شعار قسم ميدان

هل يمكن فصل العلم عن الفلسفة؟

midan - book

ظهرت الطبيعانية في أوائل القرن الفائت كحركة تقرّب الفلسفة من العلم، وتؤكد أنه لا يوجد شيء خارج إطار الطبيعة (أي وراء الطبيعة) "Supernatural"، ثم تستخدم المنهج العلمي كأداة لتحري تلك الطبيعة. تُعد تلك النقاط الثلاث -ربما- مقدمة أكثر بساطة -بفارق شاسع- من تعقد تلك الفلسفة المتشعبّة المسكونة بعدد ضخم من التعريفات والتداخلات المختلفة مع نطاقات فلسفية أخرى؛ لذلك يمكن القول إن تعريف(1) "الطبيعانية" مفردًا قد يكون من الغموض بحيث لا يمكن له أن يعطينا قدرا كبيرا من المعلومات، إلا أن فلاسفتها المعاصرين -وهنا نتحدث عن معظم الفلاسفة- يمكن لهم أن يتفقوا معنا حول تلك المعايير الثلاثة للطبيعانية، لكن هناك جدل طويل حول تفاصيل تبدأ بـ "ما هو الطبيعي وما هو غير الطبيعي؟".

 

تنقسم الطبيعانية إلى(2) طبيعانية أنطولوجية (Ontological Naturalism) وطبيعانية ميثودولوجية/منهجية (Methodological Naturalism). تتعلق الأولى بما نظن أنه موجود/طبيعي حقًا، وتعرِّف الكيانات التي تقع خارج/وراء نطاق الطبيعة، بينما تتعلق الثانية بالآلية أو المنهجية (الميثودولوجيا) العلمية التي سوف تتّبعها الفلسفة لتحري تلك الكيانات. وهنا تتضح العلاقة بين الفلسفة الطبيعانية والعلم ربما بشكل أكبر، لكن لتحقيق فهم أفضل لتلك النقطة سوف نحتاج لأن نعود قليلًا إلى الخلف لكي نتأمل مفهوم الفلسفة الوضعية عن العلم، ثم نقارنه بموقف الفلسفة الطبيعانية.

 

علم بلا أساسات
ترى الفلسفة الوضعية المنطقية(3) (Logical Positivism) أنّ العلم هو النشاط العقلي الأوحد، والذي ينقسم بين فئتين فقط من الباحثين، العلماء الذين يقومون بجمع البيانات وعمل التجارب (الجانب التركيبي)، والفلاسفة الذين يقومون بتحليلات منطقية -الجانب التحليلي- تساعد على تقدم العلم وتطوره. يؤدي ذلك إلى مفهوم أن "الفلسفة علمية"، أي أن الفلسفة تنطلق من العلم وإلى العلم، لكن المدرسة الوضعية تفصل بين الفلسفة والعلم، فالفلسفة تضع القواعد المنطقية للتحرك العلمي التجريبي، تصنع هيكلا ثابتا قويا يبرر العلم ويسمح لذلك التحرك أن يستمر.

   

طرح الفلسفة الطبيعانية فكرة أن هناك فرصة لاستخدام العلم كي يجيب بنفسه عن أسئلة ضمن نطاق الفلسفة، أو فلسفة العلم بالخصوص
طرح الفلسفة الطبيعانية فكرة أن هناك فرصة لاستخدام العلم كي يجيب بنفسه عن أسئلة ضمن نطاق الفلسفة، أو فلسفة العلم بالخصوص
   

في المقابل، ترى الطبيعانية أنّ كلا من العلم والفلسفة هما نطاقان يمكن أن يندمجا معًا في كيان واحد(4)، أن يكونَ كلٌ منهما امتدادا للآخر. لفهم ذلك، دعنا نقول إنه -في النهاية- نحن في الطبيعانية نتحدث عن نطاق عمل واحد فقط، نطاق الطبيعة، لذلك؛ فإن الحديث عن هذا النطاق -من وجهة نظر الفلسفة أو العلم- هو جدل حول الشيء نفسه، الفارق بين الفلسفة والعلم هنا -تحديدا- ليس عن موضوع كل منهم، أو نوعية الأسئلة التي يمكن أن تُسأل، بل بالأحرى عن الآليات التي سوف نستخدمها لمعالجة ذلك كله. في الحقيقة، يمكن فهم ذلك، في إطار أنه لا يوجد واقعيا ذلك الفاصل الواضح بين المناهج، حتى في العلم؛ فبجانب وجود الفيزياء إلا أن هناك كيمياء فيزيائية وحيوية، وفيزياء حيوية وكيمياء حيوية… إلخ، وقد كانت الفيزياء ذاتها في يوم ما تدعى "الفلسفة الطبيعية".

 

مهمة الأبستمولوجيا لم تعد تأسيس المعرفة المبررة، بل التحقق من كيفية توصل الإنسان إلى الحالة الراهنة للمعرفة.. بذلك تصبح الأبستمولوجيا كما يقول كواين "فصلًا في علم النفس"

بذلك تطرح الفلسفة الطبيعانية فكرة أن هناك فرصة لاستخدام العلم كي يجيب بنفسه عن أسئلة ضمن نطاق الفلسفة أو فلسفة العلم بالخصوص، وهذا بالأساس يصنع إشكالا واضحًا؛ إذ يمكن هنا أن نتصور الطبيعانية على أنها فلسفة دائرية تطلب من العلم أن يقيّم ربما فلسفة العلم. يقودنا ذلك إلى سؤال مهم عن علاقة الفلسفة بالعلم: أليس من المفترض أن تكون هناك أساسات (Foundations) تبريرية خارجة عن العلم ومستقلة عنه، تبنيها الفلسفة أولًا (First Philosophy)، ثم يعتمد عليها العلم للمضي قدمًا في طريقه للتقصّي والبحث؟ وبذلك يتجاوز العلم فكرة أن يقيّم ذاته، ونبدأ باستخدامه -بعد ذلك- لتقييم ما نريد؟

 

تدعى وجهة النظر الأخيرة بالفلسفة الأسسية(5) (Foundationalism)، وهي -بشكل مبسط-: القول بحاجة الفلسفة قَبلا (Apriori) أن توفر أساسات للعلم، إنها ذلك البرنامج الفلسفي الذي بدأ من ديكارت ثم ورثته المدرسة الوضعية المنطقية، تصوُّر أن المعرفة تبدأ من قناعات مبررة بشكل مباشر دون الحاجة لقناعات أخرى كي تبررها، ثم استخدام تلك القناعات -بصورة غير مباشرة أو عبر استنتاج (Inferentially)- لبناء قناعات جديدة صادقة بصدق سابقتها… وهكذا. بذلك نؤسس لمعرفة سليمة، هذه النظرة هي ما ترفضه الطبيعانية لتقول إن العلم لا يحتاج لأساسات من ذلك النوع.

  

في تلك النقطة، يتدخل ويلارد فان أورمان كواين، الفيلسوف الأميركي، والذي يُنظر إليه كمؤسس للأبستمولوجيا -نظرية المعرفة- الطبيعانية، في مقاله: "الأبستمولوجيا المطبعنة(6) (Epistemology Naturalized)، في أواخر الستينيات من القرن الفائت، والمنشور ضمن كتاب "النسبية الأنطولوجية ومقالات أخرى (Ontological Relativity and other Essays)، ليقول إن برنامج ديكارت التأسيسي للسعي نحو اليقين (Quest for Certainty) لا أمل فيه (A lost cause)، خاصة بعد فشله على مدى وقت -ليس بالقصير- في إثبات قدرته على إتمام هذا النوع من الأبنية الفلسفية التبريرية، ثم يقسم كواين البرنامج الأبستمولوجي الكلاسيكي إلى قسمين:

  

undefined

    

الأول: هو الاختزال المفاهيمي(7) (Conceptual Reduction) وهو رد الاصطلاحات الفيزيائية، بما في ذلك اصطلاحات العلوم النظرية، بالتعريف إلى اصطلاحات مقابلة لها تشير إلى ملامح ظاهراتية -فينومينولوجية- للخبرة الحسّية. يعني ذلك حاجتنا للتوفيق الدقيق في المعنى بين اصطلاحات فيزيائية وأخرى ظاهراتية. والآخر: هو الاختزال النظامي (Doctrinal Reduction) والذي يستخرج حقائق العالم الفيزيائي بـ "طريقة مناسبة" من حقائق الخبرة الحسّية، وهي النقطة التي يتدخل فيها كواين ليقول إن تلك "الطريقة المناسبة" تعني اشتقاق قناعات جديدة من قناعات رئيسية دون أن ينقص منها شيء في أثناء هذا التحوّل، وهو ما يعتبر كواين أنه -في الحالتين- غير ممكن؛ حيث بالطبع سترفض كليّانية (Holism) كواين مثل هذا الاختزال.

 

دعنا نرجع إلى الخلف قليلًا؛ حيث سيبدو ذلك الرفض "الكوايني" للفلسفة الأسسية مفهومًا في إطار مقال سابق لكواين، وهو "عقيدتان في التجريبية"(8) (Two Dogmas In Empiricism)، والمنشور في الخمسينيات، ضمن كتاب "من وجهة نظر منطقية" (From Logical Point Of view). وخلاله، حط كواين بضربته القاضية على الفلسفة الوضعية المنطقية، حينما فنّد الفصل بين القضايا التركيبية والتحليلية (Analytic Synthetic Distinction) ليجادل(9) في أن القضايا التحليلية هي الأخرى يمكن أن تخضع للفحص. ويضيف أن القضايا التركيبية يمكن اختزالها لتحليلية والعكس، بطريقة لها علاقة بالمعنى ومدى إدراكنا للمرادفات (Synonyms). وفي المقال نفسه، يطور كواين فكرته ويؤسس لمفهوم الكليّانية (Holism)، فيصنع شبكة معرفية من الفرضيات والقناعات غير الممكن اختبار أيّ منها بمعزل عن البقية، ويضم لها(10) قناعاتنا وتصوراتنا عمّا تعني الأشياء، بدءًا من خبرتنا بأكثر الموضوعات عرضية في الجغرافيا والتاريخ حتى أكثر القوانين عمقًا في الفيزياء الذرية أو حتى الرياضيات البحتة والمنطق، بلا فصل. يقول كواين إن "وحدة الدلالة التجريبية هي العلم كله (The unit of empirical significance is the whole science).

 

الأبستمولوجيا كفصل في كتاب علم النفس
 بناءً على ما سبق، إذا وقع التبرير (Justification) أرضًا من الأبستمولوجيا وقعت المعرفة أيضًا، فالمعرفة بهذه الطريقة الكلاسيكية هي مفهوم معياري(*)(Normative)، لكن أبستمولوجيا كواين الطبيعانية(11) هي أبستمولوجيا وصفية (Descriptive) لا تسأل عن موضوعات مفاهيمية؛ لذلك، في مقال كواين "الأبستمولوجيا المطبعنة"، سوف نقابل دوما اصطلاحات كـ "علم" أو"نظرية" لكن ليس "معرفة"، وبذلك يرى كواين أن الأبستمولوجيا يمكن أن تكون تجريبية (معتمدة على علوم وصفية)، أي يمكن للعلم أن يجيب عن أسئلتها، وهو هنا إذن يحيل/يرد الأبستمولوجيا إلى العلوم الإدراكية، تلك التي يمكن أن تجيب تجريبيًا عن أسئلة لها علاقة بكيفية أن نعرف، أو أن نضع قناعات، وكيف تتغير تلك القناعات مع الزمن؟ وما القوانين التي تحكم ذلك كله؟ وكيف يطوّر الإنسان -ككائن مُدرك- النظريات (وجهة نظره عن العالم) من خلال الرصد (استثارة الأعضاء الحسّية الخاصة به)؟

  

يرفض كواين الفصل بين الفلسفة والعلم، حيث لا يختلف كل منهما إلا من حيث درجة العمومية، وأن البرنامج الكلاسيكي للأبستمولوجيا متّهم بفقدان الرؤية الواضحة للمعرفة البشرية كمحصّلة للعمليات الطبيعية السببية
يرفض كواين الفصل بين الفلسفة والعلم، حيث لا يختلف كل منهما إلا من حيث درجة العمومية، وأن البرنامج الكلاسيكي للأبستمولوجيا متّهم بفقدان الرؤية الواضحة للمعرفة البشرية كمحصّلة للعمليات الطبيعية السببية
  

مهمة الأبستمولوجيا لم تعد -إذن- تأسيس المعرفة المبررة، بل التحقق من كيفية توصل الإنسان إلى الحالة الراهنة للمعرفة؟ بذلك تصبح الأبستمولوجيا كما يقول كواين "فصلًا في علم النفس". يقول د. الدكتور يوسف تيبس(12)، أستاذ المنطق والفلسفة المعاصرة، بجامعة محمد بن عبد الله، فاس، المغرب، مختصرًا تلك الفكرة: "بعبارة أدق، إن تطور المعرفة، حسب كواين، مندمج بشكل طبيعي في تطور النوع البشري، ومن ثم لا توجد لا فلسفة أولى ولا منطق قبلي أو أولي يؤسسان المعرفة والمنطق. إن الأبستمولوجيا الطبيعانية هي، بلغة ميشيل سير، أبستمولوجيا علمية لأنها تعنى بنفسها دون ما حاجة إلى ما يؤسسها".

 

يرفض كواين إذن الفصل بين الفلسفة والعلم، حيث لا يختلف كل منهما إلا من حيث درجة العمومية، ويرى(13) أن البرنامج الكلاسيكي للأبستمولوجيا متّهم بأنه "قبلي" (Aprioristic)، يفقد الرؤية الواضحة للمعرفة البشرية كمحصّلة للعمليات الطبيعية السببية ووظيفتها كآداة للإبقاء على الفرد ونوعه. وبالتأكيد، ظهرت العديد من الاعتراضات(14) على هذا المنهج المتطرف، جاء معظمها من فلاسفة أزعجتهم فكرة انتهاء دور الفلسفة بالشكل الذي أتاحه البرنامج الكلاسيكي؛ حيث انتقد بعضهم مساواة كواين للأبستمولوجيا الديكارتية بالأبستمولوجيا الكلاسيكية، برغم التحوّلات الواضحة في هذا البرنامج، بينما أصر آخرون على دائرية القول إنه يمكن للعلم أن يبت في مسائل ذات علاقة بفلسفة العلم، الأمر كتفسير الماء بالماء، لكن رد كواين هنا أشبه بـ "هذا هو ما تحصل عليه في الأبستمولوجيا:، الأمر كأن تسأل "هل نعيش في مصفوفة كتلك التي توجد بفيلم (Matrix)؟، هذا سؤال لا يمكن الإجابة عليه.

 

في نفس الوقت، طرح بعض الفلاسفة عدة أسئلة لا يمكن للعلم وحده أن يجيب ،عليها تتعلق بكيفية إيجاد القيم في عالم طبيعاني، وهي أيضًا مهمة يتدخل فيها العلم الإدراكي لدراسة كيفية تشكّل القيم، لكنه لا يمكن أن يجيب عّما هو الجيد وما هو السيء، ثم يصل الفيلسوف هنري كورنبليث(15) إلى قاعة الهجوم على كواين فيقول منتقدًا تنحية المعيارية: "الأبستمولوجيا بلا معيارية هي كهاملت بلا أمير الدنمارك".

 

في النهاية، يجب القول إن تلك النزعة الكواينية الراديكالية القائلة باختزال الفلسفة إلى العلم بهذا الشكل ليست رائجة بين الطبيعانيين، يميل معظمهم إلى القول إن الفلسفة والعلم يعملان معًا في أرض واحدة يساعد فيها كل منهما في إجابة الأسئلة الأساسية.

 

___________________________________

  

(*): السلوك المعياري باختصار مبسط هو الحديث عما يجب أن يكون، أما الوصفي فهو الحديث عمّا يحدث بالفعل.

المصدر : الجزيرة