شعار قسم ميدان

الإنسان الخارق "السوبرمان".. أيقونة التحول في الأخلاق والسلوك

ميدان - سوبرمان
واحدة من أبرز خصائص الحداثة -كما يشير لها الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور في كتابه المتخيلات الاجتماعية الحديثة- هي ابتكارها لمفهوم "الجنتلمان" أو الإنسان اللبق، والذي يعني إعادة تعريف الإنسان بوصفه "كائن اجتماعي غير قادر على التصرف والفعل الأخلاقي من تلقاء ذاته، بل من خلال مجتمع منظم تنظيما عقلانيا جيدا، يقوم على أساس تبادل المنافع بين أفراده من أجل تحقيق الصالح العام"[1].

 

يشير تايلر إلى أن مفهوم "اللباقة"  كان قد ظهر في أروقة البلاط الملكي في منتصف القرن الخامس عشر؛ حيث كان يستهدف بالدرجة الأولى "ترويض" سلوك طبقة النبلاء وعِلْية القوم  من الفرسان المحاربين المعتدّين بفروسيتهم واستقلاليتهم بوصفها علامة على شرف ونبالة الإنسان، إلا أنه مع ظهور رواية "رجل البلاط" التي ألفها  الكاتب والدبلوماسي الإيطالي "بالداساري كاستيليوني" لم تعد مواصفات رجل البلاط المثالي هي تلك المتمثلة في فروسيته وقدراته القتالية، بل باتت تتجسد في لباقته وقدرته على التحاور وتقديم المشورة والرأي السديد للحاكم[1].
 

يرتبط مفهوم اللباقة بمفهوم آخر وهو مفهوم الثقافة، والتي باتت تشير إلى تهذيب الأخلاق والسلوك، وبذلك يكون الإنسان المثقف هو الإنسان الحضاري المتمدن  (مواقع التواصل)
يرتبط مفهوم اللباقة بمفهوم آخر وهو مفهوم الثقافة، والتي باتت تشير إلى تهذيب الأخلاق والسلوك، وبذلك يكون الإنسان المثقف هو الإنسان الحضاري المتمدن  (مواقع التواصل)


سيرتبط مفهوم اللباقة بمفهوم آخر ذو أثر حاسم في تطور الحضارة الغربية، ألا وهو مفهوم الثقافة، والتي باتت تشير إلى تهذيب الأخلاق والسلوك، وبذلك يكون الإنسان المثقف هو الإنسان الحضاري المتمدن النقيض للبربري المتوحش[2]، وستنتقل هذه المفاهيم وما ارتبط بها من خبرات من داخل أروقة البلاط الملكي إلى الحيز العام في المدينة؛ حيث سيجري العمل من قِبل السلطة -ثم الدولة لاحقا- على تنشئة المجتمع وفقا لقيم "اللباقة واللطافة ولين العريكة والرحمة والإنسانية والفضائل المدنية"[1].

 

سيترتب على هذا التحول الكبير في المفاهيم والسلوك نتيجتين هامتين: الأولى تتمثل في المماهاة بين المصلحي والمبدئي، ففي المجتمع المدني الحديث يغدو معيار أخلاقية الفعل من عدمه هو مدى تحقيقه للنفع العام، أما النتيجة الثانية فتتمثل في ظهور مؤسسات الضبط والمراقبة وسياسات الجسد التي تهدف لإنتاج ذوات متمدنة تكون قادرة على التصرف في المجال العمومي وفقا للقيم المدنية والتبادل الاقتصادي الذي يحقق المنفعة العامة[1].

 

وعلى الرغم من رسوخ هذا النظام الأخلاقي الحديث، إلا أنه سيجد بعض ردود الأفعال الساخطة عليه؛ حيث نشأ إحساس بالخوف من "أن يصح الرجال الذين يتبعون مبدأ المتجمع المهذب "مخنثين" فاقدين لفضائلهم الرجولية"[1]، وقد تحول هذا الخوف من أن يؤدي هذا النظام إلى نهاية عصر البطولة والعظمة، إلى شجب عنيف للنظام الأخلاقي الحديث وكل ما يدعمه، كما ظهر هذا بصورة جلية عند نيتشه، الذي قام بصياغة الإنسان الخارق أو "السوبرمان" والذي يمثل النقيض الكامل للتصور الحديث عن الإنسان والأخلاق.

 

النقد النيتشوي للنظام الأخلاقي الحديث

كان الإسهام الفلسفي الأبرز الذي قدمه الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في كتابه "جينالوجيا الأخلاق" قد تمثل في نقده للنظام الأخلاقي الحديث والذي كشف به الطبيعة الزائفة لما يُعد فضائلا مدنية؛ حيث يقرر نيتشه منذ البداية أن القيم الأخلاقية الأوروبية على مختلف مشاربها وصراعاتها المحتدمة منذ ما يزيد عن ألفي سنة "المسيحية، الليبرالية، الاشتراكية" ترجع في الواقع إلى مصدر واحد تنحدر منه كل قيمة من سابقتها وتتممها.

 

يرفض نيتشه بسخرية واستهزاء التعليلات الحديثة التي تفسر القيم والأخلاق بفرضية الإنسان الفرد المتزن العاقل المقتصد، ويرى أن الغريزة هي وحدها التي تحرك الإنسان
يرفض نيتشه بسخرية واستهزاء التعليلات الحديثة التي تفسر القيم والأخلاق بفرضية الإنسان الفرد المتزن العاقل المقتصد، ويرى أن الغريزة هي وحدها التي تحرك الإنسان

 

ما هو هذا الينبوع؟ إن الثقافة الأوروبية في رأي نيتشه هي "ثقافة المستضعفين الذين أبدعوا قيم العدل والمساواة والخير والضمير المسؤول". يتساءل نيتشه "هل يريد أحد أن يطل على كهف الكهوف، حيث يصنع الإنسان المثل العليا؟" ويجيب "إن السر هو ما يشعر به الإنسان المستضعف المغلوب. كل ما يفكر به إنما هو قناع للانتقام من سيده المتسلط عليه. وهذا منذ أن بدأت الحضارة المسيحية بصورة خاصة"[3]، وهكذا يرى نيتشه أن الأخلاق ليست سوى قناع يتوارى خلفه حسد المستضعفين من سادتهم ليقيدوا سلطاتهم.

 

وفي حفره عن دلالات الكلمات المستعملة في القاموس الأخلاقي، يكتشف نيتشه أن الصالح كان يعني قبل ظهور المسيحية القوي النبيل، وأن الفاسد هو الضعيف المغلوب العامي. كانت إذن "الأخلاق الصالحة في البداية، هي أخلاق الأشراف، أسياد الحرب الذين يطيعون بدون تردد نزوات الجسم الطبيعية. ثم ثار ضدهم رجال الدين الضعفاء المرضى الحسودون والتجأوا إلى الحيلة لإضعاف أسيادهم، فلفقوا خرافة الضمير والمسؤولية"[3].

 

مضمون النقد النيتشوي -كما يشير د. عبد الله العروي في كتابه مفهوم الأيديولجيا- هو "رفض المفاهيم التي شُيّدت عليها الثقافة الغربية: مفاهيم العقل، والحقيقة، والإنسان، والثقافة"

يرفض نيتشه بسخرية واستهزاء التعليلات الحديثة التي تفسر القيم والأخلاق بفرضية الإنسان الفرد المتزن العاقل المقتصد، ويرى أن الفكر "يأتمر بأمر الجسم والغرائز، لأن أكبر فيلسوف بالفعل هو الطبيب الفيزيولوجي".

 

يرى نيتشه أن الغريزة هي وحدها التي تحرك الإنسان سواء أكان من خلال فعل الفرد القوي أو انفعال الفرد الضعيف، ليس هناك مجال للحديث عن الحرية والأخلاق والضمير والمسؤولية، إن الغريزة هي العلة الأولى والأخيرة لأي حدث، لكن لما كان من مصلحة الضعفاء أن يقولوا للسادة "أنتم أحرار فيما تصنعون، فقد كان ذلك بهدف تحميلهم مسؤولية فعلهم وبالتالي إضعاف إرادتهم بعقال الضمير المصطنع"[3]، هذا هو أصل الأخلاق وبداية الثقافة النفسانية!

 

إن الثقافة الحقيقية عند نيتشه هي تلك التي تمنح الإنسان القوة والسرور والنشوة، بينما تهدف الثقافة المصطنعة إلى عرقلة زخم الحياة وتكبيل الإنسان بجملة من الضوابط المصطنعة، "الثقافة الحقيقية هي التي تخضع للحياة وتخدم قانونها الأساسي، قانون الاستمرار، أما ما يسمى بالثقافة منذ ألفي سنة، فهي فاسدة خادعة لأنها لم تفتأ تتنكر لقانون الحياة".

 

إن مضمون النقد النيتشوي -كما يشير د. عبد الله العروي في كتابه مفهوم الأيديولجيا- هو "رفض المفاهيم التي شُيّدت عليها الثقافة الغربية: مفاهيم العقل، والحقيقة، والإنسان، والثقافة" ترفض النيتشوية بعنف قيم العقلانية الأنوارية التي أنتجت منظومات عملت على الحد من حرية الإنسان، هذا النقد هو ما سيفسح المجال لبروز إنسان نيتشه المثالي، "السوبرمان" الذي يتعالى على أي قواعد أخلاقية أو قانونية وأي محددات تضبط سلوك الإنسان وعنفوانه وتقيد حريته.

 

في جذور شخصية "السوبرمان"

لم يكن نيتشه هو أول من ابتدع شخصية الإنسان المتفوق أو الخارق؛ حيث نجد جذور هذه الشخصية عند الشاعر والمسرحي الألماني فريدريك شيلر
لم يكن نيتشه هو أول من ابتدع شخصية الإنسان المتفوق أو الخارق؛ حيث نجد جذور هذه الشخصية عند الشاعر والمسرحي الألماني فريدريك شيلر
 

في واقع الحال، لم يكن نيتشه هو أول من ابتدع شخصية الإنسان المتفوق أو الخارق؛ حيث نجد جذور هذه الشخصية عند الشاعر والمسرحي الألماني فريدريك شيلر، فمن بين شخصياته المسرحية يصور شيلر تلك الشخصية القادرة على الوصول إلى مراقٍ عالية؛ لأنها حرة ولا يحكمها أي نظام طبيعي أو ثقافي، إنها شخصية قادرة بسهولة أن ترتقي إلى المجد لما تتمتع به من استثنائية وفرادة.

 

ففي مسرحية "فيسكو"، يصور شيلر البطل -الذي تحمل المسرحية اسمه- طاغيةً لمدينة "جنوا"، وهو يرتكب الأخطاء والفظائع دون شك، ويظلم أهالي جنوا، لكن مع ذلك، ورغم أفعاله الشنيعة، فإنه "أكثر تفوقا من أولئك الحمقى والجهلة والغوغاء في المدينة، والذين هم بحاجة إلى سيد"[4]، ولذا من الطبيعي أن يكون فيسكو طليق اليد في حكمه وغير مقيد بأية ضوابط وحدود لأن هذا هو فقط ما يتسق مع طبيعته وشخصيته.

 

تنتهي المسرحية بقيام القائد الجمهوري "فيرينا" بإغراق فيسكو، وبرغم أن شيلر يبيّن أن هذا الفعل قد يكون صائبا، "إلا أننا مع ذلك نخسر شيئا مع فيسكو، إنه إنسان متفوق في صفاته على أولئك الذين يقتلونه عن وجه حق"[4]. هذه هي الشخصية التي صورها شيلر والتي استهلت فكرة الخاطئ العظيم والإنسان الفائض عن الوجود والتي سيكون لها شأن عظيم في القرن التاسع عشر.

 

سينتج عن هذه الشخصية سلالة أخرى لأولئك الأشخاص الذين قالوا "إذا كان المجتمع سيئا، وكان من المستحيل الحفاظ على أخلاقيات سليمة، وأُعِيقت كل جهود المرء، ولم يعد هناك ما يمكن فعله، فليسقط المجتمع، وليجر تدميره، ولتصبح كل الجرائم مباحة"[4]. وهو ما يشير له دوستويفسكي في مقالة له حملت عنوان "آنا كارنينا كحقيقة ذات أهمية خاصة"؛ حيث يقول "لكي ننتهي من الجرائم والأخطاء الإنسانية يجب أن ننتهي من تشوه المجتمع وتركيبته الخاطئة. وبما أن علاج النظام القائم للأشياء سيكون طويلاً ودون فائدة، فيجب هدم هذا المجتمع وكنس هذا النظام بمكنسة! وعندها تستطيع أن تبدأ ببناء كل شيء من جديد، وإلى حينها فليمتلئ العالم بالدم"[5]

 

الفيلسوف والروائي الروسي فيودور دوستويفسكي (1821-1881)
الفيلسوف والروائي الروسي فيودور دوستويفسكي (1821-1881)


كانت هذه بداية شخصية الخطّاء العظيم لدى "دوستويفسكي"، تلك الشخصية النيتشوية التي "تريد دك المجتمع إلى الأرض لأن منظومة قيمه لا تتيح "للإنسان المتفوق" الذي يفهم معنى الحرية والحياة، أن يعيش من خلالها، ولهذا فإنه يُفضِل أن يحطمها، بل يحطم حتى المبادئ التي يعيش هو ذاته من خلالها، إنه يختار التدمير الذاتي، والانتحار على متابعة الاندفاع كشيء مرمي في تيار لا يُقاوِم"[4]

 

يشير شيلر إلى أن البشرية كانت قد مرت عبر ثلاثة مراحل متعاقبة: الأولى هي التي يسميها بحالة الضرورة، أو البدائية، وهي المرحلة التي يكون فيها الإنسان مدفوعا بطبيعة المادة، إنها نوع من "الغابة الهوبزية التي يكون فيها البشر مسكونين بالعواطف والرغبات، ولا يملكون مبادئ، ويتصادمون ببساطة مع بعضهم البعض، بحيث يغدو من اللازم فصلهم عن بعضهم"[4]، يسمي شيلر هذه الحالة بمرحلة التوحش.

 

أما المرحلة الثانية فهي التي يدعوها شيلر بصورة غريبة بمرحلة البربرية، وهي المرحلة التي تظهر فيها المرحلة التي يحاول فيها البشر الخروج من حالة الاحتراب والاقتتال "حالة الطبيعة" إلى حالة التعاقد كما نظر لها فلاسفة العقد الاجتماعي من جون لوك إلى جان جاك روسو، وهي الحالة التي يتنازل فيها الإنسان عن جزء من حقوقه وحرياته الشخصية لصالح الدخول في النظام الاجتماعي، فتتشكل بذلك السلطة والأنظمة التي تقيد حرية الإنسان وتحدّ من طاقاته، وتتحول هذه النظم مع مرور الزمن إلى أصنام يقدسها الناس ويعبدونها دون مساءلة ولها، وهذا ما يدعوه شيلر بالصنمية!

 

لكن شيلر -كغيره من الكتاب الرومانسيين- يتصور وجود حالة ثالثة كانت الإنسانية تعيش فيها بوحدة وانسجام رائعين، لم يكن الإنسان فيها متشظياً بين رغباته ودوافعه الشخصية وبين متطلبات الواقع والضرورة، ولكن كيف يمكن المرور إلى هذه الحالة؟ هنا تظهر شخصية الخطّاء العظيم الذي يقوم بتدمير البنية الاجتماعية بهدف العبور إلى هذه الحالة المثالية.

 

السوبرمان: بين دوستويفسكي ونيتشه
يقول الفيلسوف جيرمي بنثام أن التخلص من تلك الشخصيات غير النافعة في المجتمع يتحقق النفع العام، فإنها -كما يقول-
يقول الفيلسوف جيرمي بنثام أن التخلص من تلك الشخصيات غير النافعة في المجتمع يتحقق النفع العام، فإنها -كما يقول- "مسألة حسابية صرفة"!

 

قبل عقدين من كتابة نيتشه مؤلفاته "غروب الأوثان" و"ما وراء الخير والشر" والذي ضمن فيهم فكرته عن "السوبرمان"، كان دوستويفسكي قد توصل إلى هذه الفكرة وقام بتجسيدها وتقديمها وعرض عواقبها الوخيمة من خلال شخوص روايتيْه اللتيْن ختم بهما إنتاجه الأدبي، وهما روايتي: "الجريمة والعقاب" و"الإخوة كارامازوف".

 

في الجريمة والعقاب يظهر بطل الرواية راسكولينكوف مشوّشا بفعل الحداثة وأخلاقياتها النفعية النسبية، حيث ينتج عن قراءته للفلسفة البراغماتية النفعية التي صاغها الفيلسوف الإنجليزي جيرمي بنثام أفكارا أقل ما يقال عنها أنها "شيطانية"، فيقرر أن له الحق في التخلص من تلك الشخصيات غير النافعة في المجتمع، إنها -كما يقول- "مسألة حسابية صرفة"، فبقتل الناس الكسالى غير النافعين يتحقق النفع العام للمجتمع[6].

 

ما الذي يعنيه أن يعتقد إنسان أن له الحق في قتل من يراهم غير نافعين؟ إن هذا يعني ببساطة تحول الإنسان إلى إله، ويبدو أن هذه هي النتيجة الطبيعة والمصير الحتمي لصيرورة الحداثة التي أعلنت عن "أفول المتعالي"، أو "نزع السحر عن العالم" بحسب لغة ماكس فيبر. وهو ما ذهب إليه نيتشه حين أعلن أن الحداثة قد أدت إلى "موت الإله"، لكنه أخذ يطالبها بأن تخطو خطوة نحو تنصيب "السوبرمان" مكانه، إذ يقول في مؤلفه "العلم المرح" على لسان إحدى الشخصيات "أين الإله؟ سأقول لكم! لقد قتلناه أنتم وأنا! نحن، نحن كلنا، قتلته! ولكن كيف فعلنا ذلك؟.. ألا يجدر بنا أن نصير نحن أنفسنا آلهة لكي نبدو جديرين بهذا الفعل؟ لم يحصل لنا إطلاقًا فعل بهذه الجلالة؟ وكل من سيولد بعدنا سينتمي، بفضل هذا الفعل نفسه، إلى تاريخ أعلى من كل تاريخ وجد حتى الآن؟"[7].

 

سيصل راسكولينكوف إلى فكرة مفادها أن البشر منقسمين إلى فئتين: الأولى هم أولئك من الناس العاديين الذين يطيعون القانون ولا يتصفون بأي سمات استثنائية، إنهم ليسوا أكثر من كتل من اللحم غير النافع، بينما تتمثل الفئة الأخرى في أولئك الأشخاص الخارقين الذين يقعون فوق جميع المبادئ والقيم التي ابتدعها الضعفاء لضمان سير حياتهم، هذه الفئة من البشر يجوز لها ما لا يجوز لغيرها [6]!
 

يقدم راسكولينكوف في رواية
يقدم راسكولينكوف في رواية "الجريمة والعقاب" على قتل عجوز مرابية لا قيمة لوجودها بحسب وجهة نظره، لكنه -ويا للمفارقة- لن يستطيع التحرر من وطأة وثقل الشعور بالذنب (مواقع التواصل)

 
في الجريمة والعقاب، يضع دوستويفسكي هذه الفكرة موضع الامتحان؛ حيث سيقدم راسكولينكوف على قتل عجوز مرابية لا قيمة لوجودها بحسب وجهة نظره، لكنه -ويا للمفارقة- لن يستطيع التحرر من وطأة وثقل الشعور بالذنب الذي بات يطارده منذ اللحظة الأولى لارتكابه الجريمة، حتى أنه يقر بأنه قد قام بارتكاب جريمة، وهذا الإقرار يتطلب بحد ذاته وجود معيار متعالي عن البشر يحدد الجريمة من عدمها [8].

 

وكما يشير الألم إلى وجود خلل في أعضائنا البيولوجية، يشير الشعور بالذنب إلى وجود عطب في أرواحنا، وهذا ما أراد راسكولينكوف إنكاره والهروب منه دون جدوى، فبرغم جميع محاولاته لإقناع نفسه أنه أحد أولئك الخارقين الذين لا يجوز لهم الشعور بوخز الضمير، وأن الشعور بالذنب هو المُشكِلُ لا جرمه الذي ارتكبه، إلا أن "واقعية شعوره بالذنب هي الحقيقة التي تكشف كذب النسبية الأخلاقية، تكشف كذب الاعتقاد أن في وسع المرء أن يعيش ويختار ويزدهر في عالم يتجاوز الخير والشر"[8]. 

 

الإخوة كارامازوف أو في دحض السوبرمان

من الواضح أن دوستويفسكي كان -بشيء من البصيرة النافذة يشبه النبوة- متوجساً من ظهور مثل هذه الشخصية التي تدعي تفوقها واستعلاءها على أي منظومة قيمية، ولذا فقد حرص في رائعته التي ختم بها مشواره الأدبي "الإخوة كارامازوف" على تفكيك منطق هذه الشخصية المغرية بصورة لم تفعلها أبلغ الفلسفات اللاهوتية التي أرادت الرد على أطروحة نيتشه.

 

كان فيودر كارامازوف شخصاً فاسداً وجشعاً وأنانياً، وهو أب لثلاثة أبناء، يختزل كل واحد منهم واقعة الكينونة الإنسانية أمام أسئلة الوجود الكبرى، ثلاثة رؤى فلسفية تتجسد في ثلاث شخصيات مختلفة أشد الاختلاف: واحد منهم -وهو الذي سيعتنق فكرة السوبرمان- هو إيفان كارامازوف المثقف المشغول بهاجس السؤال الوجودي، فيتخذ "إزاءه جوابا إلحاديا يؤدي به في النهاية إلى الجنون، بعد أن جعله متحللا من كل ضابط قيمي حيث يقول "إذا لم يوجد الله فكل شيء مباح"!

 

كان إيفان كارامازوف مسكونا بسؤال العدالة في الوجود، وقد دفعه ظمأه للعدالة إلى التمرد على التعاليم الدينية وإنكارها، ولكن حين لم يكن بمقدوره الحصول على العدالة بنفسه في هذا العالم، فلم يكن أمامه سوى اختيار طريق التدمير الذاتي والتمرد.
 

ربما لو قُدر لنيتشه العيش ليرى العواقب الفادحة لنظرته للوجود تلك فإنه سينبذ أفكاره هذه ويتراجع عنها كما فعل دوستويفسكي مع بطل روايته إيفان كارامازوف. (مواقع التواصل)
ربما لو قُدر لنيتشه العيش ليرى العواقب الفادحة لنظرته للوجود تلك فإنه سينبذ أفكاره هذه ويتراجع عنها كما فعل دوستويفسكي مع بطل روايته إيفان كارامازوف. (مواقع التواصل)


خلال أحداث الرواية، يُقتَل الأب فيودور كارامازوف، وتتجه أصابع الاتهام صوب ابنه ديمتري المتهور صاحب الطباع الحادة، إلا أن المفاجأة ستكون حين نكتشف أن القاتل كان الابن غير الشرعي لفيودور والذي يدعى سميردياكوف، كان هذا الكشف صادماً للجميع إلا أن أحداً لن يصاب بالصدمة كما سيصاب بها إيفان كارامازوف!

 

لقد كان سميردياكوف تلميذا مخلصا لإيفان كارامازوف، وقد تشرب منه فلسفته الإلحادية التي تنكر وجود إله وتنصب الإنسان مكانه، ولما كان كل شيء مباح كما أخبره أستاذه إيفان، فما هو المانع الأدبي والأخلاقي في الإقدام على قتل رجل احتوى في شخصه مواصفات الشرور كلها "أناني وسكير ولص وزاني.. الخ"؟

 

يصر دوستويفسكي على أن يُري إيفان كارامازوف النتائج الواقعية الوخيمة لنظرته إلى الوجود، هذه النتائج التي ستذهله أيما ذهول، والتي ستجعله يشعر بالاشمئزاز تجاه معتقداته الإلحادية التي تبناها، لم يكن الرجل الخارق شخصاً نبيلا ومأساويا وصادقا -كنابليون في منفاه- كما كان يتصور إيفان كارامازوف، بل ظهر له أنه شخص وضيع وشرير ومدمر [8].

 

ربما لو قُدر لنيتشه العيش ليرى العواقب الفادحة لنظرته للوجود تلك كما تجلت في النازية ونموذج الفوهرر الذي جسده هتلر، والتي يذهب الكثير من الفلاسفة إلى القول أنها -أي النازية-  قد نشأت بتأثير من أفكار نيتشه حول الإنسان الخارق، فإنه سينبذ أفكاره هذه ويتراجع عنها كما فعل دوستويفسكي مع بطل روايته إيفان كارامازوف.

 

 وكما أشار الفيلسوف علي عزت بيجوفيتش فقد " كان نيتشه إنسانا حساسا ورقيق الشعور للغاية، ولم يكن على الإطلاق مثل "إنسانه الأعلى" (السوبرمان). فقد نيتشه عقله وهو في الرابعة والأربعين من عمره، ووفقا لما ذكره كَتبَت سيرة حياته، فإن السبب المباشر لهذا الأمر كان مشهدا وقع في ميدان تورين، فبعد أن غادر الفيلسوف شقته رأى سائق عربة يضرب حصانه بالسوط بلا رحمة، فاقترب الفيلسوف من الحصان وعانقه بلطف وانخرط في البكاء، ثم سقط على الأرض. عاش نيتشه بعدها لمدة اثني عشر عاما، إلا أنه لم يستعد عقله بعدها أبدا" وهنا يعقب بيجوفيتش قائلاً "نحن ما نكونه بالفعل، وليس ما نتوهم أو نتمنى أن نكونه" [9].

المصدر : الجزيرة