شعار قسم ميدان

تنظيم الدولة.. واقع جديد يقفز فوق نظريات الاجتماع

تنظيم الدولة يبث فيديو لإعدام جنديين تركيين حرقا
كيف يمكن أن نحلِّل تنظيم الدولة اجتماعيا؟ هل صحيح أنها دليل على عودة الدين للحياة -وبقوة- وعودة السرديات الكبرى؟ أم أن العكس صحيح؛ أي أن تنظيم الدولة تعد مثالا لموت النظرية الاجتماعية، ولا تعبر بأي حال عن الأنساق الاجتماعية التقليدية. في هذا التقرير نستعرض معكم آراء الباحثين حول الإجابة إلى أي مدى تعد تنظيم الدولة نمطاً من أنماط الاجتماع.


أولا: ما معنى موت النظرية الاجتماعية؟

يشتغل علم الاجتماع الكلاسيكي بالعلاقات الإنسانية المباشرة بين الفاعلين في المجتمع، أما حديثا وتحديدًا في ثمانينيات القرن الماضي فقد اختلفت النظرية. 
فقد تحدث عالم الاجتماع "جين بودريار" عن موت الاجتماعي وافترض موضحًا، ثلاثة سيناريوهات: الأول: ما هو اجتماعي لم يكن أبدا قائما في الواقع. والثاني: ما هو اجتماعي يوجد الآن في كل مكان ويستثمر كل شيء. والثالث: ما هو اجتماعي وجد بالفعل لكنه انتهى وهو يساوي موت الاجتماعي؟ ويؤكد "بودريار" على السيناريو الثالث، ويتعامل مع الاجتماعي على أنه صورة زائفة من الاجتماع. والواقع بالنسبة لـ "بودريار" هو محاكاة وليس صادقا، وهذه نتيجة الاستهلاك الضخم والرقمية المسيطرة على العلاقات.


تنظيم الدولة حصيلة نهاية المجتمعات

undefined

بحسب الصحافي اللبناني "حازم الأمين" فإن تنظيم الدولة هي حصيلة نهاية المجتمعات ومقدمة لها. فواقع تنظيم الدولة المزيف/المفتعل بعناية في مقاطعها المسجلة عبَّر عنه الأمين بقوله:
"البعد المشهدي مثلاً -وهو بُعدٌ جوهري في أداء التنظيم وفي نشاطه وطبيعته – هو عامل لا يمكن استبعاده في السعي إلى تفسير تنظيم الدولة تنظيم الدولة ولفهم أشكال اشتغاله.. جاء الأوروبي المنتسب للتنظيم محملاً بخبرات كبيرة على صعيد إنتاج الصورة، فوجد في الصحراوي ابن عشيرة الأنبار كثيف الشعر وأسوده، وجهًا يُخاطب وعيًا سينمائيًّا هوليووديًّا، فيما تولى المهندس التونسي إعداد عناصر الصورة ورفدها بـ "كورس" من الأردنيين واللبنانيين، وأُجبر صحافي غربي مختطَف على إعداد تقرير عن المشهد استعمل فيه كل مهاراته في الأداء التليفزيوني". 
ويؤكد الأمين على أن تنظيم الدولة هي امتداد لمسار شخصي -وليس اجتماعي- يخفيه المنتمون إلى صفوفها عبر ترديدهم أنهم ما جاءوا إلا للجهاد ولإقامة دولة الخلافة.

"داعشية الداعشي" -إن صح التعبير- (هي مساره الخاص، واضطرابه الخاص، ومرة أخرى تبدو تنظيم الدولة مصفاة اضطرابات هائلة السعة). فيدلِّل "الأمين" على أن تنظيم الدولة تقدم حلولا للأفراد، وليس الجماعات، فالتونسيون المنضمون لتنظيم الدولة لا يعبِّرون عن مزاج جمعي تونسي بقدر ما يعبِّرون عن خلافه! حتى إنهم لا يعبِّرون عن السمات الاجتماعية المعروفة التي يرصدها الباحثون فى الجماعات الجهادية (فهم من غير الفقراء المعدَمين وليسوا مهمَّشين، والأكثر مدعاة للاستغراب هو أنهم في أصولهم أقرب إلى البيئات التونسية غير الإسلامية).


والحال مشابهٌ أيضا بالنسبة لفتاة فرنسية من أصل مغربي لم تبلغ السابعة عشرة من عمرها، تلك الفتاة التي قال عنها أخوها في حديث صحافي: "إنها تعيش في منزل ليس فيه أثر للممارسة الدينية، الأثر الوحيد الذي رصدته العائلة هو ثياب صلاة تم العثور عليها في غرفة الفتاة بعد مغادرتها، كما أشار الشاب إلى أنه تحدث مع شقيقته عبر الهاتف، وقالت له: إن حياتها هناك تشبه الحياة في "ديزني لاند" التي لطالما حلمت أن تعيش فيها). وهذه دلالةٌ أخرى تحملها تنظيم الدولة على موت الاجتماعي، وتلك الطريقة التي تروِّج بها لنفسها في سبيل إقناع الأوروبيات -خاصة- للالتحاق بهم.

بعيداً عن "جنَّة تنظيم الدولة"!
"أطلق "الدواعش" يد الإبداع في إزهاق أرواح الخصوم، فأغرقوا بالماء، وقطعوا الرؤوس وفتّتوا الرقاب بسلاسل تفجيريّة، لم يسبقهم إليها أحدٌ من العالمين."
 

إن كنت مسلمًا فهي أرض الخلافة، وإن كنت غير مسلم، فهي مجتمع مثالي تقي، وإن كنت تحب القوة فتنظيم الدولة مجتمع الأبطال الخارقين، وبالطبع للفتيات نصيب من هذه "البروباجاندا"، فهناك ستجدين فارس أحلامك، شابٌّ وسيمٌ ومفتول العضلات، يحمل السلاح على يديه، ويتدلى شريط الرصاص من على كتفيه.


وكما تقول سارة خان؛ الناشطة في التوعية ضد مخاطر المجندين المتطرفين بأن "حياة الفتيات المراهقات واقعةٌ تحت السيطرة المطلقة، إنها حياة واقعة تحت أحلام الرومانسية، فكرة اليوتوبيا- المدينة الفاضلة. حتى إني لا أعتقد بأن تلك الفتيات الشابات يدركن أصلاً بأنه لا سبيل للعودة الآن". إضافة لذلك فقد سبق ذكر كلام الفتاة الفرنسية وهو ما يتكرر في كثير من حالات الفتيات الأوروبيات.

صحافية فرنسية أصدرت كتاباً بعنوان "في جلد جهادية" تحكى فيه تجربتها التي استخدمت فيها حسابا مزيفا على الفيسبوك تحت اسم مستعار "ميلودي". وبعد مشاركة مقاطع مصورة على حسابها تلقت مباشرة رسالة من جهادي يدعى بلال الذي سألها عن رأيها في صورة مركبة له، وهو يستعرض نفسه مع سيارة دفع رباعي ومع أسلحته.

بعيدا عن جنَّة تنظيم الدولة أو "اليوتوبيا" أو "ديزني لاند"، ماذا عن صدق ادعائها بأنها تعبر عن الدين (السردية الكبرى)؟ في مقال بعنوان "هل يتحمل التراث الإسلامي مسؤولية فظائع تنظيم الدولة؟" يتحدث الباحث براء نزار عن كذب تنظيم الدولة في ادعائها بتمثيل الشريعة الإسلامية فيقول:
"حتى في الحالات التي أباح الإسلامُ فيها القتل عقوبةً، فإنّ تنفيذه يخضعُ لقانونٍ نبويّ: (إذا قتلتُم فأحسنوا القِتلة)، اعتبر الفقهاء هذا التوجيه النبويّ قانونًا عامًا، وما سواه استثناء، أما في الحالة تنظيم الدولة، فيُلاحَظُ تجاهلٌ شبه تامّ لهذا التوجيه، إذ يتعمّدُ القتلةُ ابتداع الطرق الأكثر إيلامًا ووحشيّة، ويزيدونه فظاعةً بالتصوير والمونتاج، والمؤثرات الصوتيّة والبصرية، وبين ثنايا ذلك تستشعرُ إمعانًا في التلذّذ والتسلية.

ثمّ يُهرع بعد ذلك "شرعيّو تنظيم الدولة" إلى كتب التراث، منقّبين عن وجهٍ لفِعالهم، متجاهلين الآيات البيّنة، والأحاديث المتكاثرة، الداعية إلى نقيض أفعالهم، وقد أكثروا اعتمادهم على قاعدة "المعاملة بالمثل" وأفرطوا في تطبيقها أيّما إفراط؛ إذ لا يمكن بحال المقارنة مثلًا بين قصفٍ صاروخيّ، ووضع إنسان في قفصٍ، وصبّ البترول عليه، وإحراقه بعدُ بفتيلٍ نارٍ طويل! ويبدو أن قاعدة "المعاملة بالمثل" -على اتساعها- لم تعد تشبع نهم الدواعش، فأطلقوا أخيرًا يد الإبداع والتفنن في إزهاق أرواح الخصوم، فأغرقوا بالماء، وقطعوا الرؤوس وفتّتوا الرقاب بسلاسل تفجيريّة، لم يسبقهم إليها أحدٌ من العالمين."
 

"تنظيم الدولة" وعودة السرديات الكبرى

undefined

في المقابل يرى باحثون آخرون أن تنظيم الدولة مثال لإحياء السرديات الكبرى، وأنها تمثل إحياء للاجتماعي وليس العكس. فيتحدث العالم السياسي الفرنسي فرانسوا بورغا عن أسباب انضمام الشباب المسلم لـ تنظيم الدولة فيقول: "المسلم الذي ترضى عنه فرنسا لم يعد مسلما، وبالتالي أعتقد أن السبب الجوهري في عدم تفاعلنا بشكل مؤثر مع العالم العربي حاليا هو عجزنا عن خلق علاقة عقلانية مع هذا الجيل السياسي الذي نرفضه جملة وتفصيلا بدعوى أنه إسلامي. الاستخبارات الفرنسية والأردنية والسعودية قامت بإقصاء المجموعات التى رأوا بأنها غير علمانية بشكل كافٍ، وقد أفضى ذلك إلى إيجاد الدوافع التى تدفع أناسا عاديين مثلي ومثلكم للانضمام لتنظيم الدولة. 

أيضا يرى الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي أن تنظيم الدولة هي نتاج أزمة طائفية بين السنة والشيعة وتمثل سردية كبرى.

ويلخِّص "حسن أبو هنية" المتخصص في شؤون الحركات الجهادية أسباب انضمام الشباب لـ تنظيم الدولة فيقول إن أسباب ذلك تتمثل في: "فشل سياسات الدولة الوطنية العربية اقتصادياً واجتماعيًا وسياسيًا، وظهور الهوية الطائفية في سورية والعراق، واعتقادهم أن التنظيم بوصفه "السنّي" يمكن أن يحارب التمدد الإيراني في المنطقة". وفي كلتا الحالتين فإن على علماء الاجتماع والمفكرين -خاصة المسلمين- أن يطوروا من نظرياتهم وتفاعلهم مع الواقع الجديد الذي لم تعد الأدبيات الاجتماعية القديمة وحدها قادرة على تفسيره والاشتباك معه ومن ثم وضع حل له.

المصدر : الجزيرة