شعار قسم ميدان

نجيب محفوظ.. هل فشل صاحب نوبل للأدب بالكتابة للمسرح؟

midan - نجيب محفوظ

"قد يقال فيما يختص بمستقبل الرواية أن الطابع الجديد للعصر هو طرح الأسئلة ومحاولة الإجابة عليها، وأن الجدل العقلي هو الصفة الغالبة للتفكير المعاصر، وبالتالي فإن الشكل الأدبي المناسب لأزمة العصر هو فن المسرح، باعتباره الشكل الفني الذي يرتكز أساسًا على الجدل والحوار وصراع الأفكار وفنون الفرجة".  

( نجيب محفوظ )

     

يحكي نجيب محفوظ ضمن ما يحيكه عن ابنتيه أنهما في مرة كانت تُعرض مسرحية له على التلفزيون فقاما إلى النوم وتركاه وحده، (2) نجيب محفوظ، الكاتب المصري الذي لولا الكتابة لأصبح مغنيًا (3)، صاحب نوبل، والإنتاج الغزير من الرواية والقصة، وكتابة الشعر قبلهما، والسيناريو إلى جانبهم، جرب حظه في كتابة المسرح، ولكن، هل نجح؟
 

محفوظ ومسرح العبث

واكبت بداية نجيب محفوظ مع التجريب في كتابة المسرح صعود المسرح العبثي في أوروبا وانتشاره الذي بدأ في خمسينيات القرن العشرين بعد الحرب العالمية الثانية. أُعجب محفوظ بهذا التيار، خاصة كتابات يوجين يونسكو وجان بول سارتر وألبير كامي، لانطباق الشكل على المضمون، فـ"الشكل يدخل في إطار اللامعقول أو العبثي وكذلك المضمون".

 undefined

 

كان محفوظ قد قرأ مسرحية "نهاية اللعبة" لصمويل بيكيت، وكتب عنها مقالة نقدية في جريدة المساء المصرية، يشرح فيها ما يقصده (أي بيكيت). ومع هزيمة يونو 1967، شعر أنه قد فقد اتزانه، وأن الشكل الواقعي البسيط لم يعد صالحًا للتعبير عن هذه الحالة التي كانت في رأيه أٌقرب إلى مسرح العبث.

 

 وجد محفوظ نفسه مدفوعًا لتيار اللامعقول، لأنه كان -بالنسبة له- أكثر تعبيرًا عن الحالة التي كنا نعيشها، فكتب تحت المظلة والتي تعتبر أقرب أعماله إلى تيار العبث. (4) والملاحظة التي لابد من الالتفات إليها هي أن أول مجموعة قصصية ظهرت له في الأربعينيات بعنوان "همس الجنون" كانت فيها نزعة أقرب إلى اللامعقول ولكنه لم يصنفها تحت هذا التيار، لأن موضوعها كان يستدعي أن تأخذ هذا الشكل، على عكس "تحت المظلة" التي اقترب فيها من هذا التيار. (5)

 

الجو كان ملائمًا للتجريب في ذلك النوع من المسرح وقتها – بعد هزيمة 1967- حيث لم يعد هناك مساحة لاستقبال الدراما الكلاسيكية وبنيتها الطويلة مع العقدة وتصاعد الصراع الدرامي بصورته التقليدية، وفي المقابل وفر ذلك النوع من المسرح بقصره (في الغالب المسرحية تكون من فصل واحد) وسرعة الإيقاع ووحدة المكان والمشاهد وقلة عدد الشخصيات، وحتى الأداء التمثيلي كان قد تحرر من الانفعالات المبالغ فيها والحدة الزائدة 

    

undefined

      

ولم يكن نجيب محفوظ وحده من اتجه إلى كتابة العبث في هذه المرحلة، بل خاضها مسرحيين عرب ليواكبوا الموجة السائدة والرائجة في العالم كله مثل توفيق الحكيم (يا طالع الشجرة ومصير صرصار) ومحمود دياب وألفريد فرج ويوسف إدريس (الحكيم والبهلوان). (6)
 

مسرح محفوظ 

كتب نجيب محفوظ ثمان مسرحيات هي (بالترتيب التاريخي): يميت ويحيي، التركة، النجاة، مشروع للمناقشة، المهمة (مجموعة القصصية: تحت المظلة)، المطاردة (مجموعة الجريمة) الجبل، الشيطان يعظ (مجموعة: الشيطان يعظ) وأعادت دار الشروق بمصر طبع المسرحيات تحت عنوان "المسرحيات". والغريب أن محفوظ لم يجمع مسرحياته في كتاب أثناء حياته، والطبعة التي أصدرتها الشروق – لأسباب تسويقية في الغالب- ظهرت سنة وفاته. (7)

  

 السبب غير معروفًا يقينًا لماذا لم يشأ محفوظ أن يفرد كتابًا مستقلًا لمسرحياته وهو الأعلم بأسبابها الفنية ودوافع كتابتها، وهو لم يكن كاتبًا ساذجًا أو على درجة من الإهمال ليهمل منجزه المسرحي، ولماذا كان يضم مسرحياته إلى مجموعاته القصصية؟ وبجانب ذلك، فلم تحظى المسرحيات باهتمام نقدي كبير سواء بالسلب أو بالإيجاب، حتى أنه ممكن ألا يعرف البعض أن محفوظ كتب مسرح من الأساس.

  

إن كان الغرض بالنسبة لمحفوظ هو تجربة الكتابة المسرحية، فعدد المسرحيات (8 مسرحيات) أكبر من مجرد رغبة في التجربة. وإن كان لم يجد نفسه ناجحًا في كتابة المسرح، فلماذا عاد إليه مرة أخرى بعد مدة طويلة؟ حيث نُشرت نصوص نجيب محفوظ المسرحية الخمس الأولى بجريدة الأهرام، فيما بين أكتوبر وديسمبر من عام 1967 وضُمت إلى مجموعة من القصص القصيرة التى نشرت أيضًا بنفس الجريدة وفى نفس الوقت ضمن كتاب حمل عنوان واحدة من هذه القصص وأشهرها وهو تحت المظلة عام 1969. وظهرت المسرحية السادسة من أعمال محفوظ المسرحية وهي "المطاردة" ضمن مجموعة "الجريمة وظهرت عام 1973، وظهرت السابعة "الجبل" والثامنة "الشيطان يعظ" ضمن مجموعة حملت ولأول مرة اسم واحدة منها وهي "الشيطان يعظ" عام 1979.

   

  undefined

كل هذا يُبقي مسرح محفوظ في موضع الغموض، فبالنسبة مثلًا لشعره، صرح أنه كان يتعلق بصورة ما بحياته العاطفية ولم ينشره لأنه كان ابن مرحلة ما. اليوميات والمذكرات ورابهما لأنه-كما يقول- صرح بمعظمها في أحاديث ومواضع كثيرة (8). إذن يبقي الكل، كل انتاجه: قصة ورواية وشعر وسيناريو، مفهومًا إلا مسرحه.

  

القصة في ثوب المسرح

تحولت معظم أعمال محفوظ الروائية والقصصية إلى أفلام ومسرحيات، أما ما كتبه من أجل خشبة المسرح فكان قليل الحضور. ومن أشهر العروض المسرحية عن مسرحيات محفوظ، كان عرض من إخراج أحمد عبد الحليم عام 1969، حيث قُدمت ثلاث مسرحيات من ضمن الخمسة الموجودين في "تحت المظلة" في عرض واحد. ونص الشيطان يعظ قدمه المخرج أحمد إسماعيل مرة في عرض، ومرة أخرى قدمه شريف عبد اللطيف على المسرح القومي في حفلات عام 1979. (9)
    

  
ربما أراد نجيب محفوظ أن يستفيد من رواج الحركة المسرحية في ذلك الوقت، لكن مسرحه على عكس ما كان يأمل، لاقى إما تهميشًا كبيرًا أو نقدًا سلبيًا. وجلال العشري من أشهر من تعرضوا لمسرح محفوظ بالنقد:" إننا لا نكاد نحس بنبض الشخصية، ولا بعفوية الحوار، ولا بسخونة العلاقات، ولا بدموية الصراع، ولا بضجيج العلاقة بين الرجل والمرأة، ولا بشيء من هذا الذي يجعل من المسرح صورة مصغرة للحياة باعتبار أن الدنيا مسرح كبير".

 
والنقد السلبي كان له أثر كبير في تراجع نجيب محفوظ عن كتابة المسرح، وإعلانه في أكثر من مرة أنه ليس كاتبًا مسرحيًا. (10) وربما يكون ذلك تفسيرًا لعدم ضم مسرحياته في كتاب مستقل.

  

عالم نجيب محفوظ ورؤيته للحياة والمجتمع، ونظامه الخاص ومفردات قاموسه، كل هذا لم يطاوعه في الولوج لقالب مسرحي أكثر ملائمةً ليكون فنًا مسرحيًا، وإنما أخذت شكله فقط مع الميل إلى كونها قصص. وربما لهذا السبب هو نفسه ضمها إلى مجموعات قصصية. كي يتكئ المسرح على القصة، وتتكأ القصة على المسرح.

  

اعتمد محفوظ في مسرحياته على قدراته وألعابه السردية في كتابة القصة القصيرة، لأنها ربما تكون أقرب الأجناس الأدبية إلى الجنس المسرحي، ولكن السرد عدو الدراما، فكانت قوة محفوظ (معلم السرد) في الغالب ضده. والمسرحيات التي كتبها محفوظ أقرب لقصص قصيرة في شكل مسرحي.