شعار قسم ميدان

"رائد التفكيكية".. ماذا تعرف عن جاك دريدا الإنسان؟

ميدان | جاك دريدا
مقدمة المترجم

 هذه المادة مدخل بسيط لمعنى ما بعد الحداثة والتفكيك كمنهج ابتكره جاك دريدا، وفيها إطلالة على حياة دريدا الإنسان. المادة هي جزءٌ من أجزاء عن التفكيك، ذلك الأول منها، ونأمل ترجمة البقيّة على هذه النافذة كمدخل تبسيطيّ لقراء ميدان بالفكر ما بعد الحداثيّ، لا سيّما في شكله "الدريديّ" تحديدًا.

نص الترجمة

يُعدّ جاك دريدا، الفيلسوف الفرنسيّ، الأبَ المؤسِّس للتفكيكيّة، والتفكيكيّة هي نسقٌ من التحليل مثير للجدال يتحدّى أسس الفكر الغربيّ التقليديّ. يطوّر دريدا التفكيكيّة باعتبارها إستراتيجيّة من المساءلة النقديّة الموجّهة حيال هتك الافتراضات الميتافيزيقيّة اللامساءَلة والتناقضات الداخليّة في اللغة الفلسفيّة والأدبيّة. وكثيرًا ما تنطوي التفكيكيّةُ على طريقٍ للقراءة التي تعتني، هي نفسها، بنزع المرْكزة (decentering) -وبكشف الطبيعة الإشكاليّة لكلّ المراكز. حيث يكشف دريدا، في عمله الأساسيّ ألا وهو كتاب "في علم الكتابة"، بالتفصيل، خلافَه الفلسفيّ الأساسيّ بشأن التفكيك. فالتفكيك، على هذا النحو، هو ممارسة نقديّة تساعد على تأويل الفكر الغربيّ عن طريق قلب أو إزاحة "التقابل الثنائيّ" التراتبيّ الذي يقدّم أساس هذا الفكر.

وتمثّل هذه السلسلة دراسة لدريدا ولمفهومه عن التفكيك. في البداية، جلبتُ ما بعد الحداثة إلى الواجهة لموضعة دريدا في السيناريو الفلسفيّ المناسب. وفي الجزء الثاني، تعاملت مع دريدا، ومع أعظم إنجازته كتاب "في علم الكتابة" الذي يعطينا بالتفصيل منهج التفكيك، وبالتالي تطبيقه على أسياد طاعنين في العمر، أعني سوسير وليفي شتراوس ورسو وفيكو وكونديلاك. وحللتُ، في هذا القسم، منهج التفكيك لدى دريدا. وسأناقشُ أيضًا الأسباب بشأن لماذا قد تبدي الفلسفةُ، باعتباره تخصّصًا، مثل هذه المقاومة لإصرار دريدا على نصّانيّتها غير القابلة للاختزال: إذ إنّ عمله قد يطرح ضربًا من ضروب التهديد على الميثاقات والافتراضات السبقيّة الفلسفيّة. وسأحاول، أخيرًا، أن أقيّم فلسفة التفكيك من منظور بعض الاعتراضات والانتقادات التي وُجّهت لها.

ما بعد الحداثة
ما بعد الحداثة مرتبطةٌ بموجة المفكرين من أمثال جاك دريدا وجوليا كريستيفا وبولندا بارثس وجيل دولوز وفليكس غوتاري وميشيل فوكو. (مواقع التواصل)
ما بعد الحداثة مرتبطةٌ بموجة المفكرين من أمثال جاك دريدا وجوليا كريستيفا وبولندا بارثس وجيل دولوز وفليكس غوتاري وميشيل فوكو. (مواقع التواصل)


ما بعد الحداثة هي مصطلحٌ معقد، أو مجموعة من الأفكار، والتي ظهرت فحسب كحقلٍ للدراسة الأكاديميّة منذ منتصف الثمانينيّات. وما بعد الحداثة، في استعمالها الواسع، هي مصطلح منتشرٌ في تشكيلة من السياقات، مثل الهندسة المعماريّة والرسم والموسيقى والشّعر والرواية، إلخ، لأشياء يبدو أنّها ذات صلة ببعض -إذا كان الحالُ كذلك- بواسطة تعدديّة هادئة من الأساليب وبرغبةٍ غامضة تفعل فعلها مع ادعاءات الثقافة الحداثويّة العليا. ومن ناحية فلسفيّة، تتقاسمُ ما بعد الحداثة شيئًا ما من نقد القيم الأنواريّة ومزاعم الحقيقة التي قدّمها مفكّرون ذوو نزعةٍ جماعويّة ليبراليّة. كما تتقاطعُ أيضًا مع البراغماتيين الجُدد مثل ريتشارد رورتي الذي رحّب بنهاية الدور الافتراضيّ للفلسفة بوصفها خطابًا امتيازيًّا يقول الحقيقة ويبلّغها.

وهناك نقطة أخرى من الاتصال مع الأدب والفنّ ما بعد الحداثيّ في الانهماك الحالي، فيما بين الفلاسفة، بثيمات الانعكاسيّة الذاتيّة أو بالألغاز الحاصلة بسبب سماح اللغة لأن تصبح موضوعًا لفحصها الخاصّ بها في نوعٍ من الخطاب البلاغيّ المحيّر. إلى هذا الحدّ، يمكن النّظر إلى ما بعد الحداثة باعتبارها تطورًا خالصًا ممّا يُسمّى بـ"المنعرج اللسانيّ" الذي ميّز التفكير الفلسفيّ في الآونة الأخيرة.

السّبيل الأيسر لبدء التفكير في ما بعد الحداثة يتمثّل في التفكير في الحداثة نفسها، وهي الحركة التي يبدو أن ما بعد الحداثة نمت عليها وانبثقت منها

تتحدّى ما بعد الحداثة على وجه الخصوص الثقافة الأوروبيّة التي أخذت تشكّلها منذ عصر النّهضة، والتي وُضِعت من خلال القرن السابع عشر وعصر الأنوار، والتي لا تزال خطابًا مشتركًا بالنسبة إلى معظم مواطني المجتمعات الديمقراطيّة الأوروبيّة. إذ تتحدّى ما بعد الحداثة، في الفلسفة وفي الفنّ وفي النظريّة السياسيّة وفي العلم والسوسيولوجيا، ثقافةَ الواقعيّة برمّتها، والتمثيلوي (representationism)، والإنسانويّة، والإمبيرقويّة. وبالتالي، يمضي النقد ما بعد الحداثيّ إلى أساس التعريف الشخصيّ والاجتماعيّ والمؤسّساتيّ نفسه.

دخل مصطلح "ما بعد الحداثة" لأوّل مرّة إلى المعجم الفلسفيّ في عام ١٩٧٩، وذلك مع نشر جان بورديارد لكتابه الشّرط ما بعد الحداثيّ. وما بعد الحداثة مرتبطةٌ بموجة المفكرين من أمثال جاك دريدا وجوليا كريستيفا وبولندا بارثس وجيل دولوز وفليكس غوتاري وميشيل فوكو. وتنزع ما بعد الحداثة إلى رؤية كلّ المعرفة -التاريخ والأنثربولوجيا والأدب وعلم النّفس، وإلخ، باعتبارها نصانيّة. يعني هذا أنّ المعرفةَ لا تتكوّن من المفاهيم فحسب، وإنّما أيضًا من الكلمات. والحال أنّ الكلمات، مثل كلمة "ميناء" -التي قد تعني أيضًا إمّا "النبيذ" أو "الميناء"-، يمكن أن تدلّ على معان مختلفة. لقد وعدت ما بعد الحداثة بتزويد الفلسفة والأنثربولوجيا والنّقد الأدبيّ وحقول أخرى بأساسٍ علميّ.

ولعلّ السّبيل الأيسر لبدء التفكير في ما بعد الحداثة يتمثّل في التفكير في الحداثة نفسها، وهي الحركة التي يبدو أن ما بعد الحداثة نمت عليها وانبثقت منها. إنّ الحداثةَ هي مصطلحٌ جامعٌ لانفجار أساليب ونزعات جديدة في الفنّ والفلسفة في النّصف الأول من القرن العشرين، وهي الحقبة المميّزة بوصفها عصر العقل. حاولت الحداثة، والتي بدأت فكريًّا مع عصر التنوير، أن تصفَ العالمَ بطريقة عقلانيّة وإمبيريقيّة وموضوعيّة. فقد افترضت الحداثةُ أنّ هناك حقيقةً ينبغي الكشفُ عنها، وهي وسيلة للإجابة عن الأسئلة التي يطرحها الشّرط البشريّ، بوسائل عقلانيّة. لا تبدي ما بعد الحداثة مثل هذه الثقة، متجاوزةً اليقينيّات التحتانيّة التي وعدَ بها العقل. حيث يُنظر إلى العقل نفسه باعتباره شكلًا تاريخيًّا محدّدًا، وباعتبارها "أبرشيًّا" بطريقته. فليس لدى الذات ما بعد الحداثيّة سبيلًا عقلانيًّا لتقييم الأفضليّة فيما يتعلّق بأحكام الحقيقة والأخلاقيّة والتجربة الاستطيقيّة أو الموضوعيّة.

جاك دريدا.. الإنسان (١٩٣٠-٢٠٠٤)
كان دريدا كاتبًا غزير الإنتاج، فقد ألّف أكثر من 40 كتابًا. وتشمل كتاباته كتاب
كان دريدا كاتبًا غزير الإنتاج، فقد ألّف أكثر من 40 كتابًا. وتشمل كتاباته كتاب "في علم الكتابة"، و"الكتابة والاختلاف"، و"الكلام والظواهر"، و"هوامش الفلسفة"
 

وُلِدَ جاك دريدا في ١٥ يوليو ١٩٣٠ من عائلة يهودّية سفارديّة يعيشون في البيار، بالجزائر الفرنسية. وفي سنّ العاشرة، تم طرده من المدرسة بعد أن أخبره أحد المعلمين بأنّ "الثقافة الفرنسية لم تُصنع لليهود القلّة". ومن ثمّ ذهبَ إلى مدرسة يهوديّة. وفي سن التاسعة عشر، انتقل دريدا إلى باريس للدراسة في المدرسة العليا على يد البحّاثة الهيغيليّ الكبير جان هيبوليت. والتقى دريدا بسارتر، ولكن على المدى الطويل، كانت مجابهاته المبكرة ليست مع سارتر بل مع نيتشه وهيدغر اللذين كان لهما أكبر الأثر عليه.

وفي أواخر الخمسينيّات، عملَ على أطروحة الدكتوراه عن هوسرل، ولكن هذا المشروع لم يكتمل أبدًا، وشرعَ في هذه الأثناء في استكشاف الطبيعة الغامضة لكلّ الكتابة، حتى الفلسفيّة منها. حصل دريدا على شهادة في الفلسفة من مدرسة نورمول سوبيرييور، وهي جامعة نخبويّة في باريس. ثمّ درسَ في فرنسا بجامعة السوربون ومعهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعيّة. كما درس في الولايات المتحدة: في جامعة ييل وجونز هوبكنز وجامعة كاليفورنيا في إيرفين.

ومثله مثل معاصريه القريبين في الحركة البنيويّة وما بعد البنيويّة التي كان ينتمي إليها -بارت، لاكان، ألتوسير، فوكو-، كان دريدًا تجسيدًا للفيلسوف-المقاوم، ولوقي بالتقدير لنقده الناسف للقيم السّلطويّة الكامنة في المقاربة الأرثوذكسيّة للأدب والفلسفة. أمّا بالنسبة إلى منتقديه، فقد كان عمله تافهًا، وغامضًا، ووهميًّا، وحتى تخريبًا بشكل غريب.

لفت دريدا أولًا انتباهَ جمهور أوسع في نهاية ١٩٦٥ عندما نشرَ مراجعتين طويلتين لكتبٍ عن تاريخ وطبيعة الكتابة، في مجلة نقد، وشكّلت هاتان المراجعتان الأوراق المراجعة عمل دريدا الأساسيّ، ألا وهو كتابه "في علم الكتابة". وفي عام ١٩٦٧، ألهمه هذا الأمر أن يضعَ مقاربته في قراءة النصوص في ثلاثة كتب، هي "في علم الكتابة" و"الكتابة والاختلاف" و"الكلام والظواهر"، والتي تضمنت دراسات مطولة لفلاسفة من أمثال جان جاك روسو وفرديناند دي سوسيور وإدموند هوسرل وإيمانويل ليفيناس ومارتن هيدغر، وفريديك هيغل وميشيل فوكو ورينيه ديكارت، وكذلك الأنثربولوجيّ كلود ليفي شتراوس، وسيغموند فرويد، والعديد من الكتّاب الأدبيين والمسرحيين.

سافر دريدا على نطاق واسع وتنصّب مجموعة من المناصب الزائرة والدائمة. فقد كان دريدا مدير الدراسات في كلية الدراسات العليا في العلوم الاجتماعيّة في باريس. وشارك رفقةَ فرانسوا كاتليت وآخرين في عام ١٩٨٣ في تأسيس الكليّة الدوليّة للفلسفة، وهي مؤسسة تهدف إلى توفير موقع للبحوث الفلسفيّة التي لا يمكن تنفيذها في أماكن أخرى في الأكاديميّة. وانتُخِبَ رئيسًا أول لها. ومات دريدا في عام ٢٠٠٤.

كان دريدا كاتبًا غزير الإنتاج، فقد ألّف أكثر من 40 كتابًا. وتشمل كتاباته كتاب "في علم الكتابة"، و"الكتابة والاختلاف"، و"الكلام والظواهر"، و"هوامش الفلسفة". وهناك عددٌ من النزعات المهمّة التي تكمن وراء مقاربة دريدا للفلسفة، وبشكل أكثر تحديدًا للتقاليد الغربية للفكر. فمن خلال مقاربة سمّاها "التفكيكيّة"، افتتحَ دريدا بحثًا أساسيًا في طبيعة التقليد الميتافيزيقيّ الغربيّ.
______________________________________________________

النص مترجم عن: نيو دريدا