شعار قسم ميدان

الرواية الشفهية.. مصدر للمعرفة أم أساطير الأولين؟

ميدان - تاريخ أدب حضارة خلافة عباسية
في عالم تسود فيه النزعة التجريبية وتتسيّد فيه العلوم الطبيعية على سائر أنواع العلوم وفروع المعارف الأخرى، يتناقص الاهتمام بالمصادر التي يكتسب من خلالها الإنسان المعرفة على حساب تضخيم الاعتماد على مصدريّة (التجريب/الحسّ)، لدرجة بلغت أحيانًا إنكار كلّ مصادر المعرفة باستثناء مصدر (التجريب/الحسّ)، فوفقاً لهذه الرؤية يصبح كلّ ما يمكن اختباره معمليًا هو الحقيقة، وكل ما لا يمكن اختباره معمليًا هو وهم وتضليل، كما صرّح بذلك -على سبيل المثال- الملحد لورنس كراوس في مناظرته الشهيرة مع حمزة تزورتيس التي رفض فيها كراوس كل معلومة تأتي عبر الرواية أو الشهادة، معتمدًا فقط في بناء المعرفة على ما هو (تجريبي/حسّي)(1).

 

وعلى الرغم أن الفلاسفة والمفكّرين -المسلمين والغربيين- الذين بحثوا في المصادر التي يتلقى منها الإنسان المعرفة قد صنفوا وكتبوا أن مصادر المعرفة متعدّدة وكثيرة، إلا أن طغيان النزعة التجريبية المعاصرة على سائر مصادر المعرفة الأخرى وصل بها الحال إلى إنكار بعض المؤرخين أنفسهم لحجّية الرواية الشفهية، كما يقول أستاذ تاريخ الأفكار الهادي غيلوفي في كتاب التاريخ الشفوي "فمن المعروف أن شريحة عريضة من المؤرخين.. ظلت حتى وقت قريب جدًا ترفض الاعتراف بالرواية الشفوية مصدرًا للمعرفة التاريخية، واصفة إياها بالتفاهة والهزل"(2). أمّا بالنسبة للتنويريين والملاحدة، فبما أن التاريخ لا يمكن اختباره تجريبيًا، فقد صار من ثمّ كل ما يتعلق بالتاريخ يروّج على أنه أساطير الأولين لا مصداقية له ولا شرعية.

 

من هذا المنطلق نشطت الدعوات التنويرية التي تشكّك في حجّية السنة النبوية، وفي صحّة القرآن الكريم، وفي الدين الإسلامي برمّته، كما فعل محمد أركون عندما ذهب إلى القول بأن القرآن قرآنان في الحقيقة، القرآن الأول الذي أضحى في عداد المحالات ولا يمكن للمؤرخ الحديث أن يصل إليه مهما أجرى من بحوث، والقرآن الثاني الذي هو بين أيدينا(3)، وأصل هذا الاعتقاد عنده هو أنه يؤمن بأن النصوص الشرعية المنقولة عبر الرواية لا عبر التجربة المعملية لا يمكن التأكد منها، ممّا أدّى به إلى التشكيك في المصحف ككل مما يقود لعدم إمكانية الاعتماد عليه في بناء المعرفة(4)، فما هي مصادر المعرفة التي يمكن الاعتماد عليها؟ وما حجّية الخبر التاريخي؟ وهل يمكن الاعتماد على التاريخ مثلما نعتمد على العلوم التجريبية في بناء معرفتنا، أم أن التاريخ لا قيمة حقيقية له لأنه لا يمكن اختباره حسيّاً؟!

 

التصنيف في مسألة المعرفة
اتفق المفكرون منذ فجر التاريخ على إمكان المعرفة ومصداقيتها عبر ثلاثة مصادر أساسية، وهم الحسّ والعقل، وما يتركّب منهما، أي الخبر
اتفق المفكرون منذ فجر التاريخ على إمكان المعرفة ومصداقيتها عبر ثلاثة مصادر أساسية، وهم الحسّ والعقل، وما يتركّب منهما، أي الخبر

 

هناك اعتقادٌ يَسري وسط الكثير من الباحثين بأنّ بداية الحديث عن نظرية المعرفة التي تتناولُ طبيعة المعرفة الإنسانية ومصادرها وإمكانها وحدودها، بدأت مع جون لوك ومقالته في الفهم البشري (1690م/1101هـ)(5)، إلا أنَّ هذا الاعتقاد يعد مُجانِبًا للصواب، إذ أن التصنيف في مسألة المعرفة ليس إبداعًا من لوك مطلقًا وإنما يُنسب إليه تنسيقه لها فحسب، وإلّا فإنّ كثيرًا من علماء المسلمين قد تناولوا مسائل نظرية المعرفة خلال مؤلفاتهم في أصول الدين والفقه والمنطق، منهم على سبيل المثال لا الحصر أبو بكر الباقلاني (ت: 403هـ) وكتابه "تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل" والذي خصّص أول مباحثه لبيان حقيقة (العلم/المعرفة) وأقسامه ومداركه -أي طرقه-، وكذا أبو منصور البغدادي (ت: 429هـ) وكتابه "أصول الدين" الذي عدّ فيه الحقائق و(العلوم/المعارف) وتقسيمها وطرقها وأقسامها وأسمائها والعلوم الضرورية والنظرية والخبر المتواتر ونحو ذلك: أوّل أصل من بين 15 أصلًا(6). ولا يمكن تجاهل الإنتاج الأدبي لابن تيمية (ت: 728هـ) وكتابه العمدة "درء تعارض النقل والعقل، أو موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول" الذي عرض فيه مسائل العلم والنظر وحدّد طرق المعرفة بشكل غاية في التفصيل والتمحيص.

 

وباستثناء السفسطائيين وأصحاب مدرسة الشكّ المطلق والعدميين، فقد اتفق المفكرون منذ فجر التاريخ على إمكان المعرفة ومصداقيتها عبر ثلاثة مصادر أساسية، وهم الحسّ والعقل، وما يتركّب منهما، أي الخبر. بالإضافة إلى عدّة مصادر فرعية، كالإلهام، والحدس، والفطرة، وغير ذلك. ويرى الدكتور عبد الرحمن الزنيدي أن "المدارس الفكرية تتفاوت في تقديم أحد المصادر على الأخرى، إلا أنهم يتفقون جميعًا في صحّة المصادر الأساسية ابتداءً"(7).

 

تاريخ نقد التاريخ

ومن المُلاحظ أن نقد الخبر أو التاريخ كمصدر للمعرفة بشكل عام ليس وليد اليوم ولكنه أحيانًا كان يتم ذمّهُ بدعوى عدم علميّته وحجيّته، وهو ما دفع شمس الدين السخاوي (ت: 902هـ) للردّ على ناقدي التاريخ في مصنّفه المعروف "الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ أهل التاريخ"، الذي دافع فيه عن التاريخ كعلم أمام منكريه وناقديه، فقال في مقدّمته "فلمّا كان الاشتغال بفن التاريخ للعلماء من أجلّ القربات، ولكن لم أرَ في فضائله مؤلفاً يشفي الغليل ويزيل الكربات، بحيث تطرق للتنقيص له ولأهله بعض أولى البليّات، ممّن هو ممتحن بالجليّات فضلًا عن الخفيّات، فأردت إتحاف العارفين السادات بما لا غناء عنه في هذا الشأن من المهمّات، وأُشهر كونه من الأصول المعتبرات"(8).

 

وبعد أربعة قرون من تصنيف السخاوي لكتابه، وفي أوروبا، كثر التأليف حول علم التاريخ وموضوعه ومناهجه وتفسيراته ومذاهبه في أواخر القرن الثامن عشر، ويشير المؤرّخ الإنجليزي آرثر مارفيك في كتابه "طبيعة التاريخ"، وهو من الكتب الجامعية الدراسية المعتمدة الواسعة الانتشار في جامعات أوروبا وأميركا، إلى أهمّية الدراسة التاريخية في قوله "وإذن: فالتبرير الأساسي للدراسة التاريخية، هو أنها ضرورية.. فهي تسد حاجة غريزة إنسانية أساسية، وتفي بحاجة أصيلة من حاجات البشر الذين يعيشون في المجتمع"(9).

 

أمّا المؤرّخ حسين مؤنس -رحمه الله- (ت: 1996م) فقد دافع عن علم التاريخ في كتابه "التاريخ والمؤرخون: دراسة في علم التاريخ" وبرّر احتياج المؤرخين أحيانًا إلى الكتابة حول مصدرية التاريخ ابتداءً، فقال "ونحن الذين ندرس التاريخ نجد أنفسنا في أحيان كثيرة مضطرين إلى الدفاع عن العلم الذي تخصّصنا فيه، وتبرير اشتغالنا به"(10).

 

هل يمكن الاعتماد على العلم التجريبي فقط؟
العلم التجريبي لا يتعدّى كونه نشاطًا بشريًا مثله كمثل أي واقعة تاريخية، أي أنّه معرّض للتلاعب والخطأ والتأثّر بالأهواء والتقلّبات النفسية والسياسية والتحريف طبقًا للتحيّزات الأيديولوجية
العلم التجريبي لا يتعدّى كونه نشاطًا بشريًا مثله كمثل أي واقعة تاريخية، أي أنّه معرّض للتلاعب والخطأ والتأثّر بالأهواء والتقلّبات النفسية والسياسية والتحريف طبقًا للتحيّزات الأيديولوجية
 

ماذا لو رفضنا التاريخ كمصدر للمعرفة واقتصرنا على العلم التجريبي فحسب؟! حينها ستكون المعرفة الإنسانية مستحيلة حينئذٍ، إذ أنّ العلم التجريبي نفسه ليس يقينيًا ولا يمكن الاعتماد عليه وحده في بناء المعرفة الإنسانية، فجُلّ الإنتاج التجريبي يتّسم بالشك والحيرة والتردّد وعدم اليقين، أو على الأقل هكذا ينبغي أن يكون، كما يقول الأحيائي التطوّري غيري كوين "لا يعني تراكم الأدلة وتقبل الناس للنظرية العلمية -أيًا ما كانت- أنها لا يمكن تخطئتها، فجميع النظريات العلمية مؤقتة، ومعرّضة للتغيير في ضوء الأدلة الجديدة. لا يوجد جرس منبه يضرب ليخبر العلماء أنهم قد توصلوا إلى الحقيقة المطلقة والنهائية بشأن الطبيعة"(11). ومن ثمّ فإنّ مبرّر رفض الرواية التاريخية كونها غير يقينية متحقّق كذلك في المذهب التجريبي، ممّا يسقط هذه الدّعوى.

 

كما أنّ العلم التجريبي لا يتعدّى كونه نشاطًا بشريًا مثله كمثل أي واقعة تاريخية، أي أنّه معرّض للتلاعب والخطأ والتأثّر بالأهواء والتقلّبات النفسية والسياسية والتحريف طبقًا للتحيّزات الأيديولوجية، لذا يقول أحد الباحثين الغربيين أنّ "التزوير في العلم "التجريبي" يجب أن يُتوقع ألّا يكون أكثر أو أقل من التزوير في المجتمع بشكل عام"(12).

 

يتضح إذن أن الاعتراض على الخبر التاريخي بحجّة أنه قابلٌ للتأثّر بالأهواء والخرافات هو نفس وجه الاعتراض على المذهب التجريبي المعرّض أيضًا للتزوير والتدليس، والسؤال ينبغي أن يكون: كيف نمحّص صحيح التجريب من سقيمه؟ وما هي القواعد التأصيلية لضبط التجريب كمصدر للمعرفة؟ أمّا إلغاء حجيّة العلم التجريبي بالكلية بسبب أنه قد يقع فيه التدليس والكذب، فهو قول لا يمكن التعويل عليه بالمرّة.

 

علم التاريخ: قواعد وأطر

وبما أنّ الخبر التاريخي معرّض للخطأ، فقد قام أهل الفن والتخصص بترشيده ووضع القواعد والأطر المنهجية له المنهجية حتى يمكننا تمييز الوقائع التاريخية الصحيحة من الحوادث التاريخية الخرافية، ومن الأعمال التي تميزت في هذا المجال ما قام به المؤرّخ اللبناني أسد رستم في كتابه القيّم "مصطلح التاريخ" الذي افتتحه بعرض تاريخ نقد التاريخ، ثمّ استهلّه بالثناء على علماء الدين الإسلامي -رغم أنه مسيحي الديانة- كونهم أول من نظّم نقد الروايات التاريخية "وأول من وضعوا لعلم التاريخ قواعد لا تزال في أسسها وجوهرها محترمة في الأوساط العلمية حتى يومنا هذا"(13)، ثمّ عرض نظريته لقواعد التأريخ: التقميش، والعلوم الموصلة، ونقد الأصول، وتنظيم العمل، وتفسير النص، والعدالة والضبط، وإثبات الحقائق المفردة، والاجتهاد، والتعليل، والعرض .

 

أمّا الباحث اللبناني وجيه كوثراني في كتابه المهمّ "تاريخ التأريخ" فهو يذكر بأن الرواية التاريخية عرفتها جميع الحضارات الإنسانية بأشكالٍ وصيغ مختلفة، ويقول أن العقل البشري "قد توصّل بعد تطوّر طويل في طرائق التفكير إلى وعي مناسب للتمييز بين ما هو (أسطوري/خيالي) وما هو (تاريخي/واقعي)"، ويوضح أن المعرفة التاريخية سُمّيت في الغرب بالهيستوريغرافيا، وعند المسلمين بتدوين الأخبار، ثمّ يقرّر "وقد بُذلت جهود منذ القرن الخامس قبل الميلاد وحتى اليوم في نقد المعارف التاريخية وضبطها وغربلتها واستخلاص ما يُعتقد أنّه صحيحٌ فيها.. وفي هذه المسارات نشأ علم التاريخ كتتويج لجهود في البحث والتفكير والتطبيق"(14).

 

أسبقية علوم الحديث
ظهر في الحضارة الإسلامية علومًا خادمة لعلوم الحديث تضمن مزيدًا من التحقيق والضبط للأخبار النبوية، فتعمّق المسلمون في دراسة وتمييز الصحابة من التابعين من غيرهم (مواقع التواصل)
ظهر في الحضارة الإسلامية علومًا خادمة لعلوم الحديث تضمن مزيدًا من التحقيق والضبط للأخبار النبوية، فتعمّق المسلمون في دراسة وتمييز الصحابة من التابعين من غيرهم (مواقع التواصل)

 

يتفق المؤرخون إذن على الثقة بصدق ويقينية التاريخ كمصدر للمعرفة، ويختلفون في وضع المعايير التي يتم قياس عليها صحّة الأخبار، والترجيح بينها، وتتبّع رواتها وإسناداتها، ورأس هذه الجهود هو الباب الذي تفرّد فيه المسلمون فيما سُمي بعلوم الحديث، فقد وضع علماء المسلمين شروطًا عدّة لتصحيح أو تحسين الأخبار النبوية لتمييز الصادق منها من الكاذب، منها: اتصال السند، وعدالة الرواة، وضبطهم، وانتفاء الشذوذ في السند أو المتن، وانتفاء العلة "الخافية"، وهي الشروط التي يتطلب كل شرطٍ منهم علمًا خاصًا له رجاله ومناهجه وأدواته، يبحثون في مسائل الشرط ويحققون في موضوعاته(15).

 

وقد ظهر أيضًا في الحضارة الإسلامية علومًا خادمة لعلوم الحديث تضمن مزيدًا من التحقيق والضبط للأخبار النبوية، فتعمّق المسلمون في دراسة وتمييز الصحابة من التابعين من غيرهم، كما ألّف ابن حجر العسقلاني كتابه "الإصابة في تمييز الصحابة"، واهتمّوا في دراسة سير الرواة بتمييز الإخوة والأخوات حتى لا يُظن في راويين أنهما إخوة لاشتراكهما في اسم الأب، كما فعل أبو العباس السراج في كتابه "الإخوة"، وقد بلغت دقة العناية بعلوم الحديث إلى أن ألّفوا في معرفة المتفق والمفترق أي في الرواة الذين تتشابه أسماؤهم، كما ألّف الحافظ محمد بن طاهر كتابه "الأنساب المتفقة"(16).

 

ويلاحظ الباحث التونسي صابر الحباشة عناية المسلمين الفائقة بحفظ الحديث رواية ودراية وتجلّي هذه العناية في مدى تركيبية شبكاتهم الحديثية، فيقول إن "شبكة رواية الحديث هي أطول شبكة من جنسها في الوجود.. إذ أن علماء الحديث المعروفين بـ"المحدّثين" تمتد شبكتهم من الطبقة الأولى إلى الطبقة السادسة والعشرين الممتدّة بين عامي 610م و 1505م، مع وجود أهمّ الرواة (1226 راويًا) الذين تربطهم 13712 صلة فيما بينهم"(17).

 

فكما تبين، فإن دعوى نفي حجّية التاريخ بالكليّة هي دعوى أقرب للسطحية منها للدراسة الموضوعية. ورغم أن التلاعب وارد في كتابة التاريخ كما هو وارد في كافة الأنشطة الإنسانية، إلّا أن ذلك لا يلغي الذاكرة جملة واحدة وإنما يعزز من جهودنا للحفاظ عليها من الضياع والتلف. ويلفت الباحث وجيه كوثراني النظر إلى أن هناك شعوب وجماعات بأكملها لا تعتمد إلّا على التاريخ المروي شفهيًا مثل ذاكرة المناضلين والمقاومين، والمعذبين في حروب أهلية والمضطهدين في حملات استعمارية، والمهمشين في السجون والمعتقلات أو منفيات، ناهيك عن شعوب بأكملها ليس لديها تاريخ مكتوب(18)، وإلغاء حجيّة التاريخ يعني إزالة الوجود الإنساني لهذه الجماعات -وغيرها- تمامًا من ذاكرة البشرية، وهو أمر لا يستقيم عقلًا أو موضوعًا.  

المصدر : الجزيرة