شعار قسم ميدان

أمل دنقل.. التمرد على القافية

ميدان - أمل دنقل

كان الوقت شتاء. مطر الإسكندرية يتساقط رذاذا متتابعا ومنتظما بشارع بورسعيد في حي الشاطبي "منذرا كالعادة بأنه سيظل كذلك يومين أو ثلاثة، قبل أن تنجاب سحبه أو تتجمع وتسود، وتنهمر مطرا غزيرا، يظل يهطل فوق المدينة أياما متتابعة بلياليها ونهارها، حتى يغرق البحر الفسيح".

          

تحت رذاذ المطر سار أمل دنقل بجانب صديقه سليمان الفياض، تغسل قطرات الماء العذب وجهه الصعيدي المنحوت كمنحدرات خطرة، وتلمع عيناه كجوهرتين تحت سماء راعدة. حينها تنهد أمل ملتفتا لصديقه وقال: "أنا لا أعرف نفسي بعد. لا أعرف ماذا سأكون، أحب الأدب، وأحب الشعر بخاصة. وأحب ترديده حتى لنفسي في نفسي، وأحيانا بصوت مرتفع، كأنني أحدث نفسي، السياب، والبياتي، ومحمود حسن إسماعيل جدنا كلنا وعمنا الجواهري، وصلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي، هذا الفارس الطاووس، أتعرف حجازي، أنا لم أره بعد، لكنني سأراه يوما، وأُسمعه ما لم يحفظه هو من شعره."(1)

               

ويمر الزمان وتدور الأرض دورتها، فتحمل شواديف الحياة الشاعر الشاب من هدأة النهر لتلقيه في جداول أرض الغرابة، فيتفرق الدمع بين حقول الأسى وحقول الصبابة، وحين يبلغ النهر مصبه، ينتهي بأمل مستلقيا على فراش الموت بمعهد الأورام بالقاهرة .

                 

الشاعر المصري أمل دنقل
الشاعر المصري أمل دنقل
           

على الجدران صور ملونة ولوحات كاريكاتورية وقصائد شعر وعلى منضدة قريبة مزهرية تحمل وردا دائما بجوارها رسائل قد توالت من كل مكان لمواساة الشاعر الشاب وتشجيعه على إكمال رحلته المتمردة في الشعر والحياة، لكن هذه المرة أمام الموت. ومن بين تلك الرسائل كانت رسالة الشاعر عبد المعطي حجازي، الذي كان دنقل يتمنى لقاءه قديما قبل أن يصبحا أصدقاء، يقول له فيها : "لقد نزل علي خبر وجودك في المستشفى كالصاعقة، وقد اعتبرت ذلك وكأنه شيء موجه ضدي بالذات.. فأنا في حاجة إليك يا أخي، ليس هذا شعورا أنانيا، فأنت تمثل قيمة كبيرة ومستقبلا، أنت تمثل لي ولمن يحبونك وهم كثيرون جدا جدا، تمثل لنا أملا حقيقيا وقدرة أكيدة على العمل والإضافة والتجاوز والصدق مع النفس والآخرين.. وهذه بذرة تحتاج إليها البلاد حاليا.. ويحتاج إليها الشعر.. لا أبالغ".(2)

       

كانت رسالة الشاعر عبد المعطي حجازي لأمل دنقل من باريس لا تعبر فقط عن صدق المشاعر الإنسانية وعن مأساة شاعر شاب يواجه الموت، لكنها أيضا تعبر عن تخوف من نكسة قد تصيب الشعر العربي خاصة الحديث بفقدان هذا الشاعر الشاب، فقد كان دنقل يمثل أملا بازغا لصعود الشعر العربي خاصة بنسخته الحديثة، كما كان دنقل خطوة واسعة للأمام في مسيرة صعود الشعر العربي الحديث، الذي خرج مؤخرا عن نظام القافية الواحدة، المعمول بها في الشعر العمودي بشطريه، فما هو الشعر الحديث، وكيف مثل أمل دنقل نجم صعوده في العالم العربي؟

        

القافية.. عالم قديم هادئ!
في حوار صحفي أجراه الشاعر أمل دنقل داخل الغرفة رقم 8 بمعهد الأورام بالقاهرة والذي تمت إذاعته فيما بعد تحت اسم فيلم "الغرفة رقم 8″، يقول دنقل: " كنت لا أحب الشعر الحديث لأني اعتبرته هروبا من القافية ومن قيد اللغة وموسيقى الشعر العربي".(3)

             

           

هكذا، عُرف عن الشعر الحديث الذي انطلق كحركة تجديد شعري في منتصف القرن العشرين وخاصة من العراق(4) على يد مجموعة من الشعراء الجدد في ذلك الوقت مثل: نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبدر شاكر السياب، عُرف بأنه حركة تجديد في الشعر العربي نحو حرية الوزن والقافية، فتحرر الشعر الحر من الشكل القديم الذي اعتمد على العمود الشعري وتفعيلته الثابتة. 

   

وفي سبيل انطلاق الشاعر وتحرره "من قيود شكلية تعوق خياله عن الإبداع والاسترسال وتصد لسانه عن التعبير والتصوير، فقد جُرد الشعر من الوزن والموسيقى وكذلك فعلوا مع النثر".(5)

     

ففي معرض الموازنة بين النثر والشعر تتحدث نازك الملائكة عن "قصيدة النثر" فتقول: إن للنثر الفني موسيقى "تأتيه من توازن الجمل وسجعها، ذلك التوازن الذي هو أقرب إلى الوزن في الشعر، وذلك السجع هو أشبه بالقافية فيه، مما يدلنا على أنه الأصل الذي ارتقى منه الشعر، كما كان الرجز هو الحلقة الوسطى بين النثر المتوازن المسجوع وبحور الشعر الناضجة. وأن هذا الطراز من البيان العربي قد جفاه المجددون من الكُتاب أيضا حتى ولو كان عفويا متكلفا، وناله من التعريض والتنديد ما نال الشعر الموزون المقفى".(5)

         

الشاعرة العراقية نازك الملائكة، أول شاعرة عربية كتبت الشعر الحر عام 1947
الشاعرة العراقية نازك الملائكة، أول شاعرة عربية كتبت الشعر الحر عام 1947
        
ويعلق الدكتور عبد الهادي محبوبة أن التفعيلة موجودة في النثر وخاصة الفني منه، "والموسيقى توجد فيه كما هي في الشعر، لكن في الوزن موسيقى لا نجدها في غيره حتى ليخيل إلينا ونحن ننشد قصيدة موزونة، أن الوزن شيء أبعد من الموسيقى اللفظية نفسها، هو نغم المعنى الذي كان صداه الوزن".

    

ومع ذلك، يذهب الناقد الأدبي شربل داغر إلى أن "الشعر لا يسمى شعرا حسب ابن رشيق في "العمدة.." من دون قافية، كما يعرف السكاكي الشعر، في "مفتاح العلوم" بوصفه "مقفى"، هذا ما تقوله مدونات عربية قديمة وجديدة أيضا".(6)

         

undefined

            الناقد الأدبي شربل داغر

  

أما عن الحرية ومسؤولية الأمة ودورها  فقد أنشد لها الشعراء العرب في شعرهم الكلاسيكي وتغنوا بها، فهذا أبو تمام -الجد الأعظم لشعراء العربية الكبار- يقول بشفافية مثيرة للتأمل:

ولولا خلالٌ سنها الشعرُ ما درى        بغاة ُ الندى من أين تؤتى المكارمُ

      

وقد أرسى الشعر العربي القديم منظومته القيمية على أساس "مجموعة من المكارم الفردية الملائمة لطبيعة تلك العصور، من أبرزها الكرم والشجاعة وعراقة المحتد"،(7) بينما جاء الشعر الحديث انقلابا على تلك القيم ليتحدث عن مواضيع مختلفة تنتمي إلى السياق السياسي والاجتماعي للعصر الجديد. لكن يذهب الناقد الأدبي صلاح فضل إلى أن الشعر الحديث لم يكن وحده هو من تناول تلك الموضوعات،(7) فهذا الشاعر أحمد شوقي ينشد للحرية والديمقراطية قائلا:

زَمانُ الفَردِ يا فِرعَونُ وَلّى                 وَدالَت دَولَةُ المُتَجَبِّرينا
وَأَصبَحَتِ الرُعاةُ بِكُلِّ أَرضٍ             عَلى حُكمِ الرَعِيَّةِ نازِلينا

        

فما المقصود بـ"حداثة الشعر العربي"؟ هل هناك قيم ثابتة تحدد معالمها تحديدا دقيقا بحيث لا يختلف حول مفهومها اثنان من النقاد، أم أن الشعر الحديث هو كما كان دنقل يعتقد أنه هروب من قيود اللغة وموسيقى الوزن؟ فكل من لا يزن شعره ولا يلتفت إلى أي تفعيل "وكل من يعيث فسادا في العربية فلا نحو ولا تركيب، ولا دلالة ولا معنى، هو شاعر حديث"(8) حتى امتلأ واقعنا بعشرات الشعراء الذين لا يقولون شعرا ولا كلاما من الأساس؛ بل كيف دخل دنقل عالم الشعر الحديث رغم سخطه عليه في بداية حياته؟

         

الشعر الحديث.. عالم جديد شجاع
في حوار مع وليد شميط في مجلة الأسبوع العربي اللبنانية، يحكي الشاعر أمل دنقل عن نشأته فيقول: "كان والدي رجل دين وكان متزمتا، ومن هنا اكتسبت نشأتي الأولى بعض الصلابة وربما بعض الخشونة والجفاف، فلم يكن يسمح لي بأي تهاون في أداء واجباتي أو في المطالبة بحقوقي في الوقت نفسه، لقد كان والدي رجلا مثاليا في حياته العامة والخاصة، وعندما مات -وكنت في العاشرة- ظلت حياتي تسير على النمط نفسه الذي صوره قبل وفاته".(9)
            

              

ورغم  حياة أمل الصارمة تحت عيني والده كان لا يزال طفلا، لكن عندما تُوفي والده، تورط أمل في دور الأخ الأكبر وتحمّل مسؤولية البيت مع أمه، وتحت وطأة الخلاف على إرث الأرض مع أعمامه، غادر أمل الطفولة مبكرا، وجلس في موقع والده بالبيت وقد تخلى عن بعض من حياته الصارمة، إلى توق متدفق إلى الحرية، فحين كان الأطفال في سنه يحترمون العادات والتقاليد، فتح دنقل الباب على مصراعيه لقلب متمرد شجاع، يكتب قصائد الحب غزلا لفتاة في مثل سنه، فعلم أهلها وثارت ثائرتهم وحدثت المعارك والصدامات بين العائلات، بينما اهتدى دنقل لعالم سحري من الكلمات المنمقة والموزونة، فتفتحت شهيته الشعرية وأغرق بلدته الصغيرة بسيل من الهجاء الشعري المنمق الصارم. (10)

            undefined

       

ومن تجربة الغرام إلى الحب الصوفي المطلق، يتنقل دنقل حاملا مشعله لاكتشاف آفاق العالم، فيقول: "قبل حضوري القاهرة كنت أكتب شعرا في البلد ضد خطباء المساجد.. والسبب أني كنت منضما للطريقة البرهامية الصوفية، طريقة إبراهيم الدسوقي.. كنت متدينا جدا وأصلي الفجر حاضرا كنت "دائما ألاقي الخطيب يقول نفس الكلام.."، كان يقرأ الخطبة من ورقة.. وعرفت أن عنده كتابا اسمه الجواهر النثرية في الخطب المنبرية يعيده كل سنة.. وعندما قرر أحد شباب القرية أن يحل محله أحيانا كتب خطبة طويلة عن تحريم لبس الحرير والتزين.. فكتبت قصيدة في نقد ما سميته بانقسام الوعظ الديني عن حياة الناس الحقيقية، ثم استهواني هذا الاتجاه فكتبت قصائد عن الموالد والزار وعادات الختان، وعندما حضرت القاهرة تابعت هذه السلسلة بقصائد تهاجم بوليس الآداب والسينما والزحام في شارع فؤاد".(11)

            

undefined

       

فبدأ دنقل رحلته الشعرية بشعر عمودي كلاسيكي وإن كان بموضوعات جديدة، فكتب قصيدة عن فلسطين والسلاح، لكن الشاعر الصعيدي سيتنازل عن رأيه  عندما يسمع قصيدة للشاعر عبد الرحمن الشرقاوي على النمط الحديث تتحدث عن بطولات "بورسعيد". حينها سيلتفت دنقل إلى أن الشعر الحديث في جوهره امتداد للشعر العربي، وتنويع في بنيته دون أن يفقد لغته وجرسه الموسيقي، فهل يعد الشعر الحديث فعلا امتدادا للشعر العربي أم شعرا مستوردا من ثقافات أجنبية؟

        

الشعر الحر.. تكملة للحكاية
خلال محاضرة في جامعة وهران عام 1976 عن شعر لبيد بن ربيعة، وقف المستشرق الفرنسي أندري ميكائيل عند بيت من معلقة لبيد، وأطرق رأسه طويلا ثم رفعه فجأة قائلا: "أقسم أن هذا البيت من الشعر حديث جدا".

     

ويوضح الناقد العراقي عبد الهادي محبوبة أن الشعر العربي لم يكن يوما شعرا ساكنا متحجرا بل امتلك من المرونة ما سمح له أن يتطور باستمرار، حيث طرأ على الشعر العربي تجديدات في المضمون والشكل امتلأت بها سجلات تاريخه "فلم يمر على الشعر الجاهلي قرن واحد حتى دخلته أغراض جديدة بظهور الإسلام، ووجدنا الشعر السياسي مثلا عليه، ولم تمر مائة عام أخرى حتى بدأ عهد جديد دعاه النقاد بعصر الشعراء المحدثين قبال القدامى؛ لما دخل على الشعر من اتجاهات جديدة في الصياغة وأساليب التعبير على يد أبي نواس وأبي تمام، وبشار بن برد ومسلم بن الوليد، وابن المعتز وابن هرمة والشريف الرضي وسواهم".(12)

        

وفي الوقت نفسه كانت هناك محاولات تجديد في العروض "بدأ بها أبو العتاهية فنظم بأوزان لم تعرف قبله.. كما حاول هو وآخرون الخروج على قاعدة القافية الموحدة، بل أمعن بعضهم في التحرر من عمود الشعر فقال أبياتا من غير قافية.. بينما حدثت حركة في الشكل دفعت إليها الآفاق الحضارية الجديدة، قام بها شعراء الموشحات في الأندلس. وهي انطلاقة تطورية خرج بها أصحابها عن سنن الشعر القديم فنوعوا الأوزان والقوافي في القصيدة الواحدة وكان لها أثرها في كل حركة تجديد جاءت بعدها".(12)

                

لم يحز الشاعر أمل دنقل شهرة وشعبية في أوساط الشعراء والمثقفين والثوريين من فراغ، فلشهرته أساس متين من واقع الجمالية في شعره ومن موقع تألق العبقرية الأدبية في نسج هذا الشعر
لم يحز الشاعر أمل دنقل شهرة وشعبية في أوساط الشعراء والمثقفين والثوريين من فراغ، فلشهرته أساس متين من واقع الجمالية في شعره ومن موقع تألق العبقرية الأدبية في نسج هذا الشعر
           

ثم يذهب محبوبة بشكل واضح إلى أن "حركة الشعر الحر إنما هي عودة بالشعر العربي إلى أوزانه العروضية حيث جعلت من التفعيلة أساسا تعتمده في بناء البيت بعد أن نزع فريق من الشبان إلى التطرف في التحلل منها، وظن الشعر نثرا، ونظم المقطوعات المنثورة ودعاها شعرا وأضاع بذلك عنصرا أساسيا من أول خصائص الشعر، وهو موسيقى التفعيلة، لأن الوزن والقافية ليسا قيدين في الشعر من حق الشاعر أن ينطلق ويتحرر منهما وإنما هما خصيصتان من أهم خصائص الشعر الجيد ليتميز بهما عن النثر الفني".

      

وكان ذلك تحديدا هو رأي الشاعر أمل دنقل في الشعر الحر، حيث يقول "لقد كانت حركة الشعر الحر في بدايتها ترى أنك كلما ازددت تحللا من القافية ازددت اقترابا من الحداثة في الشعر، بينما كان جيلنا يرى العكس: أن القافية قيمة موسيقية لابد من الاستفادة منها حتى النهاية، ويمكن أن نقول أيضا إنه بالنسبة للجيل السابق وباستثناء بدر شاكر السياب كان هناك وقوع في أسر السهولة واليسر في تركيب القصيدة، أن تصبح القصيدة بسيطة التركيب بسيطة البناء معبرة عن فكرة واحدة، بينما جيلنا كان يرى أن القصيدة صورة من العالم، وبما أن العالم مركب فلا بد أن تكون القصيدة مركبة أيضا ولا تعطي نفسها للوهلة الأولى".(13)

       

وعن الشعر الحديث المتحرر من الوزن والقافية يقول دنقل "لا أريد أن يكون حديثي دفاعا عن الوزن والقافية؛ أريد أن أؤكد أن هذا التحلل الفني والشعري نما وازدهر لأن هناك تحللا اجتماعيا، لأن هناك تفسخا اجتماعيا وتفسخا وطنيا. الشعر الحديث عندما نشأ هوجم لأنه لا يلتزم بالوزن والقافية كما يقول أنصار الشعر القديم، ولكن هذا الاتهام لم يلق قبولا لأن الشعر الحديث كان يتبنى القيم الإيجابية في حركة المجتمع في ذلك الوقت".

         

التمرد على القافية.. الحب والثورة
لم يحز الشاعر أمل دنقل شهرة وشعبية في أوساط الشعراء والمثقفين والثوريين من فراغ  ولم يكن شاعر مثل عبد المعطي حجازي ليقول له "إن حركة الشعر الحديث في العالم العربي كله تنتظره" من لا شيء، حيث يقول الناقد عبد الملك مرتاض "إن لشهرة أمل دنقل أساسا متينا من واقع الجمالية في شعره، ومن موقع تألق العبقرية الأدبية في نسج هذا الشعر في صياغة أنيقة، وفي لغة رشيقة، وفي إيقاع متين، وفي تصوير بديع، وفي تمرد -قبل كل ذلك- في الطرح، وفي ثورة التناول والمعالجة، وفي رؤية استشرافية لم تزل تسعى إلى التعلق بمجهولات المستقبل، والإفادة من نوازل الماضي". (14)       
          
undefined

        

فقد نقل دنقل الشعر الحديث نقلة واسعة وكبيرة عندما جعله يخرج من الناس، من جمال الأشياء العادية، من سخطهم وثورتهم، من مشاعرهم الاجتماعية اليومية، جعله يحتشد بشخصيات تاريخية من تراثهم الإسلامي المعروف، يقفون في مشاهد شديدة الألفة والاعتيادية، ويتحركون داخل شوارع المدينة التي يرونها كل يوم في ذهابهم وإيابهم، فقد أعطى أمل للشعر الحديث قبلة الخلود في أذهان الشعب كله .

            

وفي سبيل أن يخلق أمل هذه الصور الشعرية كان عليه أن يستقر أولا على الشكل الذي سيتخذه، ويهتدي للطريق الذي سيسلكه، لكنه كي يختار طريقه؛ كان عليه أن يتصالح أولا مع ماضيه، فيرى نفسه في مرآة الحقيقة، ثم يثور ويرفض كل ما لم يعد يلائمه من أفكار الماضي فيقول: "في صعيد مصر وُلدت وقضيت طفولتي وكتبت قصائدي الأولى، ولا أستطيع أن أزعم لنفسي تكوينا شعريا خاصا خلاف تكويني الطبيعي كإنسان فلقد ذهبت إلى الشعر وليس معي زاد إلا محبتي له وسلطانه علي، لقد زعموا في البداية أن من يحفظ ألف بيت من الشعر صار شاعرا، وهكذا بدأت رحلتي من إمرئ القيس إلى محمود حسن إسماعيل حفظا واستيعابا، كذلك قرأت وحفظت مسرحيات شوقي وعزيز أباظة الشعرية".(15)

         

أما المرحلة التالية من حياة دنقل فيقول عنها "كانت دراستي الجامعية في القاهرة الخطوة الثانية في طريق البحث عن الشعر، كنت قد اكتشفت من زمن أن علاقتي بالشعر تحددت فيما يسمى بالشعر الحديث، واستطاعت القاهرة أن تضيف إلى ذهني أن الحداثة ليست شكلا فقط، وإنما تمتد للمضمون، كما أنها حداثة في الرؤيا، لا أزعم أنني اكتشفت نفسي في هذه المرحلة، وإنما اكتشفت بالثورة على عمود الشعر وعلى الشكل التقليدي طريق الثورة على العالم والواقع والمسلمات، هذه الأمور كانت تشغل وتملأ حياة شاب مصري قادم من الصعيد لا يملك إلا كتبه وأحلامه في أن يصبح شاعرا في يوم من الأيام".(15)

      

undefined   

        

لكن الشاعر كي يكون شاعرا يجب أن يفتح قلبه للعالم، فالرؤية بالقلب هي وحدها ما تجعل الشاعر شاعرا، وهكذا انطلق دنقل إلى الإسكندرية حيث تفتحت زهرة شعره وانساب رحيقها من شواطئها وقمرها وشوارعها الليلية وبرودتها الحزينة، وبها تفجرت لدى دنقل ينابيع العاطفة، فكتب بها أولى قصائده الرومانسية "مقتل القمر" وفي مقدمتها "إهداء إلى الإسكندرية.. سنوات الصبا":

         

ملاكي: أنا في شمال الشمال

أعيش.. ككأسٍ بلا مدمن

غريب الحظايا، بقايا الحكايا

من اللّيل لليلِ تستلّني

هي إسكندريّة بعد المساء

شتائيّة القلب والمحضنِ

شوارعها خاويات المدى

سوى حارس بي لا يعتني

(من قصيدة رسالة من الشمال)

                

ﻳﻨﺰﻝ ﺍﻟﻤﻄﺮ

ﻭﻳﺮﺣﻞ ﺍﻟﻤﻄﺮ

ﻭﻳﻨﺰﻝ ﺍﻟﻤﻄﺮ

ﻭﻳﺮﺣﻞ ﺍﻟﻤﻄﺮ

ﻭﺍﻟﻘﻠﺐ ﻳﺎ ﺣﺒﻴﺒﻲ ﻣﺎ ﺯﺍﻝ.. ﻳﻨﺘﻈﺮ

(من قصيدة المطر)

                 

                        

لكن قلب الشاعر لايملؤه الحب إلا إذا كان عظيما دافقا، ومعطاء غامرا، "وما كان لأي حب من فتاة مبتذلة أن يروي ظمأه إرواء ويسقي صداه سقيا "فنراه يفتح بوابات شعره على الحب ثائرا على كل الفوارق والقيود الاجتماعية، ليبتدئ دنقل ثورته منذ ديوانه الأول، ثورة عاطفية عارمة، ليعبر بها عن تمرد الحب على القافية وتمرده على العالم، ففي قصيدة "قالت" يصور لنا الشاعر بعضا مما نشب في قلبه وعقله:

قالت: تعال إليّ

واصعد ذلك الدرج الصغير

قلت: القيود تشدّني

و الخطو مضنى لا يسير

مهما بلغت فلست أبلغ ما بلغت

وقد أخور

درج صغير

غير أنّ طريقه..  بلا مصير

فدعي مكاني للأسى

وامضي إلى غدك الأمير

فالعمر أقصر من طموحي

و الأسى قتل الغدا

***

قالت: سأنزل

قلت: يا معبودتي لا تنزلي لي

قالت: سأنزل

قلت: خطوك منته في المستحيل

ما نحن ملتقيان

رغم توحّد الأمل النبيل

.. .

نزلت تدقّ على السكون

رنين ناقوس ثقيل

و عيوننا متشابكات في أسى الماضي الطويل

تخطو إليّ

و خطوها ما ضلّ يوما عن سبيل

و بكى العناق

و لم أجد إلاّ الصدى

إلاّ الصدى

      

لكن الشاعر لا يكتفي بالثورة على الفوارق الاجتماعية، بل غايته أن يدمرها تدميرا حتى لا تحول بينه وبين ما يريد "فهو لو لم يكرس في نفسه هذا المبدأ لما امتدت عيناه إلى امرأة ذات مستوى اجتماعي أعلى من مستواه، وفي الحقيقة هي لم تدعه يصعد إليها، ولا هي قررت أن تنزل إليه، وإنما الشخصية الشعرية هي التي استبد بها النظام الاجتماعي، في لحظة وعي شعري، فأقر بأن القيود تكمن في أن الفقير فقير، والغني غني، ومن العسير إلغاء هذه المسافات الشاسعة بين فتى هو من الفقر المدقع بمكان، وفتاة ميسورة تبدو مالكة لكل شيء: المال والجمال والمكانة والجاه".(15)

        

وحينما يتفجر الحب ويتولى القلب عين البصيرة، فهو لا يقبل بأقل من ثورة لا تبقي ولا تذر، فينتقل دنقل من شرارة الحب لشرارة الثورة في ديوانه التالي، والذي سيعيد فيه رسم شخصيات تاريخية متمردة، لكنها هذه المرة تخرج من شوارع المدن العربية، ليرى الناس جراحها وآلامها عساهم يتعلمون منهم الثورة

يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين

منحدرين في نهاية المساء

في شارع الإسكندر الأكبر:

لا تخجلوا.. و لترفعوا عيونكم إليّ

لأنّكم معلقون جانبي..  على مشانق القيصر

فلترفعوا عيونكم إليّ

لربّما..  إذا التقت عيونكم بالموت في عينيّ

يبتسم الفناء داخلي..  لأنّكم رفعتم رأسكم..  مرّة!

"سيزيف" لم تعد على أكتافه الصّخرة

يحملها الذين يولدون في مخادع الرّقيق

و البحر..  كالصحراء..  لا يروي العطش

لأنّ من يقول "لا" لا يرتوي إلاّ من الدموع

     

كما سيجري دنقل كلمات الثورة والتمرد على لسان كليب وائل، أعز العرب:

لا تصالح على الدم.. حتى بدم!

لا تصالح! ولو قيل رأس برأس

أكلُّ الرؤوس سواء؟

أقلب الغريب كقلب أخيك؟!

أعيناه عينا أخيك؟!

وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك

بيدٍ سيفها أثْكَلك؟

سيقولون:

جئناك كي تحقن الدم..

جئناك. كن -يا أمير- الحكم

سيقولون:

ها نحن أبناء عم

قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك

واغرس السيفَ في جبهة الصحراء

إلى أن يجيب العدم

إنني كنت لك

فارسًا،

وأخًا،

وأبًا،

ومَلِك!

                        

            

هكذا، استخدم دنقل تراكيب حديثة لنقل تمرده على القافية، حيث يقول دنقل عن موسيقاه الشعرية الجديدة "موسيقى شعري ليست موسيقى غنائية في حقيقة الأمر، وإنما هي تقوم على استغلال الإيقاعات في اللغة نفسها فشعري ليس غنائيا، بمعنى أن كمية الأفكار والفكر فيه أكثر من أن تكون للغناء، فللغناء عادة معنى بسيط مباشر، يعني "الحب الذي مات" يتكرر في صور وكلمات مختلفة، لكن القصيدة الحديثة قصيدة مركبة وذات بناء مركب". (17)

       

لكن أمل الذي خطا بالشعر الحديث كل تلك النقلة في التراكيب والأفكار، كان متشائما تجاه المستقبل حيث قال خلال حوار صحفي: "إذا أردت أن أحدثك عن المستقبل القادم فأنا أعتقد أنه سيكون فترة ضياع.. بمعنى أنه مستقبل أمة فقدت حلمها، بغزو ثقافي وفكري وتبنّ للمنجزات المدنية الغربية".(17)

          

فبصيرة الشاعر قد أنبأت أن المزالق الخطرة التي دخلها الشعر الحديث من تحرر من القافية والوزن وأحيانا الموسيقى بشكل كامل، دفعت لظهور أشعار ركيكة ليست بشعر وانهارت الحياة الثقافية والشعرية بالوطن العربي بعد موته بفترة، وهذا كله يفتح الحديث مرة أخرى عن الشعر الحديث وعن مسؤولية الحرية فيه، فالشاعر الذي يسيء استخدام الحرية في شعره، يُخرج لنا أشعارا متحللة ومفككة تسيء لفكرة الحرية نفسها.

المصدر : الجزيرة