شعار قسم ميدان

استذئاب الليبرالية.. من النضال لتحرير الإنسان إلى النضال لابتلاعه

midan - شارع
اضغط للاستماع
    

في مقالته الشهيرة، التي نشرت في العام 1784، أوضح الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانت" جوهر مشروع التنوير والحداثة، وهو تحرير الإنسان من كل قوى الاستلاب التي تقف بينه وبين حريته في ممارسة اختياراته وإعمال عقله وتحديد مصيره، وتشكيل تصوراته عن العالم؛ فالحرية باعتبارها إعادة الاعتبار للإنسان في هذا العالم ورفع أغلال القوى التي تسلب وجوده وذاتيته، كانت هي الشعار الأبرز لعصر التنوير والحداثة.

 

الليبرالية والتنوير ومركزية الإنسان
في تلك الفترة التاريخية التي كتب فيها "كانت" مقالته، كانت أوروبا قد دخلت لتوها في عصر جديد عصر النهضة والحداثة(1)، وفي هذا الإطار كان كانت يشير في مقالته إلى أن قوى رجعية بعينها هي التي تقف عقبة أمام هذا التحول التاريخي الذي تشهده أوروبا وتمنع الإنسان من حقه في الحرية (والتي هي -بحسب كانت- قيمة مطلقة)..

 

مُثِّلت تلك القوى وقتها في النظام الاقتصادي الإقطاعي الذي يمنع الإنسان من حقه في التملك وحرية التنقل وتحديد مصيره بنفسه، وفي السُلطة الروحية مُمثلة في الكنيسة التي تصادر على عقل الإنسان وتمنعه من بناء تصوراته عن العالم، وفي الممالك الأوروبية المُتحالفة مع الإقطاعيين والكنيسة وتحكم أوروبا كحق مقدس ومطلق وتصادر في المقابل كل حقوق الإنسان السياسية والطبيعية.

 

أصَّل
أصَّل "كانت" للأفكار المؤسسة لعصر التنوير، وكانت هي القاعدة المعرفية التي انطلقت منها الأيديولوجيا الليبرالية الرأسمالية المعبرة عن القوى البرجوازية الصاعدة حديثا في أوروبا
 

أتى كل ذلك في ثنايا تصور عام (2)، وُلد وتشكّل أثناء عصر النهضة عن الإنسان والتاريخ والعالم؛ حيث تم النظر إلى الإنسان كذات متعالية وفاعلة وعقلانية، تصنع المعنى وتدركه، وتم اعتبار التاريخ مسافة نقطعها بين الماضي والمستقبل، أو حركة فريدة تجاه مستقبل مُحمَّل بكل أشواق وأحلام البشر، وفي الأخير تم تعريف العالم بأنه هو العالم الحسي، وهو يحمل كل أسراره وآليات فهمه داخله، دون الحاجة لأي مرجعيات غيبية تتجاوزه(3) .

كانت تلك الأفكار المؤسسة لعصر التنوير هي القاعدة المعرفية التي انطلقت منها الأيديولوجيا الليبرالية الرأسمالية، المعبرة عن القوى البرجوازية الصاعدة حديثا في أوروبا(4)، القوى البرجوازية ذات الطموحات الاقتصادية الواسعة والراغِبة في إنهاء سيطرة الحكم الملكي المطلق، والنظام الإقطاعي التقليدي الذي يحُول بينها وبين حقها في حريّة الحركة والتجارة ونقل البضائع والأموال.

 

بهذا كانت الليبرالية في القرن الثامن عشر، أيديولوجيا تنطلق -كما يوضح عبد الله العروي– "من تبجيل الذات الفردية الإنسانية، والنظر إليها كذات أخلاقية عاقلة وفاعلة لها الحق في التملك والتنقل والتصرف كما تشاء"، واعتبرت تلك الحقوق أخلاقيات عامة ومقدسة لا يمكن التنازل عنها، متشربة في ذلك كل قيم وأفكار عصر التنوير الأولى والمؤسسة. واستنادا على أندرو هيود كانت الأيديولوجيا الليبرالية بتمركزها حول الحرية الفردية كقيمة مطلقة "هي الأيديولوجيا الأكثر ارتباطا بفلسفة التنوير وتعبيرا عنها وبنظرتها للإنسان والتاريخ"، ويضيف المفكر عبد الإله بلقزيز تأكيدا على الهيّمنة الأيديولوجية الليبرالية على أوروبا في بدايات عصر النهضة "بأن الليبرالية في خلال القرن الثامن عشر كانت بمثابة الهواء للثقافة الغربية الحديثة".

 

الليبرالية الجديدة وتهميش الإنسان
فريديريك فون هايك، المنظّر الأبرز للفلسفة الليبرالية الجديدة، توفي عام 1992 عن عمر ناهز 93 عاما (مواقع التواصل)
فريديريك فون هايك، المنظّر الأبرز للفلسفة الليبرالية الجديدة، توفي عام 1992 عن عمر ناهز 93 عاما (مواقع التواصل)


وعلى العكس من الموقف الليبرالي الكلاسيكي الذي كان قد بدأ -معتمدا على فلسفة التنوير- بمفهوم إيجابي مسبق عن الإنسان والأخلاق وحركة التاريخ، واعتبار الإنسان مثلا ذات أخلاقية، تتسم باستقلال الإرادة، وقدرة ذاتية على إدراك الوجود، وعلى التشريع الخلقي، والنظر للتاريخ كحركة تقدم للأمام اكتسبت بالتدريج دلالات يوتوبية ملهمة. أما
 الفلسفة الليبرالية الجديدة؛ فذهبت -على يد الفيلسوف ومُنظِّرها الأبرز فريرديريك فون هايك- إلى إنكار أي طبيعة ثابتة عن الإنسان (سواء كانت سلبية أو إيجابية)، فالطبيعة الإنسانية عند فون هايك ليست حقيقة موضوعية معطاة سلفا يمكن البناء عليها(5).

 

وبحسب الباحث الفرنسي أنطوني دي كرسبني فإن هايك يرفض اعتبارَ الإنسان كذات واعية تتوق إلى بعض القيم (كالحرية مثلا) بشكل فطريّ، فهذا يعزز -في رأي هايك- انطباعًا بأن هنالك شيئًا جوهريا وثابتا اسمه الطبيعة الإنسانية، فعلى النقيض يفكك هايك فكرة الطبيعة الإنسانية بقوله "إنها حالة من التشكل دائم الذي لا ينقطع، حالة تترك المجال مفتوحا بشكل دائم لأي تغيير، دون أي معايير عن ما هو جيد وما هو سيئ، وفي اتجاهات لا يمكن التنبؤ بها سلفا، فباستثناء العوامل البيولوجية والفيزيائية فلا يوجد جوهر ثابت للإنسان"، وعليه فنحن لا نستطيع -طبقا لتلك النظرة التفكيكية للطبيعة الإنسانية- أنْ نتوقع مقدما أي معايير ثابتة أو قيم أو أخلاقيات عامة صالحة لكل زمان ومكان.

 

ولما كان الأمر كذلك فنحن -بحسب فلاسفة الليبرالية الجديدة– لا نملك الأساس الذي نستطيع بناء عليه أن نضع خطة للمستقبل الأمثل للإنسان أو نرسم صورة عن المجتمع المثالي أو نوقف تطورهما عند مرحلة تاريخية نهائية، فالتاريخ عند هايك مثلا ليس اقترابا من هدف محدد معلوم؛ لأن حركة التاريخ لا تتحقق بفعل عقل بشري يناضل بشكل منظم من أجل بلوغ غاية تاريخية معينة. إنما الأكثر صوابا في رأي فلاسفة الليبرالية الجديدة أن ننظر إلى التاريخ على أنه حركة من أجل الحركة دون وجود غاية نهائية، فالتقدم مثلا الذي بشرت به فلسفة الأنوار والحداثة، ما هو إلا عملية مستمرة يتم خلالها تعديل وتشكيل قيمنا ورغباتنا وهويتنا ومن ثم تغيير طبيعتنا الإنسانية ذاتها(6).

 undefined

وبهذا فإن هايك يشدد على أن مستقبل تطور المجتمع البشري موكول إلى التطور التلقائي الطبيعي، طالما أننا لا نستطيع أن نحدد سلفا خصائص النظام الأمثل للمجتمع الإنساني انطلاقا من مقدمات بعينها كافتراض طبيعة ثابتة أو مثالية للإنسان(7) أو تصور صورة معينة عن العدالة أو الإيمان بأخلاقيات عامة كمثال. وفي مقابل هذا التفكيك التام للإنسان، تطرح الفلسفة الليبرالية الجديدة مفهوم مركزي آخر تتمحور حوله الحياة، هو مفهوم السوق كبديل مركزي ومطلق عن مفاهيم التقدم والمجتمع والجوهر الإنساني التي بشرت بها الليبرالية وفلسفة الأنوار.

 

السوق النيو-ليبرالي أو الكنيسة العلمانية
اعتمد التنظير النيوليبرالي لمفهوم السوق بشكل أساسي على نفي أي فاعلية للإنسان، ففي كتابه "الفوضى، الدولة، اليوتوبيا" يدفع روبرت نوزيك أحد أشهر رواد مدرسة شيكاغو النيو-ليبرالية، بأن فكرة السوق الحر غير الخاضع لأي مؤسسة خارجة هي الحل الأمثل لعجز الإنسان المتراكم مع الوقت في أن يحيط بالعوامل التي تُشكل واقعه، ويردف نوزيك "بأن هذا العجز يزداد مع تقدم المعرفة البشرية وتنوعها، فالمعرفة تتراكم لتصل لحالة هائلة من التشظّي؛ بحيث يصعب على أي فاعل سياسي واقتصادي أن يدير واقع يزداد اتساعًا وانفلاتا مع الوقت".

 

أتت الليبرالية الجديدة لتزيح الإنسان من مركز الوجود والتاريخ وتنفي عنه أي قدرة على الوصول للمعرفة الصحيحة، مُسلمةً إياه للسوق ولعلاقات القوة التي تحكمه، دون مراعاة لحقه في الاختيار والمشاركة في إدارة شؤون حياته ومجتمعه

ويضيف فون هايك استكمالا لفكرة نوزيك، بأن الحل والاستثمار المثالي لهذه المعرفة البشرية القاصرة هو الاستسلام لقانون التطور الطبيعي التلقائي، فلا يمكن للسُلطة المركزية للدولة أو لعقل الفيلسوف أو المثقف أو حتى المُشرع القانوني أن يقود أو يتحكم في كافة أنشطة المجتمع فذلك بحسب هايك هو عين الطريق إلى العبودية والاستبداد. وعلى هذا كان كل الحل الليبرالي الجديد هو الركون إلى نظام منفصل عن الإنسان، جهاز يتسم بطابع لا-شخصي يستمد قوانينه من قوانين الطبيعة ذاتها(8)، فيعمل على إيجاد نوع من التناسق والتكامل، ويكيِّف الصراع والتنافس الصارم والأنانية والجشع داخله، أي جهاز السوق.

 

يوضح الدكتور الطيب بوعزة أنه مع انتشار الأيديولوجي للنيوليبرالية في سبعينات القرن الماضي على حساب الليبرالية الاجتماعية والتي عملت على تحقيق توزان بين حرية السوق ودور الدولة والمجتمع في تحقيق سياسيات العدالة والتشغيل، أخذ يُطرح مفهوم السوق بصيغة فاعل مطلق واحد لا شريك له. "فالمنظور الليبرالي الجديد يدفع برؤية لا تجعل من السوق عاملا اقتصاديا فقط، ولا فاعلا أو مؤسسة من بين فعاليات ومؤسسات أخرى، بل كيانا مُقدس، يَحْرُمُ التدخل فيه أو حتى توجيهه من قِبَلِ سلطة خارجية عليه أو مجرد التشارك مع أي مؤسسة أخرى". ويضيف بوعزة أن المفهوم النيوليبرالي للسوق أصبح يشكل كنيسة جديدة في عصر علماني، ويصنع صنما تخلع عليه حلل القداسة الدينية في أعلى صورها.


 
وعلى الرغم من تفاؤل كانت واحتفاؤه بالإنسان وبالحرية، إلا أن القرن والنصف التالي لنشر مقالته قد شهدا تكاثرًا في أشكال الهيمنة والطغيان التي بدا أنها انطلقت ونتجت من تقدم العقل التنويري نفسه، على عكس ما بَشّر به فلاسفة الأنوار الأوائل، من بين أشكال هذه الهيّمنة كانت الهيمنة الاقتصادية الملازمة لصعود الرأسمالية وسياسات الليبرالية الجديدة..

 

فبعد التأكيد الليبرالي الحداثي على أولوية الحرية للإنسان وعلى قدرته الأخلاقية والجمالية، أتت الليبرالية الجديدة بعدمية ما بعد حداثية لتزيح الإنسان من مركز الوجود والتاريخ وتنفي عنه أي فاعلية وأي قدرة على الوصول للمعرفة الصحيحة، مُسلمةً إياه للسوق ولعلاقات القوة التي تحكمه، دون مراعاة لحق الإنسان في الاختيار والمشاركة في إدارة شؤون حياته ومجتمعه بشكل ديمقراطي وفعال.

المصدر : الجزيرة