شعار قسم ميدان

شاعرية أحلام اليقظة عند غاستون باشلار

ميدان - فيلسوف

"ما تزال هناك أرواح قد يجمعها في الحبّ قصيدتان، قد يجمعها في الحبّ اندماج حلميّ يقظة سويا"
(غاستون باشلار)


قال فرويد ذات مرة "إنّ الكتابة الإبداعية كحلم اليقظة؛ ما هي إلا بديل عن؛ واستمرارية لما كان يوما لعب الطفولة". إنما كيف للخيال الخصب أن يغزل خيوط سرد الحكايا بخيوط الأحلام بحيث يؤطر خبرتنا الإبداعية؟

 

غاستون باشلار (1884-1962) هو أحد أروع -وما أريده بهذه اللفظة حرفيا هو معنى: المدهش كليا- فلاسفة القرن العشرين؛ لكنه مع ذلك، أقلّهم تقديرا. تقع كتاباته عن الشاعرية وفلسفة العلوم تقع ما بين الساحر والمتبحّر في المعرفة. لكنها لم تعبر عن ذلك، مثلما عبرت عنه أطروحته الصادرة عام 1960 بعنوان "شاعرية أحلام اليقظة.. عن الطفولة واللغة والأكوان" والتي نقلت إلى الإنجليزية بعد وفاة باشلار بسبع سنوات؛ وهي استقصاء عن "الإنتاجية النفسية للمخيلة" وعلاقتها بالذاكرة والسعادة، وقدرتنا على الحب، بالإضافة إلى قدرة الشعر الفريدة على تحفيز إحساسنا بالاندهاش.
 

undefined 
 

فيقول باشلار "في الشعر، ترافق الدهشة متعة الكلام… ولا يمكننا تشبيه الصورة الشعرية، كما هو الحال في الاستعارة الشائعة، بصمّام نفتحه لتنسلّ منه غرائزنا المكبوتة. إن الصورة الشعرية تلقي الضوء على الوعي بطريقة يغدو معها البحث عن أساس تلك الصورة في اللاوعي، أمرًا عبثيا… إن الشِّعر هو أحد مصائر الكلام. وفي محاولة صقل الوعي باللغة حتى مرحلة القصيدة؛ فإننا سنحصل على الانطباع بأننا قد صرنا أشخاصا لا ينحصر خطابهم في التعبير عن الأفكار والأحاسيس، وإنما في محاولة إيجاد مستقبل أيضا. لذا وإن جاز التعبير، فالصورة الشعرية، في جِدَّتها، تتيح مستقبلا للغة".

 

لكن أعظم قدرات الصورة الشعرية، كما يجادل باشلار، تكمن في قدرتها على أن تضمن لنا عبورا أتمّ إلى الروح والوعي، من خلال حلم اليقظة (Reverie) وهو مفهوم قريب إلى المفهوم النفسي "حلم اليقظة الإيجابي البناء"، دون أن يكون المقابل الاصطلاحي التام له، يمكن القول إنه رحلة مميزة للخيال.

 

ومع ذلك، يقيم باشلار فصلا ضروريا ما بين حلم اليقظة والحلم، فيقول: "على عكس الحلم فإن حلم اليقظة لا يمكن أن يحكى؛ لكي يُنقل، يجب أن يُكتب، أن يُكتب بعاطفة وذوق رفيع، وبالتالي أن يتم الكشف عنه بطريقة أقوى بكثير لأنّه نُقل بالكتابة".

 

في استكشاف كيفية استدعاء حلم اليقظة إلى مجال "الحب المكتوب" يضيف باشلار إلى أحد أروع تفسيرات الحب المكتوبة على مدى التاريخ، قائلا: "لقد بدأ الحب المكتوب… يفقد رواجه، ولكن صداه سيظل خالدا إلى الأبد. ما تزال هناك أرواح قد يجمعها في الحبّ قصيدتان، قد يجمعها في الحبّ اندماج حلميّ يقظة سويا. لكي تقول في الحب الكلام، عليك بالكتابة… لا يُعجز الحبَّ التعبير عن نفسه، لكنه يعبر عن نفسه بصورة أفضل كلّما حُلِم فيه بطريقة شاعرية. حلم يقظة روحين يتيمتين هو ما يبث العذوبة في العشق… إن حقيقة الحبّ تنقطع عندما ينفصل عن كل لا واقعيته".

 undefined

يعود باشلار إلى سؤال الأحلام -وهي مادة، برغم كل التطورات العلمية لفهمها في العقود التي واكبت عصر باشلار، تظلّ لغزا- ويقول: "قد يتساءل المرء إذا ما كان هناك بالفعل وعي بالأحلام. أن يكون الحلم قويا بما يكفي ليبدو أن ذاتا أخرى قد أتت لكي تحلم معنا. "لقد زارني حلم"؛ هذه الصياغة تشير إلى لا-فاعلية الأحلام الليلية. لكي نقنع أنفسنا بأنها أحلامنا فعلا، علينا بالتموضع في هذه الأحلام. بعد ذلك، سيكون في وسعنا تشييد أوصاف عنها، قصص من حين لآخر، مغامرات من عالم لآخر… يستمتع قاصّ هذه الأحلام في بعض الأحيان بأحلامه بوصفها عملا أصيلا؛ يختبر فيها أصالة بالنيابة [عن مخيلته -مـ] وبالتالي يعتريه اندهاش هائل عندما يخبره محلل نفسي بأن حالمًا آخر قد اختبر "الأصالة" ذاتها". 

 

"اعتقاد حالم الحلم بأنه قد عاش الحلم الذي يحكيه لا ينبغي أن يخدعنا. وهو اعتقاد شائع يعززه في كل مرة يقصُّ فيها حلمه بالكلام. وهو ما يقطع بالتأكيد أي صلة بين الذات الحالمة والذات المتكلّمة". "وعوض أن يبحث الناس عن الحلم في حلم اليقظة، ينبغي أن يبحثوا عن حلم اليقظة في الحلم".


رسمة لـ
رسمة لـ"اليزابيث زويرجر" بعنوان عالم أوز (مواقع التواصل)


ويذهب باشلار إلى ما هو أبعد بالقول، بتواطؤ الحلم وحلم اليقظة على تشكيل منفذ للسعادة، ويكتب:
"يوفر حلم اليقظة سكينة للوجود… ويصوّر السعادة؛ حيث يلوذ الحالِم وحلم اليقظة بجوهر السعادة تماما". "تمنحنا أحلام اليقظة الشاعرية أفضل العوالم. ليصير حلم اليقظة الشاعري كونيا. مقدمة عالم من الجمال بل عوالم من الجمال. إنه ينفي أنا صاحبه؛ بحيث ينتمي صاحبها إلى أنا في وسعها أن تكون أناناتٍ أخرى. إنها تلك "الأنا المُنتفية" التي تعمق الأنا عند الحالم والتي نتشاركها من خلال القصائد".  

 

"تساعدنا أحلام اليقظة على التوطن في العالم، على التوطُّن في سعادة هذا العالم".

undefined 

في أفضل إمكاناته، يلامس حلم اليقظة عنصر الكونيّ، وعندما يفعل ذلك فإنه يحرر عزلتنا؛ تلك القدرة الأساسية على أن نكون بمفردنا [في خلوة فاعلة مع الذات، كما تضعه حنة أرندت – مـ]. يكتب باشلار: "حلم اليقظة الكونيّ… هو تمظهر العزلة التي تضرب جذورها في روح الحالِم". "أحلام اليقظة الكونية تفصلنا عن أحلام اليقظة ذات الهدف. إنها تموضعنا ضمن عالم لا ضمن مجتمع. تمتلك أحلام اليقظة الكونية نوعا من الاستقرار والسكينة. إنها تساعدنا على الإفلات من الزمن. هي [حالة]؛ تذهب بنا إلى أعماق جوهرها: إنها حالة ذهنية… حيث يصبح الشعر وثائق تمظهرات الروح".

 

"لا تعيش الروح على حافة الزمن؛ إنها تجد راحتها في الكون المتخيل في حلم اليقظة… الصور الكونية هي ممتلكات الروح المنفردة التي هي أساس كل عزلة". وهناك تكمن أعظم هبة لحلم اليقظة الشاعري: "يمنحنا حلم اليقظة عالما للروح؛ بل صورة شعرية تشهد على روح تستكشف عالمها، العالم الذي قد تود العيش فيه والعالم الذي يستحق العيش فيه… إن الشعر يصنع الحالِم وعالمه في الوقت نفسه".

 

"الشعراء يأخذوننا إلى أكوان تتجدد باستمرار".

________________________________________________

المقال مترجم عن: الرابط التالي

المصدر : الجزيرة