شعار قسم ميدان

برائعته "أغنية الجليد والنار".. هكذا يعلمك جورج مارتن فنيات الكتابة الأدبية

ميدان - (جورج ر.ر. مارتن)

غرفة عتيقة الطراز، من قلب قلعة صغيرة تطل من ربوة عالية على غابة تتمايل أشجارها من عواصف الشتاء، يجلس في عزلة تامة هناك على مكتبه الخشبي منذ بزوغ الصباح ولا يغادره إلا في جوف الليل، على الأغلب محاطا بسجائره، ولا نستبعد أن تكون الأوراق والأقلام هي أدواته المعتادة في الكتابة، وفي الخلفية لا تصدح الموسيقى، بل مونولوجات داخلية تدور في عقل شخصياته، يتردد صداها من قلب الغابة المظلمة التي يتسع أفقها أمامه. هكذا يتخيل القراء جورج ر.ر. مارتن وهو يصطاد الفراشات ليكتب الأجزاء الأخيرة من ملحمته الروائية، ويتساءلون: كيف يروي جورج جذور خياله؟ ومن أي لحن سري سيكمل لنا "أغنية الجليد والنار"؟

  

"الكُتّاب ليسوا مخلوقات عقلانية بالكامل"

 (جورج ر.ر. مارتن)

  

إذا زرت أقرب مكتبة لك، فإنك في الغالب ستجد رواية "رقصة مع التنانين" تتصدر واجهتها، سيخبرك البائع أنها آخر الأعمال المنشورة لجورج ر.ر. مارتن وأن الأجزاء الأخيرة من سلسلة "أغنية الجليد والنار" لم تصدر بعد، لا توجد أي عراقيل لصدور الرواية عدا أن جورج لم ينته بعد من الكتابة. ما يقرب من مليوني كلمة هم إجمالي ما كتبه جورج مارتن في سلسلة "أغنية الجليد والنار" بأجزائها الخمسة معتمدا على "WordStar"، وهو برنامج كتابة لا يعرفه جيلنا، فكاتبنا ليس على علاقة وطيدة بمستجدات التكنولوجيا الحديثة، لا يعرف ماهية عمل برنامج الأوفيس ولا أجهزة الحاسوب المحمولة ولا يملك حسابات على مواقع التواصل[1]. هناك الكثير من الوقت يمر بحسب التوقيت الشخصي لمارتن دون أن يشغله نمط حياتنا السائلة، لكنه برغم ذلك يصرّح أنه بالكاد ينجز ثلاثة فصول من الرواية في ستة أشهر.

  

 جورج ر.ر. مارتن في منزله (مواقع التواصل)
 جورج ر.ر. مارتن في منزله (مواقع التواصل)

     

مروج البستاني

ينبث البستاني حفرة في أرضه، ويُسقط بها البذور، ثم يرويها على مهل، يعرف البستاني جيدا نوع الثمار المنتظرة، لكنه لا يعرف عدد الفروع النابتة ولا عدد الثمار الطارحة؛ هكذا يرى جورج ر.ر. مارتن نفسه في عالم الكتابة، بستاني في مزرعة لا تبور أرضها، يجلس بجوار حرثه منتظرا نتاج فِلاحته، لا يضع خططا سابقة قبل الكتابة ولا يشرع فيها وهو يعلم تمام العلم إلى ماذا ستنتهي به الأحداث، فقط يُلقي البذور وينتظر -معنا- النتيجة في موسم الحصاد، لكن هذا الانتظار يطول بنا وبه لسنوات[2].

  

يمكن تخيل عقل مارتن باعتباره مصنعا يتدفق فيه تاريخ العالم من جهة، لتخرج من الجهة الأخرى قصص خيالية مليئة بالناس والحيوانات والوحوش والدماء. في صغره كان جورج يكتب القصص مقابل أموال زهيدة تكفيه كطفل يحلم بشراء الحلوى والكتب المصورة، هذا الخيال الذي تغذى في صغره على حروب باتمان مع الكائنات الفضائية سيخلق لنا حربا ضارية يخوضها أهل الشمال في قارة ويستروس مع جيش ملك الليل من السائرين البيض*. لكن هذا الصبي المولع بالخرافات والحكايات الشعبية لن يعرف النجاح مع أول رواياته المنشورة، ولا حتى الثانية، بل سيجلس في مصاف أشهر كُتّاب العقد الحالي وهو عجوز على مشارف السبعين من عمره[3].

  

جورج ر.ر. مارتن في صباه (مواقع التواصل)
جورج ر.ر. مارتن في صباه (مواقع التواصل)

     

إن الصورة الفانتازية التي نتخيلها عن منزل جورج ر.ر. مارتن صحيحة بالفعل، فهو يعيش في قلب عالم قارتي ويستروس وإيسوس**، في منزل جورج متحف متواضع يضم تماثيل صغيرة لشخصيات "أغنية الجليد والنار"، كل عائلة في ركن خاص بها يتراص فيها نسلها من جذور الأجداد وصولا للبراعم، ونوافذ البيت مرسوم عليها شعارات آل لانيستر وآل ستارك، وبجواره مكتبة تنتصب عليها المطرقة الحديدية الخاصة بالملك روبرت باراثيون التي صنعها له الحداد دونال نوي من الفاليريان[4]، لكن قبل أن تُبنى القلاع وتصقل السيوف؛ كيف نبتت في رأسه أول بذور هذا العالم الخيالي؟

  

"كان ممتعا أن أخلق هذا العالم، وكان ممتعا أن أعيش فيه مرة أخرى"

(جورج ر.ر. مارتن)

 

رقصة الذئاب الوليدة

عام 1991 تخيل جورج مارتن مشهدا من لا شيء، مجموعة من الرجال تعثر على ذئاب وليدة بين الثلوج، لا يعرف جورج من هم هؤلاء الرجال؟ ولا ماذا سيفعلون بالذئاب؟ لم يكن بيده إلا أن يكتب المشهد الذي طاف في مخيلته فنتج عنه قصة قصيرة، ثم تباعا أخذته الكلمات وتمددت الأرض تحت أقدام الرجال والذئاب لتُشكّل قارة، وعالما افتراضيا، وعائلات وصراعات وعرشا حديديا[5].

  

في كتاب "الحكاية وما فيها" يتتبع المؤلف إحدى المنهجيات الشهيرة في الكتابة الإبداعية التي تبدأ بزراعة فكرة صغيرة في خيال الكاتب تنبت منها خطوط الكتابة، وهذه النبتة يرويها الكاتب بسؤال متكرر "ماذا لو؟"[6] الذي يفتح مساحات جديدة لتشعب خيوط الحكاية، وعلى الكاتب أن يقلّب تربته جيدا ليُعيد اكتشاف المسارات التي تليق بها، والبحث الدائم والقراءة هم أدوات الكاتب لإنعاش تربة الحكاية. ينصح جورج ر.ر. مارتن الكُتّاب الناشئين بالقراءة من أجل كتابة حصيفة، يقول: "اقرأ كل شيء، روايات غموض، وخيال علمي، ورعب، وكلاسيكيات، وإيروتيكية، كل كاتب لديه شيء ما في كتاباته ليعلّمك إياه، اقرأ ثم اكتب، اكتب كل يوم، لكن لا تكن مثلي أو مثل تولكين"[7].

  

جون. ر. تولكين (مواقع التواصل)
جون. ر. تولكين (مواقع التواصل)

    

لا يخلو ذكر "جون. ر. تولكين" من أحاديث جورج ر.ر. مارتن، يقول إن تولكين سيطر على عقله، ويبدو أن جورج يقتفي أثره في عملية الزرع والحصاد. نعرف تولكين صاحب الملحمة الفانتازية "سيد الخواتم" (The Lord of the Rings) التي نبتت من خريطة عالم خيالي على قارة "أردا" حيث حياة الإنسان الأول وعالم الهوبيت، مملكة بأكملها خلقها تولكين وابتدع أساطيرها وأشباحها واللغة التي يتحدث بها أهلها[8].

  

حلم جورج بأن يرتبط اسمه بتولكين، لا بالأعمال التي كُتبت بعد "سيد الخواتم" في محاولات سيئة لخلق عالم فانتازي على غرار تولكين[9]، بدأ تولكين يهتم بالكتابة الأدبية ويغوص في عالمها بعد تقاعده من العمل في الخمسينيات، فالشهرة الأدبية لم تأته إلا عجوزا مثل جورج. ويمكننا الآن القول إن ما حلم به مارتن يتحقق الآن في نجاحه في قطف ثمار الفانتازيا التي زرعها تولكين، إلا أن مارتن ينحرف قليلا عن مسار ملهمه الأول ليقدم لنا ملحمة لا تنتصر للنهايات السعيدة والأبطال الأخيار، بل تكشف لنا طبيعة النفس البشرية بتقلباتها وعوراتها وتخبرنا، كما الحياة تماما، أن الطيبين يموتون حتما، وأن الخبيثين يمكن أن يعيشوا طويلا ويتكاثروا ويعتلوا العروش، لأن الحياة ليست مفصّلة على أهوائنا كما تخبرنا حكايات ما قبل النوم.

  undefined

   

"القارئ يعيش ألف حياة قبل أن يموت، والرجل الذي لم يقرأ أبدا يعيش فقط حياة واحدة"

(جورج ر.ر. مارتن)

  

يصعب على جورج ر.ر. مارتن تصنيف "أغنية الجليد والنار" بأنها فنتازية فحسب، بل يرى أنها تقدم التراث التاريخي بطريقة فانتازية، وهو ما يفسر تعلق جورج بالقراءات التاريخية، بل إنه يشجع على خوض تجربة القراءة لاثنين من أهم كُتّاب الأدب التاريخي في نظره "برنارد كورنويل" و"شارون كاي بينمان"[10]. مئات الأسئلة تتوافد على بريده الإلكتروني كل يوم من قرّائه، يسألون: بماذا تنصحنا أن نقرأ إلى حين انتهائك من كتابة الرواية؟ فيجيب بإخلاص كيف لا تقرأون الكلاسيكيات الفانتازية وكتب التاريخ؟ يكترث جورج بأن يربط قرّاء رواياته بالكُتّاب أمثال تولكين، روبرت إ. هوارد، كاثرين مور، جاك فانس، فريتز ليبر، ريتشارد آدامز، أورسولا لي جوين، ميرفين بيك، وغيرهم الكثيرين من كُتّاب الفانتازيا والأدب التاريخي. يعرف جورج ذائقة قرائه، ويخبرهم أنهم لن يغرموا بكل هؤلاء الكُتّاب، لكنّهم ملهمون في إثارة الخيال والأفكار والحكايات كما حدث معه[11].

  

دائما ما يخبر مارتن قرّاءه أن أفضل الكتب بالنسبة له تلك التي يعود لقراءتها أكثر من مرة، وفي كل مرة يكتشف معها شيئا جديدا أكثر إمتاعا، وأعمال تولكين، وجاك فانز، ورواية "جاتسبي العظيم" لفرنسيس سكات فيتزجيرالد، و"قصة مدينتين" لتشارلز ديكينز، من مفضّلاته التي يعود لقراءتها طيلة الوقت[12]. وإلى جانب الخيال فإن كتب التاريخ هي المحرك الرئيس لخيال جورج الذي دفع فكرته الصغيرة إلى أن تتحوّل إلى صراعات وحروب مستلهمة مما سطرته كتب التاريخ يوما، مثل حرب الوردتين التي اشتعلت لقرابة ثلاثين عاما في إنجلترا بين آل يورك وآل لانكستر، فهي التي أوحت له بالصراع الدرامي في "أغنية الجليد والنار" حيث المعارك الحربية والخيانات والاختيارات والقرارات البشرية التي قد تهدم مملكة بأكملها[13].

    undefined

    

"يقرأ الناس الروايات الخيالية ليروا الألوان من جديد، الفانتازيا تظهر لنا العجائب، وهذا الأمر يلبي حاجة ما في قلب الإنسان"

(جورج ر.ر. مارتن)

  

صيد الفراشات

تشحذ الفانتازيا ذهن جورج ر.ر. مارتن، يقول: "أفضل كتابات الفانتازيا هي المكتوبة بلغة الأحلام، إنها حية كما الأحلام، بل إنها أكثر واقعية من الواقع". إن الفانتازيا بالنسبة له هي محاولاتنا للعثور على الألوان في حياتنا مرة أخرى، فهناك شيء في الكتابات الخيالية يحاكي بقعة عميقة بداخلنا[14]، إن مساحة اكتشاف الذات تلك هي التي تقود جورج ر.ر. مارتن للكتابة الفانتازية والخيالية؛ عندما ينصح شباب الكُتّاب يقول إن الموهبة والمهارة في اللغة أهم صفتين تقودان الكاتب إلى الكتابة الإبداعية، ولتصقل مهاراتك عليك أن تستمع كثيرا إلى حوارات الشخصيات الدرامية في المسلسلات والأفلام والروايات لتتعلم كيف تصنع منهاجية صوتية منفردة لكل شخصية تكتبها، "الشخصيات هي قلب الحكاية"[15].

  

دعونا نُعِد قراءة "أغنية الجليد والنار" من جديد، لنستمع إلى فصول الرواية أو بالأحرى إلى أصوات الشخصيات التي تعزف ألحانها منفردة بعيدا عن الجوقة، ولنرى العالم الذي يرسمه مارتن بهدوء ودون تعجل، يمكننا أن ننسى الآن مسلسل "لعبة العروش" رغم تماهينا مع أبطاله ومساراتهم، لكن الرواية تخبرنا ما هو أبعد وأعمق عن كل شخصية، نستمع إلى تنهيداتها وآلامها ونرى الأحلام والأشباح التي تطاردها عن كثب، نسير معهم في مملكة خيالية نتخيل نحن أركانها، ثم فجأة يبدأ اللحن في العزف، ونحن والشخصيات نصطاد الفراشات في قلب المروج، هناك، في خيال جورج ر.ر. مارتن.

————————————————————

هوامش:

* حرب بين الأحياء والأموات في سلسلة روايات "أغنية الجليد والنار"

** هاتان القارّتان هما محور أحداث العالم الخيالي في الرواية

المصدر : الجزيرة