شعار قسم ميدان

"موسم الهجرة إلى الشمال"و"الأشياء تتداعى"..هل ثمة هوية ثابتة للشرق؟

midan - books
اضغط للاستماع
 


سيدة عجوز ألمانية تدخل حانة فقيرة في ألمانيا هربا من المطر، فيشعر "علي" الشاب العربي الأصل بغربتها عن المكان ومعاناتها البادية على ملامح وجهها، يتعرف عليها ويدعوها ليرقصا معا، ويخبرها في حديثهما المتبادل أن الألمان والغرب عامة هم السادة، وأن العرب تافهون دوما. هكذا بدأ فيلم "علي: الخوف يلتهم الروح" للمخرج الألماني Rainer werner fassbinder.

      

في الفيلم، لم يكن علي ينقل في حواره سوى الصورة المنطبعة في أذهان الغرب عن الشرق المتوحش البدائي التافه في مقابل الغرب السيد المتفوق، هذه الصورة التي ما زالت آثارها حاضرة ممتدة، كان قد عكسها جوزيف كونراد روائي الإمبراطورية البريطانية منذ عقود مضت في روايته "قلب الظلام".

     

فقد وصف كونراد في روايته "قلب الظلام" أفريقيا بأنها بلاد تفوح بالوحشية، تموج أدغالها بالهمجية البدائية، ورغم أنه أدان عمليات السلب والنهب التي قام بها الاستعمار في أفريقيا، فإنه لم ير في الأفارقة سوى أنوف أكثر انبساطا، وبشرة سوداء، ورجال قاسية قلوبهم، قوة حيوانية عاجزة عن صنع الحضارة، أما الأوروبي فهو الفارس البطل المرسل لتبديد الظلام ونشر الحضارة، سيجتاح بيوتهم ويسلب أراضيهم ليحقق مهمته النبيلة "أن يجعلهم أناسا متحضرين".

     

دفعت رواية "قلب الظلام" كثيرا من الأدباء الأفارقة إلى الرد عليها، منهم الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي، الذي رفض ما قدمه كونراد عن أفريقيا، حيث كتب روايته "الأشياء تتداعى" ليبرز ما أخفاه كونراد في "قلب الظلام". وأعلن أتشيبي قائلا: "يرضيني غاية الرضا أن تقتصر رواياتي على تعليم قرائها أن ماضيهم -بكل ما فيه من جوانب نقص- لم يكن ليلة طويلة من الوحشية".2

      

الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي (مواقع التواصل)
الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي (مواقع التواصل)

    

كذلك الحال في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للروائي السوداني الطيب صالح، حيث عارضت الرواية الصورة النمطية الاستشراقية عن الشرق المتخلف الوحشي. فكلٌّ من روايتي "الأشياء تتداعى" لأتشيبي و"موسم الهجرة إلى الشمال" لصالح تدور أحداثهما حول الماضي الممتد في الحاضر؛ ماضي الاستعمار وكيف غيّر في ملامح الحاضر.[1]

       

لم تكن روايتا "موسم الهجرة إلى الشمال" و"الأشياء تتداعى" مجرد رد على كونراد أو دفاعا عن الشرق المستعمَر، بل مثلت رحلة بحث عن الذات بعد تجربة الاستعمار من خلال مستويين مختلفين؛ مستوى فردي يتمثل في رحلة مصطفى سعيد الذي سافر إلى "إنجلترا" ليدرس الاقتصاد كما جاء في رواية الطيب صالح، ومستوى جماعي آخر يأتي فيه المستعمِر ليغزو أرض قبيلة أفريقية كما عكسته رواية أتشيبي، ونرى تحولات الذات في هاتين التجربتين من خلال رؤية أخرى تختلف عن السرديات السائدة لقراءة الاستعمار المنحصرة في ثنائية الأنا والآخر، وصدام الشرق والغرب.
      

فثمة سعي متواصل من الدول المستعمَرة للبحث عن الذات التي كانت قبل تجربة الاستعمار، وكأن الذات ثابتة لها ملامح واحدة محددة ينبغي العودة إليها، ففي روايتي "موسم الهجرة إلى الشمال" و"الأشياء تتداعى" نرى أن تجربة الاستعمار لم تكن في صورة مقابلة بين الشرق والغرب فحسب، ولكنها تجربة تمخضت عنها ذوات جديدة للشرق والغرب معا، ذابت فيها هذه الثنائية المتناقضة، منتجة صورا جديدة.
 

فالوعي بهذا قد يخرجنا من حالة البحث الدائم عن ذات ما قبل الاستعمار إلى فهم الذات التي أُعيد تشكيلها، متجاوزة بذلك محاولات حصرها في ثنائيات معلبة، وهي ذاتها الثنائيات التي انشغل بها الفكر العربي على وجه الخصوص كثنائيات التراث/المعاصرة، الحداثة/التقليد، الأنا/الآخر، التخلف/التقدم، وإلخ، لندرك التجربة بشكل مختلف. ويطرح هذا سؤالا عن أوجه التلاقي بين الشرق والغرب في روايتي "الأشياء تتداعى" وموسم الهجرة إلى الشمال".

   

التلاقي بين الشرق والغرب في القالب الأدبي واللغة

لقد قام الطيب صالح وأتشيبي باستخدام الرواية كقالب أدبي لنقد التجربة الاستعمارية، رغم أن الرواية ذاتها تُعدّ نتاجا غربيا، فالرواية والاستعمار -بحسب إدوارد سعيد- حصّن بعضهما البعض، كما عززت الرواية شرعية الاستعمار الغربي لدول العالم الثالث[1]، وقد تلقى كل من الطيب صالح وأتشيبي تعليمهما في المدارس الاستعمارية، وتأثرا بالإنتاج المعرفي الغربي. 

     
وكلاهما يعكس في رواياته ثقافة مجتمعات شفاهية، فالرواية في هذه الحالة تستوعب تراثا شفهيا تختزنه الذاكرة الجماعية، كما في الأغاني الشعبية والطقوس التي أوردها أتشيبي في الجزء الأول من رواية "الأشياء تتداعى". فقد حوّل الكاتبان المخزون الثقافي والذاكرة الجماعية إلى مادة مكتوبة بقالب روائي دخيل على ثقافة هذه البيئة، ونجحا في تجسيدها والتعبير عنها من خلاله، مما يدل على الاشتباك والامتزاج بين الثقافتين.

      
"إن اللغة ليست سبيلا للملكية الخاصة، ذلك لأن أي لغة يمكن أن تكون ملكا لمن يسيطر عليها ويطوعها للإبداع الأدبي، أو يعبر بها عن حقيقة ذاته القومية أو الوطنية"

         

هذه المقولة التي أوردها الأديب الجزائري مراد بوربون تنطبق على كثير من الأدباء الأفارقة الذين قدموا نتاجهم الأدبي بلغة المستعمِر، فقد عكست اللغة جدلية العلاقة المركبة مع المستعمِر، وظهرت بشكل أعمق في رواية أتشيبي "الأشياء تتداعى"، التي كتبها باللغة الإنجليزية، وقد برر أتشيبي استخدام الإنجليزية بأنه يخاطب العالم وليس النيجيريين فحسب.

        

لقطة من فيلم
لقطة من فيلم "علي: الخوف يلتهم الروح"  (مواقع التواصل)

      

وفي فيلم "علي: الخوف يلتهم الروح" نجد الألمان يسيؤون معاملة العرب العاملين هناك لأنهم لا يحسنون اللغة الألمانية، فامتلاك اللغة دلالة على السيطرة والقدرة على التطويع، وعلى أن هؤلاء المستعمَرين امتلكوا لغتكم، بينما الأوروبيون المستعمِرون لن يستطيعوا فك طلاسم النص الروائي كاملا، وهذا ما عمد إليه أتشيبي حينما مزج بين لغته المحلية واللغة الإنجليزية في رواية "الأشياء تتداعى".

    

ولكن اللغة لم تقتصر على مستوى الكتابة بلغة أجنبية، أي لغة المستعمِر فقط، ولكن كما نجد في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" التي كتبها صالح بالعربية، غير أن لغة صالح وتعبيراته لم تكن محايدة؛ ويتضح ذلك من خلال وصف الراوي لقريته ووصفه لأوروبا، فنجد التعبيرات أكثر دفئا وطمأنينة في وصفها للقرية والجد والبيت، فعلى سبيل المثال يصف جده قائلا:

"نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوروبي فلاحون فقراء، ولكنني حين أعانق جدي أحس بالغنى، كأنني نغمة من دقات قلب الكون نفسه".

مما يؤكد أن اللغة ليست مجرد أداة محايدة وصفية، ولكنها أداة وُظّفت لتعكس السياقات الجدلية في الرواية.[2]

    

مما سبق يتضح التشابك بين الشرق والغرب في امتلاك القوالب الأدبية وتملك ناصية اللغة، وما تطرحه من جدليات، نجد فيها العلاقة بين الأنا والآخر علاقة متداخلة ممتزجة معا، فماذا عن الروايتين، وكيف تطورت العلاقة بين الأنا والآخر في كل من "موسم الهجرة إلى الشمال" و"الأشياء تتداعى"؟
      

تطور علاقة الأنا والآخر في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"

"إنني أريد أن آخذ حقي من الحياة عنوة. أريد أن أعطي بسخاء، أريد أن يفيض الحب من قلبي فينبع ويثمر. ثمة آفاق كثيرة لا بد أن تُزار، ثمة ثمار يجب أن تقطف، كتب كثيرة تقرأ، وصفحات بيضاء في سجل العمر سأكتب فيها جملا واضحة بخط جريء".

     

هناك علاقة متشابكة بين الغرب والشرق تجمع بين الانبهار والتعلم والتشارك والعنف والجريمة
هناك علاقة متشابكة بين الغرب والشرق تجمع بين الانبهار والتعلم والتشارك والعنف والجريمة
        

بهذه الروح التي تفيض بها العبارة من رغبة في الحياة وكتابة نص جريء، كانت رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" تجسيدا حيا لها. انطلق صالح في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" من الذات، فقد جعل هذه الذات تشمل بُعدا جغرافيا، وآخر عرقيا، وآخر قوميا، وآخر ثقافيا، وآخر تاريخيا. فعنوان الرواية يعكس ثنائية الجغرافيا، حيث الهجرة إلى الشمال، مما يعني ثنائية الطرف الغائب عن العنوان، وهو الجنوب، وهو متسع جدا ليشمل كل جنوب في مواجهة كل شمال، ما يشي منذ اللحظة الأولى أنّ صداما ما بين الذات والآخر واقع لا محالة.[3]
    

ثمة بعض الرؤى التي تختزل مصطفى سعيد -بطل الرواية- في كونه ذلك الشرقي الذي ذهب لينتقم من آثار الاستغلال المادي لأراضي بلاده من خلال إقامة علاقات غير شرعية مع نساء أوروبيات، آخذا بذلك ثأره من هذا العدو. فهو البطل الذي رأى ألا بدّ من هجوم على العالم الإمبريالي في عقر داره، هجوم ثقافي حضاري سلاحه الثقافة والجنس والسياسة، هجوم يحسم الصراع أو يجيّره لمصلحة سعيد وما يمثله، لكي تتسنى له فرصة العودة إلى وطنه ليخوض معركة أخرى مع القوالب الرجعية المتسلطة في مجتمعه.[4]
 

لكن من خلال تأمل النص الروائي نجد أن العلاقة ليست حدية بهذا الشكل، فهناك علاقة متشابكة بين الغرب والشرق تجمع بين الانبهار والتعلم والتشارك والعنف والجريمة. وهناك ملامح لهوية تبدو وكأنها في طور تَشَكّل ولم يظهر لها خصائص واضحة، وقد مرت هذه العلاقة بأطوار مختلفة، ويمكننا القول إن العلاقة بين الشرق والغرب قد مرت بثلاثة أطوار:

الطور الأول هو الطور الصدامي الذي يعلنه سعيد بقوله  "إنني جئتكم غازيا"[5]، إشارة إلى رغبته في الانتقام من إرث استعماري ممتد في بلاده منذ الغزو الصليبي، وتظهر العلاقة الصدامية من خلال علاقة سعيد بكل من آن همند، وشيلا غرينود، اللتين وصفهما البروفيسور فستر كين في دفاعه عن سعيد في المحكمة قائلا: "هاتان الفتاتان لم يقتلهما مصطفى سعيد ولكن قتلهما جرثوم مرض عضال أصابهما منذ ألف عام"[6]، ويشير بعبارة "منذ ألف عام" إلى الغزو الصليبي الذي لا يختلف كثيرا عن الآثار السلبية للاستعمار.[7]

   

ويعقبه الطور الثاني من العلاقة، والذي يعكس التعايش مع الناتج المادي والمعرفي الغربي، والتعامل معه على أنه جزء واقع لكينونتنا. وهذا يتمثل فيما طرأ على القرية من تغييرات وتكيف أهل القرية معها خاصة التعليم، فسعيد تخرّج في المدارس التي أنشأها الاستعمار. يصف صالح ذلك على لسان الراوي، فيقول:

"هناك مثل هنا، ليس أحسن ولا أسوأ. ولكني من هنا، كما أن النخلة القائمة في فناء دارنا نبتت ولم تنبت في دار غيرنا. وكونهم جاءوا إلى ديارنا، لا أدري لماذا، فهل معنى ذلك أن نسمم حاضرنا ومستقبلنا؟، إنهم سيخرجون من بلادنا إن عاجلا أو آجلا، كما خرج قوم كثيرون عبر التاريخ من بلاد كثيرة، سكك الحديد، البواخر والمستشفيات والمصانع والمدارس، ستكون لنا، وسنتحدث لغتهم دون إحساس بالذنب ولا إحساس بالجميل، سنكون كما نحن، قوم عاديون، وإذا كنا أكاذيب، فنحن أكاذيب من صنع أنفسنا".[8]

     

أما الطور الثالث فهو الطور الأكثر تعقيدا وتشابكا، ويتمثل في علاقة سعيد بجين مورس، علاقة العشق والاضطراب والعنف التي تجمع أقصى المتناقضات في ذات اللحظة، الاحتقار والاعتداد بالذات، الكراهية والمحبة والموت. "فكأننا فلكان في السماء اشتبكا في ساعة نحس"، فقد وصلت العلاقة إلى حد قوي تمثل في الزواج بينهما، وانتهت بمقتلها.

     

وبالرغم من انتهاء تجربة الزواج بينهما بالقتل وما يشير إليه من صعوبة التلاقي بين الشرق والغرب، والعلاقة الصراعية بينهما، فإنه لا ينكر أن هذه العلاقة حفرت خطوطا عميقة في جدران روح كل من سعيد وجين مورس (الشرق والغرب)؛ فسعيد لم يتخلص من هذه التجربة وظلت تطفو في حياته كتجربة حياتية لا يمكن محوها، فقد أثرت في إعادة تشكيله ونظرته إلى الحياة وخياراته، فلم يعد سعيد بعدها سعيدا الأول الذي جاء للاستعمار غازيا، فلم يصوّر مقتلها باعتباره انتصارا له وهزيمة للغرب، ولم يُمح أثر الاستعمار الغربي بالقتل، فصورة جين مورس توجد في غرفة سعيد السرية وذكراها حاضرة معه، ولمَ اختار سعيد الاختفاء أو الانتحار إن لم يكن لهذه التجربة آثارها الممتدة فيه؟[9]

    

تشابك العلاقة بين الشرق والغرب في الفضاء المعماري في رواية موسم الهجرة للشمال

ونجد من خلال النص الروائي أن الطيب صالح قد أحسن توظيف الوصف المعماري لعكس جدلية العلاقة بين الشرق والغرب، والتحولات التي طرأت على الهوية. فتدور أحداث الرواية في فضاءين متقابلين، المدينة الكبرى "لندن" والقرية النائية في السودان، مما يعكس الصورة الأولية للتضاد والتناقض القائم بين الشرق والغرب والحداثة والأصالة. ولكن مع مواصلة الكشف عن تفاصيل تشكيل الفضاء المعماري في الرواية نجد أن الطيب صالح عبّر من خلال وصف المعمار عن هشاشة هذه التقاليد الراسخة، فلم نجد سوى النخلة والجد كرمزين للتقاليد التي ما زالت باقية، فيصف النخلة قائلا: "النخلة القائمة في فناء دارنا، فعلمت أن الحياة لا تزال بخير، أنظر إلى جذعها القوي المعتدل، وإلى عروقها الضاربة في الأرض".[10]

      

undefined

   

وعكس صالح العلاقة المركبة المتداخلة بين الشرق والغرب أيضا من خلال الوصف الكثيف لغرفته في لندن التي احتوت على ملامح عربية أصيلة كراوائح الكافور والبخور، وما تحويه من نقوش وما تعكسه من أجواء ألف ليلة وليلة، وكذلك الحال في ما عكسته غرفته السرية بالقرية، والتي خلت من الكتب العربية، حيث احتفظ بكل ملامح تجربة الغرب، فنجد صور جين مورس وكتب الاقتصاد والفلسفة والكرسي الفيكتوري وغيرهم.
     

وهناك محطة فيكتوريا التي بدأ منها النفاذ إلى عالم جين مورس، حيث تحمل محطة فيكتوريا دلالة السكك الحديدية التي أقامها الاستعمار في مستعمراته، ويشير إلى علاقة التزاوج والصدام التي جمعت الشرق بالغرب كما جمعت زواج سعيد بجين مورس. فنرى كيف عكس توزيع الفضاء المكاني في الرواية أنه ليس ثمة شرق خالص ولا غرب خالص، فهناك هوية ممتزجة تركت ملامحها من خلال الخبرة الاستعمارية. هذا عن رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، فكيف تجلت العلاقة بين الأنا والآخر "الشرق والغرب" في رواية أتشيبي "الأشياء تتداعى"؟

      

علاقة الأنا والآخر في رواية "الأشياء تتداعى"


"الأشياء تتداعى

المركز لم يعد في استطاعته التماسك

الفوضى الشاملة تعم العالم

إذ يلتف الصقر ويلتف بدولاب الأكوان

بحركات متباعدة في الدوران

تتداعى الأشياء

والمركز لا يقدر أن يمسك بزمام الأجزاء

فوضى صرف تنفلت على العالم

ينفلت المد الدموي وفي كل الأنحاء"

    

يستعير أتشيبي عنوان روايته من قصيدة للشاعر الإيرلندي "ييتس" لينقلنا معه إلى عالم قبيلة الإيبو في نيجيريا وكيف عايش تجربة الاستعمار البريطاني. ويحمل العنوان "الأشياء تتداعى" دلالة على محاولات الإيبو الحفاظ على مرتكزات ثقافاتهم ونظمهم المحلية من الانهيار مع وجود الاستعمار، وتمثل ذلك من خلال محاولات مقاومة أوكونكو -بطل الرواية- التي انتهت بانتحاره.

     

undefined

    

وتُعدّ رواية "الأشياء تتداعى" دراسة أنثروبولوجية عن قبيلة بدائية قبل وبعد تجربة الاستعمار، حيث تقدم سردية أخرى للأفريقي باعتباره فاعلا وليس مجرد مفعول به. فيبيّن أتشيبي في"الأشياء تتداعى" دور الإرساليات التبشيرية في ترسيخ أقدام الاستعمار في أفريقيا والتغيير الجذري في الثقافة المحلية لقبائل الإيبو في نيجيريا.[11] وتدور أحداث الرواية في المرحلة الأولى من الاستعمار بعد مؤتمر برلين خلال الفترة من 1884-1885. رسم أتشيبي في الفصل الأول منها صورة حياة الإيبو البدائية قبل الاحتكاك بالرجل الأبيض وبثقافته الاستعمارية.

  

وتنقسم الرواية إلى ثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى يبرز الكاتب فيها الخصائص التي يستمد منها المجتمع استقراره، وتدافع واستمرار الذات الذكورية باعتبارها أصالة المجتمع المتوارثة. المجتمع المكوّن من أسر تتعدد فيه الزيجات، الزوجة تطهو والرجل يمثّل كيان البيت. فاستعرضت الفصول الأولى كثيرا من الأمثلة الشعبية التي تعكس طرفا من الحياة ومن استمرارية ثقافة هذا المجتمع الذي يسعى للحفاظ عليها، وتغيب الأمثال الشعبية خلال الفصول التالية، لتعكس التغير الذي لحق المجتمع، وكل بنياته ومؤسساته من جراء تدخل عناصر غريبة في جسده.

  

أما في المرحلة الثانية ينتقل البطل إلى الإقامة في عشيرة الأم، ويعتبر فضاء الأنوثة استخفافا بالبطل لأنه فضاء ثانوي مقارنة بالفضاء الذكوري. ويقابل الانتقال إلى عشيرة الأم دخول الديانة المسيحية في العشرية الأبوية بدلا من معتقداتهم الوثنية السابقة، فيبدو التقابل بين مصير الفرد "أوكونكو" بطل الرواية والجماعة "قبيلته" داخل فصول الرواية.

 

وتعكس المرحلة الثالثة مرحلة الانهيار الذي يلحق المجتمع من جراء التدخل الأوروبي، وعودة البطل إلى عشيرة الأب. ويبرز مدى تغلغل الاستعمار وقدرته على التغيير في المجتمع، وعدم قدرة البطل على التصدي له رغم المقاومة.[12] ويؤكد أتشيبي على أن البعثات التبشيرية لم تكن مجرد وجود سلبي للاستعمار، بل لعبت دورا في تدمير ثقافة الإيبو. وأبرزت الرواية دور الاستعمار في تغير البنية المعرفية عن طريق التبشير وإنشاء المدارس لتعليم الإيبو. وكذلك عبر تغلغله في البنية الاقتصادية عن طريق التجارة.


ويرى أتشيبي أن تغيير الدين كان العامل الأكبر في إعادة تشكيل الهوية، وتسهيل الهيمنة على الإيبو. فيذكر على لسان أوكونكو "أن المستعمِر جاء بسلام وهدوء مبشرا بدينه الجديد، وسمحنا له بالحديث واستمعنا إليه حتى استطاع أن يستقطب إخواننا وأبناء عشيرتنا. وصار له تابعون من بيننا، فلم نعد نتعامل ككل متماسك. فقد وضع سكينه على كل ما يربطنا حتى انهارت الأشياء التي تجمعنا".
[13]

  

حيث يوضح أوكونكو أن التغيرات قد جرت بشكل سريع، وأن مجيء الرجل الأبيض أحدث انقلابا في الحياة التقليدية، وأحدث التحول المفاجئ للبنى الاقتصادية اضطرابات عميقة في العلاقات الاجتماعية داخل الجماعة. فالديانة قسمت القرية إلى مجموعتين: مجموعة معتنقي الديانة الجديدة، وهم في تزايد مطرد، وأخرى ترفضها وتحتفظ بديانة الأجداد. وعجّل النظام الاقتصادي الجديد بالقطيعة مع النظام التقليدي وقيمه، فيذكر أوكونكو:

"لكن إذا كان الإنسان الأبيض قد جاء بديانة مخيفة، فإنه جاء أيضا بمصنع، ولأول مرة صار زيت النخيل وجوز النخيل أشياء مرتفعة الثمن من أجل تصديره لخدمة صناعة الغرب، وأصبح المـال يـروج كثيرا في أموفيا".[14]

  

ومع وجود المال كوسيط للتبادل تتلاشى العلاقات الإنسانية بين المنتج والمستهلك بشكل تدريجي، ليحل محلها وسيط محايد هو المال إلى حد تشيؤ العلاقات، أي تحولها إلى أشياء قابلة للبيع والشراء، واستلاب الأفراد، وفقدان قدرتهم على المقاومة.[15]

  

ولقد تباينت استجابة المستعمَر ومقاومته للاستعمار، فنجد في الرواية أن موقف أوكونكو اختلف عن موقف ابنه، وعن موقف زعماء العشيرة. فقد خلق الاستعمار قواعد تؤيده في القبائل، وتمكنوا من بناء كنائس في قرى مختلفة. وساهم قبول الإيبو المشاركة في أنظمة الرجل الأبيض من تعليم وتجارة في تشكيل نوع آخر من التقاليد الهجينة نتيجة اندماجهم في نمط جديد من الحياة المعيشية التي ساهمت في تغيير مفاهيمهم ومنظورهم للحياة.

  

فقد لمسوا المنتجات الحضارية المادية للمستعمِر وتفاعلوا معها، فعلى سبيل المثال بدلا من الاعتماد على الخرافات في العلاج، وجدوا أن علاج الرجل الأبيض أكثر فاعلية، وهذه إحدى مفارقات التحول من النظرة الأولى للمستعمِر الأوروبي باعتباره مريضا بالجذام إلى الانبهار بحضارته.
    

ويوضح إيريك هوبسباوم في كتابه "اختراع التراث" أن الاستعمار قام بالتنشئة الاجتماعية للأفارقة عن طريق اختراع تقاليد جديدة استجاب لها الأفارقة، بالرغم من أنها تعكس التبعية والخضوع.[16] فقد كانت إحدى مهام عملية اختراع التراث في أوروبا في القرن الـ19 توفير شكل رمزي سريع ومعترف به للأنماط المتطورة للسلطة والخضوع.[17] ونجح المستعمِر في ترويج نظرته للقبيلة كأنها طفل صغير السن وسط شعوب الإمبراطورية البريطانية الكبيرة. ونجد أن الأفارقة أنفسهم صاروا يقدسون الطقوس التي تعلموها من المستعمِر، وتعاملوا مع بعضها بجدية وعفوية مبرزين أنهم تفوقوا على الرجل الأبيض في القيام بها.[18]

  

ويوضح إيريك هوبسباوم أن هناك تباينا في تعامل الأفارقة مع التقاليد الأوروبية المخترعة، فهناك البرجوازية الأفريقية الطموحة التي سعت لامتلاك المواقف والتصرفات التي تميز الطبقات المتوسطة في أوروبا. وهذا التكيف لم يكن مقصورا على الطبقات البرجوازية، ولكن حاول العمال وصغار الموظفين إيجاد نوع من التفاهم مع المجتمع الاستعماري الجديد، من خلال اشتراكهم في نوادي الرقص مثلا التي يتم فيها الاعتماد على ممارسة واحدة أو أكثر من التقاليد الأوروبية المخترعة، بقصد التعبير عن النظام الاستعماري القائم، بوصفه مصدرا لاكتساب الهيبة والاحترام والمنزلة الاجتماعية الرفيعة.

  

فقد وجد الأفارقة أنفسهم وقد اُقتلعوا اقتلاعا من أصولهم وجذورهم الثقافية، وكانوا بحاجة إلى اكتشاف طرق جديدة لإقامة مجتمع جديد، فتأثروا ونهلوا من ثقافة الآخر لتشكيل هذا المجتمع الجديد.[19] وتعتبر هذه المناسبات الكرنفالية أكثر من مجرد تقليد للرجل الأبيض، فكانت نوادي الرقص منحدرة من روابط وجمعيات أقدم منها ظهورا، فتعكس ما مرت به منطقة الساحل الأفريقي والمناطق الداخلية التابعة لها من تجارب.[20]

  

وثمة طائفة أخرى مثل أوكونكو رفضت التماهي مع الاستعمار وثقافته، حيث يؤمنون بوجود ثقافة حيوية متدفقة كامنة في البنية الداخلية للثقافات المحلية، وأن هذه الثقافة الكامنة تتطور باستمرار، ولكنها مختفية تحت الأشكال المتصلبة الجامدة للعادات الاجتماعية التي اخترعها الاستعمار وحوّلها إلى قوانين مكتوبة.[21]

  

فنجد في قصيدة للشاعر الأوغندي أوكوت بيبتيك (1931-1982) حوارا على لسان ربة بيت قروية متحمسة لتقاليد أجدادها تخبر زوجها الجامعي الخاضع للتقاليد الأوروبية في أحد خلافاتها معه قائلة:

"اسمع يا أوكول يا صديقي القديم

إن أساليب أجدادنا رائعة

وعاداتهم متينة ليست فارغة

نحيلة ولكن ليس من السهل كسرها

ولا يمكن للرياح أن تذروها

لأن جذورها في الأرض عميقة"22

  

وتجسد بهذه العبارات موقف البطل أوكونكو، أما مصير أونكونو ومصطفى سعيد ونهاية كل منهما فإنه يحمل دلالات شديدة التكثيف عن العلاقة بين الشرق والغرب، فماذا كان مصيرهما؟

   

انتحار أوكونكو ونهاية سعيد المفتوحة

بالرغم من تشابه مصير كل من أوكونكو ومصطفى سعيد فإن نهاية كل منهما تحمل دلالة مختلفة؛ فانتحار أوكونكو مؤشر عجزه عن استعادة الهوية المتصورة في ذهنه عما هو أصيل في قبيلته، ورفضه لكل المدخلات المستحدثة من قِبَل الاستعمار. ويحمل مشهد انتحار أوكونكو جدلية حقيقية، حيث يُعدّ الانتحار جريمة ضد القبيلة والآلهة والقيم التي مات مدافعا عنها، فها هو أوكونكو في موقف معقد يعكس عملية تَشكّل الهوية وانفصالها عن صورتها السابقة، فلا سبيل للعودة إلى الوراء، فأوكونكو قد فشل في مقاومة تدخل الاستعمار في بنية مجتمعه وتغيير الدين والاقتصاد، وفي الوقت ذاته يخرق أوكونكو قيم مجتمعه التقليدي الذي يسعى للحفاظ عليه بارتكاب جريمة قتله لنفسه.

 

فقد أخذ أوكونكو يناضل من أجل عودة القيم الأصيلة التي لا تتناسب مطلقا مع الواقع المعاش عند باقي الجماعة، وعندما ينتبه إلى أن القبيلة ليست مستعدة للمحاربة إلى جانبه للدفاع عن النظام التقليدي، فإنه يفهم أنه لن يستطيع الاستمرار في هذا العالم الجديد الذي يحس بنفسه غريبا داخله. ففيما كان ممثلا تحترمه جماعته، قبل وصول المستعمِرين، صار هامشيا في النظام الاجتماعي والاقتصادي الجديد، وبذلك فإن الانتحار يمثل هنا حالة تعبر عن إقصاء نفسه من عالم الأجداد.

     

أما سعيد فقد عكست نهايته غير المحسومة (هل مات منتحرا، مختفيا، مهاجرا إلى الغرب مرة أخرى؟) حالة الغموض والضبابية التي تمر بها عملية تشكيل الهوية، بعد مرورها بتجارب كثيرة حفرت فيها أثرا بالغا، ولم تتضح ملامح الهوية الحالية بشكل دقيق بعد. واشترك البطلان أوكونكو وسعيد في علاقتهما الملتبسة بأسرهم الصغيرة؛ فقد كانت علاقة سعيد بوالدته علاقة إشكالية أثرت على مسار حياته، فقد وصف سعيد أمه بأنها شخص غريب جمعته بها المصادفة في طريق واحد، وحينما ودعها آخر مرة في ذهابه إلى القاهرة وصف المشهد قائلا: "لا دموع ولا قُبَل ولا ضوضاء، مخلوقان تقابلا وانصرفا".  وكذلك علاقة أوكونكو بوالده، حيث رفض ضعف والده وكان يخجل من تكاسله، وأصر أن يكون نموذجا مخالفا له تماما.

  

وبذلك، فإنه من السذاجة أن نرى الذات على ماهية واحدة، فقد اتضح كيف أن تعامل الشرق من خلال شخوصه المتعددة المتجسدة في الروايتين لم تكن مواقفهم متشابهة ولا استجابتهم متماثلة في رد فعلهم تجاه المستعمِر. ولم يكن الغرب من خلال نماذج الروايتين غربا واحدا، فعلى سبيل المثال كانت مواقف رؤساء البعثات التبشيرية مختلفة تماما كما يتضح في رواية أتشيبي. فالشرق والغرب لا يمكن أن يختزلا في نموذج واحد، ولكن نماذج متعددة بتجارب مختلفة ومواقف متباينة.

  

لقد تركت تجربة الاستعمار بصماتها على تكوين كل من الأنا والآخر على السواء، فعملية تكوين الهوية عملية دائمة متواصلة لا تنتهي، كل مرحلة تضفي على الهوية شيئا وتسلبها شيئا آخر في الوقت ذاته، حتى تنتج شكلا ثالثا هجينا، وهكذا تتوالى العملية عبر التاريخ الإنساني، فالذات ليست نفي الآخر، والهوية ليست ثنائيات متناقضة متصادمة.