————————————-
المادة مترجمة عن: الرابط التالي
المصدر : الجزيرة