شعار قسم ميدان

لهذه الأسباب كتب الشعراء قصائد الغزل في الحج

midan - haj

اضغط للاستماع

  

"إذا الحجاج لم يقفوا بليلى … فلستُ أرى لحجهم تماما

تمامُ الحج أن تقف المطايا … على ليلى وتقريها السلام"

قيس بن الملوح

     

ذكر أبو المختار عن محمد بن قيس العبدي قوله: "إذ كنت بمزدلفة [أ] بين النائم واليقظان، إذ سمعت بكاء متتابعا ونفسا عاليا، فاتبعت الصوت، فإذا أنا بجارية كأنها الشمس حُسنا، ومعها عجوز، فبَركتُ على الأرض لأنظر إليها، فسمعتها تقول:

 

"دعوتك يا مولاي سرًّا وجهرةً … دعاء ضعيف القلب عن محمل الحب

 بُليت بقاسي القلب لا يعرف الهوى … وأقتل خلق الله للهائم الصب

 فإن كنت لم تقض المودة بيننا … فلا تخل من حب له أبدًا قلبي

 رضيت بهذا في الحياة، فإن أمت … فحسبي ثوابًا في المعاد به حسبي"

     undefined

      

وظلت الجارية تردد هذه الأبيات، وتبكي، فقمت إليها، فقلت: بنفسي أنتِ، مع هذا الوجه يمتنع عليك من تريدينه؟

 قالت: نعم، والله.

فقلت لها: إن هذه لآخر ليلة من ليالي الحج، فلو سألت الله التوبة مما أنت فيه، رجوت أن يذهب حبه من قلبك.

فقالت: عليك بنفسك في طلب رغبتك، فإني قد قدمت رغبتي إلى من ليس يجهل بُغيتي [ب]" [1]، أي إنها أتت إلى الحج لدعاء ربها في نيل مرادها من محبوبها.

 

لم تكن هذه القصة حدثا وحيدا في دواوين الشعر، فإن عين القارئ لا تُخطئ في كُتب التَراجم والأدب أشعار الغزل والمحبة حين زيارة بيت الله الحرام. ففي الحين الذي يذهب الشعراء فيه طالبين المغفرة من ذنوبهم، ومتوسلين إلى الله العفو عن زلاتهم، تجدهم يهتفون باسم محبوبهم ويرجون وصل أحبابهم في الطواف والدعاء، كما قال المجنون:

  

"أَراني إِذا صَلَّيتُ يَمَّمتُ نَحوَها … بِوَجهي وَإِن كانَ المُصَلّى وَرائِيا

 وَما بِيَ إِشراكٌ وَلَكِنَّ حُبَّها … وَعُظمَ الجَوى أَعيا الطَبيبَ المُداوِيا"

 

وقد كان بعض المحبين يذهبون إلى الحج لرؤية محبوبهم، والتضرع بأن يظفروا به، والطمع في القرب منه وسط المسجد الحرام مع أفواج الحجيج بعدما نأت الديار وتفرقت الأوطان.

  

يقول د. إحسان عباس: "فشعر وأقاصيص "كُثيرعزة" يتفقان على أن "كُثيرًا" كان يتردد إلى مكة في موسم الحج ليرى "عزة"، وأنه كان يقنع بالنظر أو الكلام العابر عن أحاسيس النفس ولوعة النظر" [2]. والسبب في ذلك أن العرب كانت تمنع تزويج بناتهم ممن ذكرهن في شعره وصرح بأسمائهن، ويزوجوهن بآخرين [ج]، لكنّ هؤلاء المحبين ما كان حبهم ينطفئ ولا يخبو وإنما يشتعل وينمو.

  

وهذه الحالة هي ما تُفسر سؤال: لماذا قصد المحبون الحج للبحث عن المحبوب؟! ولماذا عرضوا أشعارهم في الموقف الحرام؟! وكيف قال الشعراء الغزل في الحج؟!

   

الدكتور إحسان عباس  (مواقع التواصل الاجتماعي)
الدكتور إحسان عباس  (مواقع التواصل الاجتماعي)

 

قيس بن الملوح وليلى

اشتهر قيس بن الملوح بُحب ليلى حتى سُمّي "مجنون ليلى"، ولما رده أبوها عن تزويجه إياها ساء حاله حتى أخرجه أبوه إلى مكة ليتعافى مما هو فيه، فلما بلغ الكعبة قال له أبوه: "يا قيس! تعلق بأستار الكعبة"، ففعل، فقال له أبوه: "قل اللهم أرحني من ليلى وحُبها" [2]، فلم يستطع أن يتفوه بها وأنشأ يقول:

 

"دعا المُحِرمون الله يستغفرونه … بمكة شُعثًا كي تُمحى ذنوبها

وناديت يا رحمن! أولُ سؤلتي … لنفسي ليلى ثم أنت حسيبها

يا رب لا تسلبني حبُها أبدًا … ويرحم الله عبدًا قال آمينا"

 

فَرَقّ له أبوه، وأخذه بيده ليرمي الجِمار، فبينما هو بمِنى [د] لرمي الجمار، سمع مناديا ينادي بعض أهله من بين الخيام "يا ليلى"، فأصفرّ لونه وأنشأ يقول:

 

"وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى … فَهيَّجَ أحزانَ الفؤادِ وما يَدْرِي

 دعا باسم ليلى غيرها فكأنما … أطارَ بليلى طائرًا كانَ في صدرِي

 دعا باسم ليلى أسخن الله عينه … وليلى بأرض الشام في بلد قفر"

 

وكان قيس يطوف حول الكعبة والناس يدعون ويبتهلون وهو يدعو الله بمُنَى ليلى:

 

"ذكرتك والحجيج لهم ضجيج … بمكة والقلوب لها وجيب

 أتوب إليك يا رحمن مما … عملت، فقد تظاهرت الذنوب

فأما من هوى ليلى وتركي … زيارتها، فإني لا أتوب"

 

في قصيدة "المؤنسة" للمجنون، وهي من أرق أشعاره، كان قيس يصف عدم مفارقة صورة ليلى إياه حتى في الصلاة والعبادة، ولم يكن ذلك من الشِرك وإنما من شدة الغُلمة والحب الذي خامره في أدق أحواله:

 

"أَراني إِذا صَلَّيتُ يَمَّمتُ نَحوَها … بِوَجهي وَإِن كانَ المُصَلّى وَرائِيا

وَما بِيَ إِشراكٌ وَلَكِنَّ حُبَّها … وَعُظمَ الجَوى أَعيا الطَبيبَ المُداوِيا"

    

    

وكان قيس يحن للذهاب للحج عساه يظفر منها برؤية، يقول:

 
"أحِنُّ إلى أرْضِ الْحِجَازِ وَحَاجَتي … خيام بنجد دونها الطرف يقصرُ

 وما نظري من نحو نجد بنافعي … أجَلْ، لاَ، وَلكنِّي عَلَى ذاكَ أنْظُرُ

متى يستريح القلب، إما مجاورٌ … حزين وإما نازح يتذكر"

 

وكان قيس يرجو في حجه أن يوافق حجها فيراها من بين الخيام وتراه، بينما ينشغل الناس عنهما بأسواق مكة ويخلو كلٌّ منهما بالآخر:

 

"فيا ليت ليلى وافقت كل حجة … قضاءً على ليْلَى وأنِّي رَفيقُهَا

 فألْقَاكِ عنْدَ الرُّكْنِ أوْ جَانبَ الصَّفَا … ويشغل عنا أهل مكة سوقها

فأنشدها أن تجزي الهون والهوى … وتمنح نفسًا طال مطلاً حقوقها"

 

كُثَير وعزة

"ولي زَفراتٌ لو يدُمْنَ قَتَلْنَنِي … توالي التي تأتي المُنى قَدْ تَوَلَّتِ

وكنّا سلكنا في صعودٍ من الهوى … فلمّا توافينا ثبتُّ وزلَّتِ"

كُثَير

 

أما كُثيّر عزة، فقد دخل على عبد الملك بن مروان وكان أميرا للمؤمنين فقال له: حدثني بأعجب ما لقيت من عزة، فقال: حججت عاما وحجت عزة وزوجها [هـ] ولا علم لأحدنا بصاحبه، فأمرها زوجها أن تبتغي سمنا لتصنع به طعاما، فجعلت تطوف على الخيام حتى دخلت خيمتي وكنت أبري سهما [و]، فلما رأيتها جعلت أبري ذراعي وما أشعر حتى بريت اللحم وصار الدم يسيل، فدخلت وأمسكت بيدي وجعلت تمسح الدم بثوبها، وكان عندي سمن فحلفت عليها لتأخذنه، فأخذته وانصرفت.

 

وعندما رأى زوجها الدم في ثوبها سألها عنه، فكتمته، فحلف عليها حتى أخبرته، فشتمها وأمرها أن تذهب معه حتى تقف عليّ وتشتمني في الحج، فكان كُثير يقول: [3]

 

"يُكلّفها الخنزير شتمي … وما بها هواني ولكن للمَليك استذلتِ

 هنيئًا مريئًا غير داءٍ مخامرٍ … لعزّة من أعراضنا ما استحلتِ

أسيئي لنا أو أحسني لا ملومةً … لدينا ولا مقليةً إن تقلّتِ"

    

    

وقد سُمّي كُثير بشاعر الحجاز، إذ أكثر من ذكر الكعبة والبيت الحرام في أشعاره. وكان كُثير يشتاق لليلى بين الحجيج ويناديها في وسط تلبيات الناس، ففي قصيدته الرقيقة "خليلي هذا رِبعُ عزة فَاعقلا" ذكر كثير كَلَفه بعزة وذكره لها بين أدعية الحجيج، فيقول:

 

"أُناديكَ ما حجَّ الحجيجُ وكبَّرتْ … بفيفاءِ آلٍ رُفقة ٌ وأهلَّتِ

وما كبَّرتْ من فوقِ رُكبة َ رُفقة ٌ … ومِنْ ذي غَزَالٍ أشعرَتْ واسْتَهَلَّتِ"

    

وفي مرةٍ أخرى حج كُثير ولم يلتق عزة في الحج، فساء مزاج كُثير وأنشد يقول:

 

 "كأن لم يوافقْ حجّ عزّة حجّنا … ولم يلقَ راكبًا بالمحصّب أركبُ

فيا طول شوقي إذا حال دونها … بُصاقٌ ومن أعلام صَنْددَ منكبُ

حلفتُ لها بالراقصاتِ [ز] إلى مِنى … تُعذُّ السّرى كلبٌ بهنَّ وتغلبُ"

  

العباس بن الأحنف وفوز

"يا أهل مكّة َ ما يرى فقهاؤكم … في عاشقٍ متعاهد لسلامِ

 أترون ذلك ضائرًا إحرامه … أم ليس ذاك بضائر الإحرامِ"

العباس بن الأحنف

 

أما العبّاس بن الأحنف، فقد كان شاعرا رقيق الغَزل حتى قال البحتري في شعره: "أغزل الناس" [4]. خالف العباس في شعره الشعراء في طرائقهم، فلم يمدح ولم يَهجُ، بل كان شعره كله غزلا وتشبيبا، فاتجه العباس لذكر محبوبته "فَوْز" بعدما منعها أبوها منه، وكان يترصد لها في موسم الحج حتى خشي على إحرامه من الفساد، وفي ذلك يقول:

 

"أَيُبطِل إحرامي كتابٌ كتبتُه … إلى أهل وُدِّي، أم عليّ به دَمُ [ح]؟

وإني لألقى مُحرمًا من أُحبه … فأعلي به طَرفي ولا أتكلم

ولا بأس أن يلقى المحب حبيبه … فيشكو إليه بثَهُ وهو مُحرم"

 

بالغ العباس من ذكر فوز في الحجاز والحج، وكان ينتظرها بعد رحيلها من الحجاز، فيقول:
  

"لعَمُركَ ما هناك قُدومُ (فوز) … ولا جادتْ عليك بطيب زاد

وكانت بالحجاز فكنتُ أرجو … لرجعتها مُحافظة الوداد"

 

وكعادة العرب، فقد حال أبو فوز بينها وبين العباس بن الأحنف لمّا علم حبه إياها، فكان يذم والدها، ويتمنى مجاورتها في مكة منشدا:

  

"خبروني عن الحجاز فإني … لا أراني أَملُّ ذِكرَ الحجاز

إن في بعض ما هناك لَشخصًا … كان يُشفي الموعود بالإنجاز

تلك (فوز) فقبح الله شيخا … حال بيني وبينها بالمخازي"

 

وبعدما ساء حاله، نصحه البعض بأن يقف بزمزم ويدعو الله أن يشفيه من حُب "فوز"، فكان يشرب زمزم ويقول:

 

"فقولوا لهم جئناه من ماء زمزم… -لنِشفيه من داء به- بذنوب

وإن أنتم جئتم وقد حيل بينكم … وبيني بيوم للمنون عصيب"

    

  

أبو نواس وجنان

"إلهَنا، ما أعدلَكْ *** مَليكَ كلِّ من مَلَكْ

لبيكَ قد لبَّيتُ لكْ *** لبيكَ، إن الحمدَ لكْ"

أبو نواس

 

أما جَنان جارية أديبة عاقلة ظريفة تعرف الأخبار وتروي الأشعار، رآها أبو نواس فأُعجب بها وقال فيها أشعارا كثيرة. فعرف يوما أن جنان قد عزمت على الحج، فكان هذا سبب حجه [5]، وقال: أما والله لا يفوتني المسير معها والحج عامي هذا إن أقامت على عزيمتها.

فلما حجت سبقها إلى الخروج وما كان نوى الحج ولا عزم على الخروج للحج إلا لخروجها، وأنشد في ذلك يقول:

  

"ألم تر أنني أفنيت عمري … بمطلبها ومطلبها عسير

 فلما لم أجد سببا إليها … يقربني وأعيتني الأمور

حججتُ وقلت قد حجت جنان … فيجمعني وإياها المسير!"

    

       

وهذه القصص والأشعار تبيّن غرضا من أغراض المحبين في حجهم، وتُفسر أسباب الهيام والغزل الذي كثر في كُتب الأدب ودواوين الشعر عند الحج. وقد كانت تنطلق هذه الأشعار ممن حُرموا محبوبهم ولم يظفروا به، إذ كانت عادة العرب تزويج بناتها بغير من ذاع حبه إياهن وذكرهن في أشعاره، فكان هؤلاء المحرومون في موعد للحج طمعا في الوصول أو الظفر بمحبوهم والقرب منه، فحفظ الحج لنا الكثير من أشعار الغزل وشهد، باعتباره محفل المسلمين السنوي، على الكثير من حالات الحب البريء وغير البريء.

—————————————————————

الهوامش:

أ. مزدلفة: موطن من مواطن الحج.

ب. أي إنها دعت الله سبحانه وتعالى بأن تنال بوصله.

ج. وهذا مخالف لهدي النبي القائل: "ما رأيت للمتحابين مثل النكاح".

د. موطن من مواطن الحج.

هـ. كانوا يحبون هؤلاء النسوة قبل زواجهن، لكن آبائهن يمنعهن من الزواج بهم، ولم يكونوا يحبون نساء متزوجات ابتداء فيما يُؤثر عنهم.

و. يستخلصه للطعام.

ز. الجمال التي تتمايل في طريقها للحج.

ح. الدم في الحج: كناية عن فساد الحج، فيفدي الحاج بذبح شاة.