شعار قسم ميدان

هكذا أثَّرت الحضارة المصرية القديمة في روايات أجاثا كريستي

midan - رئيسية اجاثا

عندما كتب الكاهن المصري القديم وأحد ملاك الأراضي حيكاناخت سلسلة من الرسائل الدقيقة على ورق البردى[1] لعائلته الممتدة خلال حكم الأسرة الثانية عشر في مصر (1991-1802 قبل الميلاد)، لم يكن يعلم أنه كان يضع إطاراً حولته مؤلفة قصص الجرائم البريطانية أغاثا كريستي (1890-1976) -بعد حوالي 4000 سنة- نسج إحدى أولى روايات الجريمة التاريخية في العالم.

 

رواية "في النهاية يأتي الموت" الصادرة عام 1944 هي الرواية الوحيدة لكريستي التي لم تَدُرْ أحداثها  في القرن العشرين ولم تتضمن أي شخصيات أوروبية. إن موت إحدى محظيات الكاهن يؤدي إلى سلسلة من عمليات القتل داخل العائلة، وكما هو الحال في كتب كريستي الأكثر شهرة في القرن العشرين، فإن المشهد يكتسي بالجثث. ومن المقرر أن يتم تحويل الكتاب إلى مسلسل تلفزيوني من قبل هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) في عام 2019.

بردية

تتميز رسائل حيكاناخت بالعديد من المؤامرات والحبكات المتوازية؛ كما أنها تقدم لمحة لا مثيل لها في إدارة الأراضي والحياة الأسرية اليومية في مصر القديمة. يقدم حيكاناخت في الرسائل لأطفاله حسابات دقيقة من غلة المحاصيل وتعليمات لاستثمارات الأراضي، يتبعها الأمر الزجري الصارم بأنه سيعتبر أي انحراف عن تعليماته أشبه بالسرقة. تحتوي الرسائل أيضاً على تلميحات إلى بعض التنافر داخل العائلة بسبب قدوم زوجة حيكاناخت الثانية إلى الأسرة، كما هو الحال في الرواية التي يكون فيها وصول محظية إمحوتب "نوفرت" مثيراً لكراهية قاتلة.

 

تتسم رسائل حيكاناخت بالبساطة في محتواها ولكنها فريدة في شكلها: من النادر جداً لهذا المستوى من التفاصيل المتعلقة بديناميكيات العائلة البقاء لآلاف السنين التي تفصلنا عن المصريين في المملكة الوسطى. تم العثور على الرسائل عام 1920 على يد علماء آثار أمريكيين من متحف متروبوليتان للفنون أثناء حفر قبر وزير المملكة الوسطى "إبي" بالقرب من مدينة الأقصر الحديثة. وتبع ذلك بعد قليل ترجمات البرديات والتحقيقات العلمية، وهي دراسة استمرت حتى يومنا هذا.

 

أغاثا كريستي في مصر

عرفت كريستي أمراً أو أمرين عن مصر القديمة والحديثة؛ كانت قد زارت البلد في البداية شابة في شتاء عام 1910 حيث بقيت مع والدتها كلارا لمدة ثلاثة أشهر في فندق قصر الجزيرة الساحر[2]. كانت التجربة لها تأثير واضح عليها حيث وضعت سياق أول رواية (غير منشورة) لها "ثلوج على الصحراء" في القاهرة والتي كتبتها في ذلك العام.

 

أشارت بعد ذلك إلى تجربتها في الحياة في مصر وتجربة السياح الذين يزورون البلاد خلال النصف الأول من القرن العشرين عند كتابة القصة القصيرة "مغامرة القبر المصري" (1923) وبعد 14 عاماً من رواية "الموت على النيل" التي تتبع المحقق البلجيكي هيركيول بوارو وهو يحاول حل جريمة قتل وريثة ثرية كانت تقضي شهر العسل في أرض الفراعنة، اتسمت الجريمة بالتعقيد وجادل البعض أنه ليس هناك داع للتحقيق بقضية بهذا التعقيد. وبعبارة أخرى، كانت هذه الرواية تعبر عن أسلوب كريستي في الكتابة وسرد القصة تماماً.

أجاثا كريسي وزوجها ماكس مالوان (مواقع التواصل الاجتماعي)
أجاثا كريسي وزوجها ماكس مالوان (مواقع التواصل الاجتماعي)

عزز زواج كريستي من عالم الآثار البريطاني ماكس مالوان في عام 1930 انبهارها بالشرق الأدنى القديم ومصر القديمة. زودها الزواج والنجاح المالي لرواياتها بفرصة كافية للسفر كسائحة وعالمة آثار في المنطقة وعيش تجارب أدت بدورها إلى كتابة سيرتها الذاتية "تعال أخبرني عن كيفية عيشك" والتي نشرتها عام 1946. وألهمتها بكتابة سفريات أخرى خاضها المحقق البلجيكي الخيالي في رواية "جريمة في بلاد الرافدين" والتي صدرت عام 1936 و"موعد مع الموت" والتي نشرت عام 1938.

 

مصر في رواياتها

إضافة لذلك، كانت صداقتها مع عالم المصريات[3]  ستيفن غلانفيل -وهو أستاذ في كلية لندن الجامعية- خدم مع مالوان خلال الحرب العالمية الثانية، مما دفع كريستي إلى استكشاف إمكانية كتابة قصة تاريخية تنتشل روايتها من غرف الرسم من طراز آرت ديكو[4] إلى الغرف الترابية. الصحراء على الضفة الغربية لمدينة طيبة الجنائزية (الأقصر حالياً). كتبت كريستي "في النهاية يأتي الموت" خلال ذروة الحرب، وكما ذكرت في مذكرة المؤلف: "استلهمت كل من الشخصيات والمؤامرة" من خطابات حيكاناخت. خدم غلانفيل كمستشار لسبر التاريخ، وهو دور ناسبه بشكل كبير إذ كان قد كتب كتابًا معتمداً "الحياة اليومية في مصر القديمة" في عام 1930.

 

في حين أن الكتاب تلقى المديح من النقاد عند نشره عام 1944، إلا أنه تسبب في بعض الاضطراب في حياة كريستي العائلية؛ لم يكن مولوان سعيداً تماماً لأنها تعاونت مع غلانفيل. كتب إلى غلانفيل معبّراً عن قلقه بشأن العمل الذي أجاب عليه غانفيل بنبرة حادة نوعاً ما: "لست واثقاً ما إذا كنت تخشى أن يضر الكتاب بسمعتها ككاتبة قصص بوليسية، أم ما إذا كنت تعتقد أن علم الآثار لا ينبغي أن يحط من قدر نفسه من خلال تنكره في رواية".

ليست "في النهاية يأتي الموت" من بين أعمال كريستي الأكثر شهرة، لكنها لا تزال تجربة رائعة: تزاوج وامتزاج بين الآثار وعلم المصريات والأدب القصصي، وهي صيغة اتبعها العديد من المؤلفين اللاحقين لكريستي. جنباً إلى جنب مع أعمال كريستي الأخرى التي جرت أحداثها في مصر والشرق الأدنى فهي أيضا شهادة ملموسة على انبهار المجتمعات الغربية الدائم لهذه الثقافات القديمة.

—————————————————————-

هوامش

[1] ورق البردى: يطلق اسم البردى على نبات مائي عرفه المصري القديم منذ آلاف السنين، وقد اشتهر هذا النبات عبر التاريخ لاستخداماته العديدة في الحياة المصرية القديمة ومن أشهرها الكتابة.

[2] قصر الجزيرة: من القصور الملكية المصرية لأسرة محمد علي، ويقع القصر في حي الزمالك في الجزيرة على نهر النيل غرب وسط القاهرة.

[3] علم المصريات: هو أحد فروع علم الآثار، يختص بدراسة تاريخ مصر القديمة ولغتها وآدابها ودياناتها وفنونها.

[4] آرت ديكو (Art Deco): هي موجة تصميم شعبية راجت بين عامي 1920 و1939، أثرت بالعديد من الفنون كالعمارة والتصميم الداخلي والفنون البصرية مثل الموضة والرسم والتصميم الرقمي والسينما وتصميم المجوهرات.جمع هذا الطراز بين العديد من الأشكال الفنية التي ظهرت في بداية القرن العشرين، خصوصاً التكعيبية والحداثية والفن الجديد.

—————————————————————-

ترجمة (الاء أبو رميلة)

هذا التقرير مترجم عن: The Conversation ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان

المصدر : مواقع إلكترونية