شعار قسم ميدان

أدب ساراماغو.. حين يدهشك التشاؤم ويمتعك الاكتئاب

midan - جوزيه
اضغط للاستماع
         
"اقترح بعضهم أن تذهب مجموعة منهم للحديث مع العمدة، مقدمين له تعاونهم المخلص وشارحين له أن نيّات هؤلاء الذين أدلوا بأصوات بيضاء لم تكن لهدم النظام واعتلاء السلطة، فهم حتى لا يعرفون كيف يتصرفون مع السلطة لو جاءتهم، وأنهم إن كانوا قد صوتوا كما صوتوا فلأنهم كانوا خائبي الأمل ولم يجدوا طريقة أخرى ليعبروا مرة واحدة عن خيبة أملهم هذه، فقد كان في استطاعتهم القيام بثورة، لكن نتيجة الثورة دماء أناس كثيرين وهو ما لا يرغبونه، فطيلة حياتهم وبصدر رحب كانوا يُودِعون أصواتهم في الصناديق الانتخابية وكانت النتائج على مرأى من الجميع، وهذه ليست ديمقراطية ولا شيء سيدي العمدة"(1).

    

يروي ساراماجو قصة البلدة التي استيقظت على ثورة الأصوات البيضاء، تبدأ القصة بنباح كلب في يوم ممطر كان من المقرر أن يكون أول الأيام الانتخابية ولكنّ أحدا لا يحضر للإدلاء بصوته، ترتبك الحكومة أيما ارتباك، وتُرجع عزوف الناخبين إلى سوء حالة الطقس، ويوما بعد يوم تتوالى الأيام الانتخابية ويتوافد الناخبون دون اتفاق سابق ليدلوا بأصوات خالية من أي رأي هذه المرة، أوراق انتخابية بيضاء تماما، يجن جنون الحكومة كلما زادت تلك الأصوات وزاد توافد أصحابها، ورغم أن حق الإدلاء بأصوات بيضاء حق يكفله الدستور فإن الحكومة تشن حربا ضروسا تنال من أصحاب الأصوات البيضاء وتشيد بجهود من أسمتهم المواطنين الشرفاء وهم المواطنون الذين يدلون بأصوات انتخابية صحيحة، والجدير بالذكر أن هذه البلدة هي ذات البلدة التي أصيب جميع سكانها بعمى أبيض مفاجئ عدا امرأة وحيدة هي زوجة طبيب البلدة، تنتقل البلدة خلال روايتين لساراماجو من عمى أبيض مطبق إلى بصيرة حادة، ليخرج بروايتين تتنافسان في بث الرعب أيكون العمى مرعبا أكثر أم حدة البصيرة؟

  

تعرض الرواية وجهة نظر ساراماجو أن الديمقراطية التي تسعى لها الحكومة هي ديمقراطية الـ (نعم) أو تحمُّل عواقب الـ (لا) التي دائما ما تكون وخيمة بين قتل واعتقال وتنكيل، وبعد العديد من المفاوضات والاجتماعات والبيانات الحكومية والصحفية والجهود المستمرة للكشف عن هوية المحرض على هذه الثورة البيضاء، تشير جميع الأصابع إلى زوجة الطبيب، وكأن البلدة تُعاقبها أنها أبصرت حين عمي الجميع، تُقتل المرأة في النهاية ويُقتل المأمور الذي ساعدها وتعود الحكومة إلى تطبيق ديمقراطيتها المعهودة ويتوقف الكلب أخيرا عن نباحه الذي ظل ممتدا طيلة أحداث الرواية.

    

  

رغم ميل ساراماجو الدائم إلى الخيال الجامح في سرده الروائي فإنه ظل دائما متمكنا من تطويع ذلك الخيال بما يخدم القصة الأصلية، ويتضح ذلك بقوله: "إن أعمالي تتعرض لإمكانية حدوث ما هو مستحيل بطبيعته، وكأني أعقد اتفاقا ضمنيا مع قارئي مفاده هو أن ما يهمنا بحق هو التطور المنطقي للفكرة حتى وإن كانت الفكرة ذاتها منافية للعقل، فالفكرة هي نقطة الانطلاق التي يلزمها عرض منطقي وواقعي"(2). فما القضايا التي تبناها ساراماجو؟ وكيف أظهر هذا التبني؟ وكيف تعرض للحداثة في أعماله؟

    

السرد الخيالي للأحداث الواقعية

"هدفي عدم التخلي عن الناس الذين جاءوا إلى هذا العالم في الظلام"

(جوزيه ساراماجو)

      

يعد ساراماجو كاتبا من الكتاب الانضباطيين، فهو يستعيد صورة الكاتب الملتزم بقضايا الإنسان في العالم(3)، وكما يرى د. طلعت شاهين فإن "الكتابة عند ساراماجو تعتبر نوعا من تحقيق الوجود، كما تمثل الكتابة له طريقا لكسب حب الآخرين، وإن كان البعض يعتبره كائنا متشائما رغم إعلانه دائما أنه سعيد ومتفائل، ويشرح هذا التناقض بقوله إنه بالفعل متشائم مما يراه حوله من أحداث مأساوية، لكنه يحاول أن يؤكد للآخرين أنه سعيد حتى لا يجد نفسه مطالبا بأن يتحدث عن أشياء أخرى تنقصه لتحقيق السعادة الكاملة، أو على الأقل السعادة بالمعنى الذي يفهمه هو شخصيا ويتبنى ساراماجو نهج مدرسة "الواقعية السحرية"، وهي المدرسة التي تجمع بين عنصري الواقع والفانتازيا/الخيال، وترتبط بثلاثة اتجاهات: أولها الارتباط مع السحري والعجائبي، وثانيها هو الارتباط مع السريالية، والسريالية تعني التعبير عن الفكر الصافي بعيدا عن المنطق مع إظهار الحالة اللاشعورية للأفراد، وثالثها هو الارتباط بالأسطورة(4)، فتقوم أفكار روايات ساراماجو على أحداث سياسية أو تاريخية حقيقية وعلى قضايا اجتماعية وفكرية موجودة بالفعل، ولكنه يطرح أفكاره ويناقشها في إطار من الخيال والسريالية التي لا تخفي الدعابة والتهكم في غالب الأحيان.

    

فترتكز رواية "الطوف الحجري" على انضمام البرتغال إلى الاتحاد الأوروبي في ظل رفض أوروبي بالغ، يرد ساراماجو بأسلوبه الساخر وطريقته السريالية على القول المدعي إن "أوروبا تنتهي عند جبال البرانس وما هو جنوبها ينتمي إلى أفريقيا"(5)، بتصوره تصدع جبال البرانس مما يرتب انفصال شبه الجزيرة الأيبيرية: أسبانيا والبرتغال عن أوروبا مشكّلة طوفا حجريا يسبح في المحيط الأطلنطي بلا توقف وينسحب تدريجيا إلى قاع المحيط.

         

undefined

       

ويُرجع ساراماجو تصدّع جبال البرانس إلى نباح كلب، ومطلَّقة ترسم خطا على الأرض بفرع شجرة، وموظف يقذف حجرا في المحيط دون قصد، وصيدلي شعر باهتزاز الأرض دون سواه، لتشكل هذه الأفعال البسيطة مُشكِلة كارثية تؤثر على الجميع أفرادا وحكومات سواء في أوروبا أو في الجزيرة الأيبرية، وتتكاتف الجهود في محاولات إنقاذ الجزيرة من الغرق.

  

أما في روايته "مسيرة الفيل" فإن حدثا تاريخيا عابرا لم يشكل فارقا في التاريخ بأي حال هو ما تقوم عليه بنية الرواية، يتمثل هذا الحدث في إهداء ملك البرتغال فيلا لصهره أرشيدوق النمسا، ليروي الفيل مسيرته من لشبونة إلى فيينا، ولكنها في حقيقة الأمر ليست مسيرته هو بل مسيرة أوروبا خلال فترة صراعاتها وسيطرة الكنيسة عليها، تختلط الرواية بالدين وبالتاريخ وتتصدى لقضايا فلسفية وفكرية بصورة تهكمية مرحة ساخرة.

    

وخير ما يلخص الأسلوب الأدبي لساراماجو ما جاء على لسان لجنة نوبل على هامش فوزه بالجائزة: "تُمنح الجائزة للسيد جوزيه دي سوزا الذي استطاع بالكثير من الرموز والأمثال الغارقة في الخيال مع المفارقات الإنسانية أن يعطينا باستمرار واقعا افتراضيا يمكننا الإمساك بأطرافه بدقة".

      

undefined

       

قيم ساراماجو الإنسانية

رأى ساراماجو وهو المعروف بـ "شيوعيتيه الصارمة "(6) والذي كان عضو الحزب الشيوعي البرتغالي حتى وفاته، رأى في الاشتراكية حلا لمشاكل العالم كافة، ورأى أن الشيوعية قادرة على بعث نفسها من جديد، وأن ما أوجد الشيوعية في الماضي سيلجأ إلى الشيوعية مرة أخرى فرارا إليها من مشاكله وأزماته المزمنة، فيصرّح: "سنجد أنفسنا في ظروف مشابهة لتلك التي أنتجت الشيوعية، أقلية غنية تتحكم بأغلبية فقيرة، وسيتفاقم الوضع وينفجر مجددا"(7).

     

وتُظهر أعماله أن تلك الأغلبية الفقيرة تظل منتظرة الفرصة التي تسمح لها بالانقضاض على ما يملكه الأغنياء، ففي رواية "الطوف الحجري" ونتيجة لانفصال الجزيرة تخلو الفنادق من السياح الفارين إلى بلادهم، ويبدأ فقراء الشعب ممن لا يملكون حق السكن في احتلال الفنادق، وتبدأ الحكومات بالوقوف في وجه هذا الاحتلال وتتصدى له بالقوة، فيقف أحد المتظاهرين ليلقي خطبة في أفراد الشرطة المتجمعين لقمع ثورتهم تلك قائلا:

   

"أنتم يجب أن لا تنسوا أنكم أبناء الشعب مثلنا، هذا الشعب الذي ضحى كثيرا عند إقامة هذه الأشياء لكنه لا يملكها، يبني فنادق ولا يكسب ما يكفيه ليسكنها، جئنا إلى هنا مع أبنائنا وزوجاتنا ولكنا لم نأت طلبا للجنَّة، نريد سقفا كريما فقط، سقفا أكثر أمنا، غرفا ننام فيها بالاحترام والاحتشام الذي يجب أن يُعامل به الإنسان. نحن لسنا حيوانات ولا ماكينات، لدينا أحاسيس، حسنا هذه الفنادق فارغة الآن، مئات من الغرف، آلاف أقاموا فنادق للسياح، والسياح ذهبوا ولن يعودوا، فيما كانوا هنا نحن تقبلنا وضعنا السيئ".

    

undefined

  

يشرح ساراماجو مقولته "المشكلة الحقيقية تتركز في أنه ما زال هناك أغنياء وفقراء في هذا العالم" بأن الإنسانية ما زالت تنتج الثروات التي تتوزع على الشكل الذي نراه حاليا، وأنه لأول مرة في التاريخ يحاولون صناعة عالم للأغنياء فقط، ويقوم هذا المجتمع على حساب طبقة مسحوقة من الفقراء(8).
 

 يعادي ساراماجو الرأسمالية ويراها سببا فيما أسماه "الأمية الوظيفية"، والمقصود بها عدم قدرة الفرد على كتابة بضعة أفكار مترابطة رغم إتقانه القراءة والكتابة، ويرى أن هذا النوع من الأمية ينتج ديمقراطية مشوهة خادعة، فكيف لضمير السياسيين السعي إلى كسب أصوات ناخبين عاجزين عن فهم البرنامج الانتخابي لهم٩.

 

ويصور ساراماجو هذا التوغل المقيت للرأسمالية وابتلاعها للعوالم التقليدية البسيطة في روايته "الكهف" من خلال هجرة عائلة أليجور مشغل الخزف والانتقال للعيش في المركز التجاري متخلّين عن كل شيء، خارجين في رحلة بلا وجهة محددة، وتلاحظ العائلة منذ اللحظة الأولى الحراسة المشددة المفروضة على قبو المبنى.

   

يثير الأمر فضول رب الأسرة فيخرج باحثا عن ما بداخل القبو ليكتشف أن القبو مقبور فيه ست جثث.

 

بين كهف أفلاطون وكهف ساراماجو.. عزلة الإنسان الحديث

"يا لغرابة المشهد الذي تصفه ويا لهم من سجناء مستغربين… إنهم مثلنا"

 (جوزيه ساراماجو)

 

يتصور أفلاطون أن هناك كهفا تحت الأرض له ممر طويل، حبس في الكهف بعض الأفراد منذ نعومة أظفارهم مكبلين من أعناقهم وأرجلهم لا يستطيعون القيام أو النظر إلى الخلف بأي حال، وظهورهم مواجهة لمدخل الكهف وخلفهم مسرح عرائس يعلوه نور خافت هو مصدر الضوء الوحيد، ويمر أمام النار حراس حاملين تماثيل تنعكس ظلالها أمام المساجين ويطلق الحراس أصواتا فيظن المسجونون أن الظلال هي مصدر الصوت.

      

undefined

  

محبوس داخل الكهف الفيلسوف سقراط، يتقدمه أحد الحراس ويجبره على النظر إلى التماثيل الحقيقية، لا يصدق سقراط الصورة المخالفة لما اعتاد عليه، فيصحبه الحارس إلى خارج الكهف ليرى الشمس بعينيه، فيصاب بالعمى لأنه اعتاد الظلام، ولكنه اكتشف أن الشمس مصدر الضياء، ورويدا رويدا تعتاد عيناه الضياء.

 

يعود سقراط ليخبر المسجونين بما رآه وأن الشمس هي مصدر النور والنار داخل الكهف، فيكذبونه ويعتقدون أن عينيه أصابهما العمى، ويقتلونه في النهاية لأنهم فضلوا الاستمرار في الوهم على ألم استيعاب الحقيقة(10).

 

يُسقط ساراماجو تصور أفلاطون الوهمي لكهفه على واقع الإنسان المعاصر الذي سلبته الحداثة كل قيمة يملكها، فالعجوز صانع الخزف الذي يخنع لرغبة ابنته في عيش حياة عصرية يتوقف عن صناعة الأواني الخزفية الصغيرة ويبدأ في صناعة التماثيل التي يشتريها منه المركز التجاري ذو الثمانية وأربعين طابقا والذي تحلم ابنته أن تترك كل شيء للسكن فيه، لا أحد يشتري ما يصنعه من تماثيل، فلا يكون أمامه بد من الانتقال للعيش مع ابنته في أحد شقق المركز.

  

يلاحظ الأب من يومه الأول الحراسة المشددة المفروضة على الوصول إلى قاع المبنى، فيغلبه الفضول ويحاول كشف السر المخبأ أسفل المبنى، ليكتشف وجود ست جثث فيخبر ابنته: "إنهم نحن، أنا وأنت ومارسال والمركز التجاري كله والعالم كذلك على الأرجح". هكذا يرى ساراماجو أن الحداثة أدخلت العالم بأسره إلى الكهف وأغلقت عليه بابه.

    

  

وأنه لا فرق يُذكر بين كهف أفلاطون وكهف الحداثة، اللهم إلا تلك الشاشات والأجهزة الذكية التي حلت محل الظلال في كهف أفلاطون، وأننا مدفنون في مقبرة جماعية تحت أنقاض الحداثة، ويتنبأ بانهيار منظومة الحضارة تلك بأثرها وإن تنبأ استمرارها إلى حين.

 

وفي الختام نذهب إلى ما ذهب إليه الكاتب والمترجم التونسي عبد الجليل العربي من أنه "لم يكن يوجد كاتب أخطر من ساراماغو في مناهضة العولمة والصهيونية، كان مزعجا وحادا دائما ولم يفوت أية مناسبة إلا وكال الاستهجان لهما"، وقد كان ساراماجو منحازا إلى مبادئه بحق ولم يخضع لجهة أو يهادن، فحين شن حربا على إسرائيل شن حربا ضارية عليها وهاجمها هجوما لم يهاجمه غيره، وحين خالف سلطة الحكومة البريطانية اعتزل الحياة العامة وسكن سكنا بسيطا، لم يتبنَ مبدأ ويخالفه، بل أدرك دائما قيمة ضمير الكاتب ولم يخن هذا الضمير حتى موته.