هل الرسم فعل أخلاقي عند أفلاطون؟
ففي محاورة "فيليبوس"[3] التي دونها أفلاطون عن سقراط. يستخدم أفلاطون لفظة "المتناغم" كمرادف "للمعتدل" في مواضع عدة من الكتاب. والمعتدل بدوره يُستخدم للوقوف على تعريف للجميل. وهكذا يطوّر أفلاطون مِن فلسفة سقراط حول الجمال حتى يأتي في كتابه "الجمهورية" ليصف "العدل" بأنه جميل لأنه يعني "الاعتدال" وضبط النفس على مستوى الفرد ومستوى الجماعة وعلى مستوى الكون ككلّ.
لقد بدى أفلاطون هنا مُقتنعًا بأن الكون يعمل باعتدال، والاعتدال هنا مرادف للجمال، بفضل وحدات القياس المتمثلة في الأرقام. (فالنظام/الاعتدال) الذي يسير عليه الكون واضح في تقلّب الفصول وتعاقب الليل والنهار. لذلك يُمكن وصف الكون بأنه جميل لأنه يسير باعتدال.[6]
حتى الآن وصلنا إلى أن أفلاطون يُعرف الجمال بأنّه "الاعتدال"؛ وأن أكبر مظاهر (الاعتدال/الجمال) هي الكون. الكون هو الجمال في حد ذاته. مِن ثمَّ، يظهر هنا الجمال بوصفه دالًا على الحقيقة. فالجمال بوصفه اعتدالا يمنح الإنسان القدرة على الوقوف على الحقيقة لأنه يمنح القدرة على تشريع الأوامر الأخلاقيّة بعيدًا عن النزعات الشخصيّة.
ومع ذلك، لا ينأى أفلاطون بفكره كليا عن جمال الجسد. فهو يرى أن جمال الإنسان ليس قائما على الروح وحدها أو الجسد وحده؛ بل على الانسجام بين الروح والجسد بشكل نسبي. حتى أنّه ذكر في مُحاورة طِمَاوُس أن الإنسان الجميل هو الذي يعتني بروحه وجسده كليهما.
"كل ما هو صالح فهو جميل، والجميل هنا ليس بغير حساب. فلو أردنا أن نُعْزِي تلك الصفة لكائن حي، فلابد من أن يكون هنا مقياس للجمال. إننا نأخذ أبسط أشكال "الانسجام" بعين الاعتبار، لكننا ننسى ونهمل أعظمها. لأنه لا انسجام ولا نزاع، بين الصحة المرض أو الفضيلة والرذيلة، يفوق في قدرته الانسجام أو النزاع بين الروح والجسد. أننا جميعا لا نفهم ولا نرى: أن الروح القوية العظيمة على كافة الأصعدة إذا كانت تسكن جسد أقل منزلة، أو العكس بالعكس [7]، لا يكون الإنسان حينها جميلا، لأنه يفتقر لقدر كبير من الانسجام. أما الذي يتمتع بقدرٍ كبير من الانسجام، سيراه كل من له عينين، حلو وجميل."
الآن، حسب أفلاطون، الفرق بين النفعي و المعتدل هو أن "المعتدل" هو المكتمل بذاته كحد وسط بين نقيضين؛ فيما أن "النفعي" ليس له قيمة في ذاته ويعرف بالمصلحة الشخصية. لذلك، المنفعة ليست جميلة في ذاتها حتى لو تسببت في الخير أحيانا. فالجميل ليس اللذة الحسية بل الأخلاق المعنوية.
وعليه، فإن الجمال الأفلاطوني هو الانسجام والاعتدال بين الإنسان ونفسه كروح وجسد وبين الإنسان والعالم. ويعتبر أفلاطون أن أبلغ آيات الجمال هي الكون الذي يسير وفق نظام تحكمه الأرقام وهو شديد الدقة والانسجام وهو أيضًا يدل على وجود حقيقة ميتافزيقية مطلقة. لذلك فإن أقصى متعة يمكن أن يصل لها الإنسان تتأتى من التأمل في الكون لأنه جميل جمالا نقيا.
إن أفلاطون، إذ يربط الجمال بالخير والحقيقة المُطلقة، كما أشرنا، فإنه يستهجن الفن وبشكل خاص الرسم. السبب في ذلك أن الفنون تُحاكي المظهر الخارجي للأشياء. فهي لا تهتم بالجوهر الحقيقي الذي تنطوي عليه الأشياء؛ بل بالمظهر والشكل الخارجي وهي لذلك قائمة على الغش والخداع.
وهو إذ يسعى لعالم المُثل العليا والكمال، رفض بشكل تام أي صورة من صور الغش والتمثيل. وتلك هي النقطة التي يدور حولها فن الرسم بالذات، أن الرسم يخدع العقل والعين لأن الرائي للعمل المرسوم لا يستطيع أبدًا أن يعرف حقيقة أو جوهر المادة المرسومة. فقد يجعل الرسام القبيح جميلا وقد يجعل الجميل قبيحا حسب هواه.[8]
إن الفن، الرسم بالذات، حسب أفلاطون، يعكس جهلا مُخيفا بالحقيقة. كما أن له قدرة مُرعبة على تزييف الأمور بالذات رسم ذوات الأرواح. فالفن إذا كان يدعي أنه تعبير عن الحياة، فلا يجب أن يقدم صور ميتة للكائنات الحيّة. فالفن يجب أن يحث على الفضيلة لا أن يفسد العقول بخلق (صور/خيالات) غير موجودة. إن (الرسم/المحاكاة) لا تساوي أبدًا الشيء ذاته. هي مجرد مسخ. والرسم لذلك إذ ما اتخذ طابعا لا أخلاقيا يُصبح غير جميل.[9]
[1] وصلت لنا هذه المحاورة عن سقراط عبر تلميذه أفلاطون في كتابه "هيبياس الأكبر" الذي نقل فيه ليس فقط أهم محاورات سقراط بل أيضًا ملامح منهجه الفلسفي.
[2] راجع محاورة "فيليبوس" التي دونها أفلاطون عن سقراط.
[3] هي أيضًا أحد محاورات سقراط مع فيليبوس، أحد السفسطائيّن، التي نقلها أفلاطون وتدور حول علم الاستطيقا.
[4] محاورة أخرى لسقراط مع سكان أثينا نقلها عنه أفلاطون.
[5] المقصود بالعدد هنا هو علم الحساب، في إشارة من أفلاطون، مُتأثرا بفيثاغورس، بأن الكون مكتوب بلغة الرياضيّات.
[6] وقف أفلاطون على فكرة "أن الكون جميل لأنه معتدل، ومعتدل لأن يعمل وفقا لوحدات القياس المتمثلة في الأرقام" في محاورة طِمَاوُس ويمكن الرجوع لها مِن قائمة المراجع أدناه.
[7] يقصد أن كان جسدا عظيما ينطوي على روح فارغة.
[8] راجع رأي أفلاطون حول كبح جماح الشهوة والعواطف والرغبات في كتاب الجمهورية.
[9] راجع كتاب الجمهورية لأفلاطون.