شعار قسم ميدان

كيف يشخص فانون أزمة الهوية لدى المثقف العربي في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"؟

ميدان - فانون رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"

اضغط للاستماع

  

"لا يمكن لأي كان أن يتهرب من التعامل مع ثنائيات الشرق والغرب، والشمال والجنوب، والمالك والمملوك والإمبريالي والمناهض للإمبريالية والأبيض وذي البشرة الداكنة. لا يمكننا تجاهلُ أي من هذه الثنائيات والتظاهرُ بأنها غير موجودة، فالاستشراق المعاصر يتلاعب بها مما يزيد من اتساع الهوة ما بين الطرفين ويزيد من احتقان علاقتهما لتتحول من مرض عارض إلى مرض مزمن". [1]

(إدوارد سعيد – الاستشراق)

    

يتناول المفكر وعالم النفس فرانز فانون، أبرز منظري النظرية النقدية وأحد أبرز مفكري نظرية ما بعد الاستعمار، في كتابه "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" العلاقة بين شخصية الإنسان المستعمِر والإنسان المستعمَر ويحلل العلاقة ما بينهما عبر إرجاعها إلى جذورها النفسية.

 

يبني فانون مقاربته على التمايز الشديد ما بين السود والبيض، بقوله إن الوعي الجمعي لطالما ربط ما بين اللون الأبيض وكل المعاني الجميلة الجذابة من نور وحقيقة وعدالة، وحضارة وإنسانية ومدنية، فيما يمثل الأسود معاني البشاعة والخطيئة والظلام والفسق، وهي معانٍ نجدها حتى في القواميس.

  

الأديب السوداني الطيب صالح (مواقع التواصل)
الأديب السوداني الطيب صالح (مواقع التواصل)

 

لتنعكس تلك المعتقدات ولا شك على العقل الجمعي، والتي امتدت لتطول آثارها تعريف الإنسان الأسود نفسه والإنسان الأبيض. فالإنسان الأبيض هو السيد الذي يملك كل سمات الرفعة والتفوق والذكاء والحنكة، وهو ابن الحضارة البار الذي أتى مضحيا بماله ووقته ونفسه لينقذ ذاك الأسود من براثن الهمجية والتوحش، يعيش عيشة الحيوانات ولا يملك حنكة الرجل الأبيض، وهذا ما يبرر تسخيره للعمل عبدا، أو في مهنة حقيرة، ويعيش حياة أدنى من حيث المكانة والتأثير. [2]

 

يرى فانون أنه ما من فرق حقيقي ما بين الرجل الأبيض والأسود، وأن ما جعل الأبيض ذا اليد العليا هو امتلاكه القوة الاقتصادية والآلة العسكرية الكافية لإخضاع شعوب من السود بأكملهم، فيما يعيش السود في فقر مدقع وجهل رغم غنى أراضيهم بالثروات.[3] فالرجل الأبيض وفقا لفانون يمثل الحضارة الغربية كاملة في مقابل الأسود الذي يمثل باقي دول العالم المستعمَرة والتي تضم شعوب العالم الثالث من الأفارقة ذوي البشرة السمراء أو السوداء بالضرورة وغير الأفارقة.

  

مثقف حبيس آلام الماضي

من أقرب الأمثلة التي تجسد هذا الصراع، بين الأبيض والأسود، شخصية مصطفى سعيد في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح. مصطفى مثقف سوداني ينبغ بين أقرانه فتتبناه أسرة بريطانية ليتابع دراسته في القاهرة، ثم يتابع دراساته العليا في بريطانيا.

  

يسافر مصطفى إلى بريطانيا لمتابعة دراساته العليا ويصبح فردا فاعلا ضمن طبقة المثقفين والأكاديميين البريطانيين
يسافر مصطفى إلى بريطانيا لمتابعة دراساته العليا ويصبح فردا فاعلا ضمن طبقة المثقفين والأكاديميين البريطانيين
 

تسكن مصطفى هواجس وذكريات سقوط بلاده في براثن الاستعمار، والمذلة والمهانة التي لقيها أهله وما زالوا يتجرعونها في ظل هذا المستعمر، والذي لا ينفك يطور ويغير من أشكال سيطرته وهيمنته. فبعد جلاء قواته العسكرية من المستعمرات والإعلان عن انتهاء المد الاستعماري الكولونيالي، سعى إلى مد خضوعها له سياسيا واقتصاديا وثقافيا عبر الإمبريالية.

 

يسافر مصطفى إلى بريطانيا لمتابعة دراساته العليا ويصبح فردا فاعلا ضمن طبقة المثقفين والأكاديميين البريطانيين. لكن إلى جانب الدراسة الأكاديمية، يجد مصطفى نفسه ذاهبا إلى الغرب بدافع الرغبة في الانتقام من الغرب ذاته، وهذه المرة عبر نسائه تحديدا.

   

يعاني مصطفى من صراع، فهو يتنازعه عالمان، وطنه وبلاد الاستعمار. إن علاقة مصطفى بالمستعمر علاقة معقدة ومضطربة، فهي علاقة السيد بالتابع، حيث يشعر بالكره الممزوج بالرهبة والتقدير تُجاه المستعمر، بينما ينظر إليه المستعمر بشفقة ممزوجة بالاحتقار والازدراء. [4]

 

 

تعكس العلاقة المضطربة ما بين مصطفى وعائلته الأصلية اضطراب علاقته بالتراث والوطن. حيث لا أبَ له، مما يعني انقطاعه عن التراث والثقافة الحاضنة، كما أن عدم وجود إخوة له يشير إلى شعوره بالغربة بين أبناء بلده. أما علاقته بوالدته، فهي ذات دلالة واضحة على اضطراب علاقته بوطنه ولغته وثقافته الأم. اضطراب ينعكس بصورة جلية حين لحظة وداعه لوالدته، حيث لا يحرك هذا الحدث أي عواطف أو أحاسيس في أي منهما، للحد الذي انعكس بعدم شعوره بأي عاطفة تجاه الأسرة البريطانية التي تحتضنه، بينما كانت السيدة روبنسون ترعاه وكأنه ابنها، لكن الرواية تعرض رمزية مهمة، حيث تظهر انجذاب مصطفى غير المفهوم تجاه السيدة روبنسون، ليبدو أكثر قربا منها له من والدته، إشارة إلى انبهاره بالبريطانيين وثقافتهم في مقابل تنكّره لأهله وثقافته الأم. [5]

   

اللغة كأداة استعمار

يرسم فانون صورة للإنسان المستعمَر الذي يعيش تحت سطوة الاستعمار ويتحدث بلغته، ويتساءل: كيف يمكن للغة التي تغيبه وتهمشه أن تعمل على تعريفه وإبراز حضوره؟ ويضيف فانون أنّ العلوم الغربية كلها قائمة على المركزية الأوروبية، بحيث يعتبر الأوروبي النموذج المثالي للإنسان المتحضر، والثقافة الأوروبية النموذج الأمثل للنموذج الحضاري الإنساني.

 

من هنا تتبين ملامح الأزمة والإشكال الحقيقي بوضوح، فكيف لغير الأوروبي أن يجد هويته في علوم لا تعترف به وتضعه على هامش الأوروبي الأبيض الذي يتصدر كافة الميادين؟

   

undefined

   

حين ننظر إلى مصطفى، نجدهُ يتحدث الإنجليزية ويدرُس ثم يعمل محاضرا في أرقى جامعات بريطانيا، لكنّ شعورا بالدونية لا يفتأ يلازمه ويقض مضجعه. فاللغة التي يتكلم بها والثقافة التي يدّعي انتماءه إليها لا تنفك تذكره بدونيته مقارنة بالرجل الأبيض وكونه وافدا وغريبا على البلاد، وإن كان "أكثر بياضا" من أقرانه السود كما يقول فانون، بياض لم يكتسبه لتغير بشرته بالتأكيد، ولكنه وصف حازه لإتقانه الإنجليزية. [6]

 

يرى فانون أن لدى المستعمَر شخصيتين، إحداهما تظهر لأصحابه، والأخرى خاصة بالتعامل مع الرجل الأبيض. هذان الوجهان ما هما إلا دليل على الضغط الشديد الذي يتعرض له الرجل الأسود من قِبل الأبيض، حيث إن التكلم بلغة ما لا يعني التلفظ بأصواتها وفقا لنسق ومفردات محددة فقط، بل يعني بالضرورة أن المتكلم بهذه اللغة قد تشرب جزءا كبيرا من ثقافة هذه اللغة وسياقاتها الحضارية والتاريخية والدينية. [7]

 

وعلى نحو ممثال، يرى المتأمل في شخصية مصطفى أنه نحا منحيين مختلفين تماما. ففي حياته في بريطانيا كان يتحدث الإنجليزية ويقرأ أبرز الروايات وأمهات الكتب الإنجليزية في الأدب وما سواه بطلاقة، ويكتب الشعر الإنجليزي، وينخرط في شتى النشاطات الفكرية والثقافية، ويعيش كأحد المثقفين المغتربين الذين غدوا أبناء بارين بالغرب.

   

يسعى مصطفى للتقرب من الرجل الأبيض وكسب احترامه، ويظن أنه بإتقان اللغة الإنجليزية سيغدو أكثر بياضا وتحضرا
يسعى مصطفى للتقرب من الرجل الأبيض وكسب احترامه، ويظن أنه بإتقان اللغة الإنجليزية سيغدو أكثر بياضا وتحضرا
  

أما حين عاد إلى وطنه، وعاد إلى الحديث باللغة العربية مع أبناء جلدته بطبيعة الحال، فإنه كان ينأى عن التعبير عن آرائه التحررية بوضوح يمكن أن يدفع السودانيين إلى وصمه بالمجون أو الخروج عن إرث الأمة. ومن هنا، لا يعد أمرا مستغربا أن نجد مصطفى يخفي كتاباته بالإنجليزية ورسوماته وكل ما يتعلق بذكرياته في بريطانيا، ليضعها في غرفة ويخفي أمرها عن الجميع باستثناء زوجته، وكأنه عالم يخجل منه ويرى أنه لن يروق للسودانيين التعرف عليه. [8]

 

يعكس تنازع مصطفى بين شخصيتين مختلفتين تماما أنه يجد نفسه في عالم الرجل الأبيض مضطرا إلى الحديث بلغته والتماشي مع ثقافته وعاداته، أما في عالم أقرانه السود، فإنه يتكلم بلغته العربية ويسعى للانتماء لثقافته وعدم التصريح بما يسيء لها. [9]

 

فالمثقف مصطفى يسعى للتقرب من الرجل الأبيض وكسب احترامه، ويظن أنه بإتقان اللغة الإنجليزية سيغدو أكثر بياضا وتحضرا، فكلما كان أكثر تشربا للثقافة الغربية وأكثر تماشيا مع معتقداتها، ازداد تقبل أبناء تلك الثقافة له، وفي هذا يقول بول فاليري: "إن اللغة إله متجسد في جسد بشر".

 

 

رغم كل ذلك، فالبيض لن يروه يوما واحدا منهم، حيث سيظل بربريا في عينهم، وإن ارتدى ربطة عنق وبزة أنيقة وتكلم اللغة الإنجليزية بطلاقة. لذلك خاطب البروفيسور ماكسويل فوستر كين مصطفى قائلا: "أنت يا أستاذ مصطفى خير مثال على أن مهمتنا الحضارية في أفريقيا عديمة الجدوى، فأنت رغم كل المجهودات التي بذلناها في تثقيفك، تبدو وكأنك خرجت من الغابة للتو". [10]

   

المثقف والمرأة البيضاء

يرى فانون أنّ الرجل الأسود يسعى لكسب حب امرأة بيضاء طمعا في اكتساب مكانة قريبة من مكانة الرجل الأبيض. [11] ودلالة هذا سعي مصطفى الحثيث لتحقيق ذاته وإثبات انتمائه لبريطانيا عبر إقامة عدة علاقات مع نساء بيض، وهي جميعها علاقات سطحية تخلو من أي عاطفة حقيقية، وانتهت جميعها بانتحار النساء وقتل البريطانية التي تزوجها.

 

تجسد هذه العلاقة المضطربة بالنساء البريطانيات علاقة مصطفى بالمستعمر، وهي علاقة يمتزج فيها الشوق بالرهبة والإعجاب بالدونية، ولا تنتهي إلا بالقضاء على الطرفين، ما يشير إلى أن علاقة المستعمِر بالمستعمَر لن تستقيم يوما ما لم يخرج المستعمَرُ من ربقة الاستعمار ويتحرر منه، ليغدوَا ندين متكافئين. أما كل محاولات المستعمَر في الانتقام في ظل وضعه الحالي فستبوء بالفشل، إذ هو يستخدم اللغة، أداة المستعمِر، ويفكر بثقافته ويعيش بين أبنائه الذين يشاطرونه كافة نشاطات حياته، بل وينصبون قادة له يوجهونه في شتى أمور حياته. [12]

  

undefined

   

وربما يرى المثقف في علاقته مع المرأة البيضاء انتقاما لذاته الجريحة وكرامته الكسيرة التي داستها أقدام المستعمر حين دخل بلاده غازيا معتديا. [13] فحين ننظر إلى تصور مصطفى لعلاقته مع المرأة البيضاء، نجده يرسم في الغرفة مشهدا سُرياليا على نحو يحاكي صورة بلاده حين دخلها الغزاة، وينظر إلى المرأة باعتبارها ممثلا للغازي ويشرع في الانتقام منها وتفريغ كل ما لديه من غضب وحنق وغيظ فيها.

  

كانت علاقة مصطفى بزوجته جين موريس الأكثر تمثيلا لهذه العلاقة المضطربة، حيث كانت موريس هي الطرف الذي كان مشدودا إليه رغم احتقارها له ورغم وصفها له بأقذع الأوصاف، ورغم الخلافات الدائمة بينهما، أصر على الزواج بها، في علاقة انتهت بقتل جين على يده. ويتضح أن مصطفى اختار جين لأنها الأكثر تمثيلا للمستعمر ببشاعته وجبروته وصلفه وتسلطه، فوجد فيها الفريسة الأمثل لينتقم من صورة الاستعمار فيها.

  

إلا أن درامية المشهد تمثّلت في أن مصطفى لم يقتلها إلا حينما سلمته نفسها، فتمكن منها بطواعيتها، ليطعنها طعنة أودت بحياتها، بعد أن كانت جين تنتصر عليه في كل معركة يخوضانها، دلالة على ضعفه كمستعمَر وأنه وإن حصل نصر ما، فإن هذا لا يكون إلا برضى المستعمِر. حملت تلك الحادثة رمزية مكثفة، إذ جسّدت طبيعة العلاقة المضطربة وغير الصحية، والتي تنعكس في العلاقة ذاتها بين المثقف والمستعمِر، والتي سيكون مآلها نهايتهما معا، ماديا أو معنويا. [14]

  

التحرر الثقافي لن يكون يوما دون انعتاق المستعمَر نفسيا من التبعية والشعور بالدونية للمستعمِر
التحرر الثقافي لن يكون يوما دون انعتاق المستعمَر نفسيا من التبعية والشعور بالدونية للمستعمِر
 
هل تمكّن مصطفى من التحرر؟

ينتهي الأمر بمصطفى بالموت، حين نزل في النهر وسلم نفسه لأمواجه، في ما يبدو أنه إشارة إلى انتحاره، حيث مثّل موته دلالة على فشل المثقف العربي في مواجهة قدره وتحقيق التحرر الذي كان يسعى له، بعد أن كان يسعى للانتقام من الإنجليز وهو مقتنع أنهم يفوقونه مكانة.

 

إنه ينطلق من قناعة بدونيته في مقابل الأبيض الأعلى منه مكانة والأقوى والأكثر حنكة. ومن خلال متابعتنا لتصرفاته وسلوكه مع زوجته البريطانية ورفيقاته، نجده مضطربا في كثير من الأحيان. كما أن سعيه الجاد للفت نظر النساء البيض بما يظهره من تعدد في المواهب وتفوق أكاديمي يعكس هشاشته الداخلية ليعوض ما يراه من نقص فيه. [15]

 

لتقودنا تلك النهاية لصورة مفادها أن الاستعمارَ الثقافي لا يقلّ فتكا عن الاستعمار التقليدي، وأنّ التحرر الثقافي لن يكون يوما دون انعتاق المستعمَر نفسيا من التبعية والشعور بالدونية للمستعمِر، فمصطفى سعيد كان يسعى للانتقام، وكله إيمان بدونية ثقافته ولغته في مقابل اللغة والثقافة الإنجليزية، مما أدخله في دوامة صراعات لم تزده إلا ألما وذلا ولم تطفئ ما يعتمل داخله من نيران الحنق والغضب الدفينة. وكما يقول الطيب صالح في روايته: "إن العلاقة بيننا وبين أوروبا ليست علاقة رومانسية كما يصورها الأدب العربي، إنها علاقة قائمة على الصراع ما بين حضارتين مختلفتين. هذا لا يعني أن قدرنا خوض صراع مع أوروبا إلى الأبد، ولعلنا نصل إلى حلّ ينهي هذه الصراعات ويردم الفجوة بيننا، ويبلّغُ شعوبنا مكانة مرموقة بين الأمم". [16]

المصدر : الجزيرة