شعار قسم ميدان

أمهات منصات التواصل.. لماذا أصبحت رعاية الأطفال بطولة؟

أمهات السوشيال ميديا.. لماذا أصبحت رعاية الأطفال بطولة؟

تعلو البسمة وجهها، يتكرر حضورها في صورة نجاحٍ دائم، لا تعرف وَهنا ولا كسلا، تسابق الزمن في كل مراحل الأمومة، فتلبّي حاجة طفلها في كلّ وقت، هي أمٌ وزوجةٌ خارقة، هكذا ترى ذاتها أو بالأحرى كما يراها الآخرون، تواجه الصعاب بخفّة، وترى في قفزها من فوق ناطحة سحاب عملا جنونيا وممتعا.. إنّها "السوبر ماما".

 

مقابل ذلك؛ صورة أخرى لامرأة تتفوق في أدائها المهنيّ، تسوّق ذاتها بشكلٍ مكثّف، وعادةً ما تختزل حياتها بصورة الزوجة السعيدة في علاقتها بشريك الحياة، كونه داعما لها، أو سببا لنجاحها، أو مشاركا لها ذات الاهتمام. عادةً في خلفية المشهد يغيب وجود الأطفال. هي امرأة تؤجّل فكرة الإنجاب إلى أن يرتفع رصيدها المهني، أو تحقق ذاتها تحت الأضواء.. "الأم الهاربة"، أي أنها الهاربة من الأمومة.

 

يظهر نموذجا الأمومة بصورة واضحة على شبكات التواصل الاجتماعي؛ والتي يكون الترويج لها من خلال عالم ضخم من الصور تتواصل مع الناس من خلاله، والذي هو فعليّا وسيلة تواصليّة وعنصر فعّال يوازي ألف خطابٍ يمتدُّ لساعات. وبهذا تساهم الصورة التي تروِّج لها الأمهات في النموذجين على إنتاج معنى جديد "للأمومة"، وذلك بإعادة تعريفه وصياغته، وتقديمه بصورة تساهم في التأثير على المتابعين من خلال عملية "المشاهدة والتلقي" على صفحات التواصل؛ تحديدا على فئة النساء. فيكون للصورة وظيفتها في تحويل الفكرة إلى هدف ثم إلى رأي جماهيري عام فسلوك بشري؛ وكلّ ذلك عن طريق الفضاء الإلكتروني[1].

 

تسويق الأمومة.. " كاب كيك" وحياة سعيدة

تسويق الأمومة.. " كاب كيك" وحياة سعيدة

الأم أروى الطويل، الصحفية والمهتمة بالتعليم المنزلي والعلوم الاجتماعية والتسويق، ترى أن ظهور النموذجين على وسائل التواصل يرتبط بصورة كبيرة بمفهوم "التسويق"، والذي يمكن ملاحظته عند بعض الأمهات اللواتي يمارسنه بطريقة متعمّدة لتحقيق أهداف معينة وتكوين صورة ما عن الأمومة، قياسا بمن يمارسن الدور بطريقة عفويّة لكنهنّ لا يحظين بالإقبال والمتابعة.

 

وتضيف، أن فكرة التسويق؛ "ليست لها علاقة بالمنتج وإنما بصورة المنتج في ذهن الجمهور"؛ فالأم التي تسوّق لفكرة السوبر ماما أو نموذج آخر هل هي فعلا سوبر ماما؟ "ليس هناك شيء اسمه سوبر ماما وإنما التسويق لفكرة السوبر ماما" وصياغتها في أذهان الناس على أنها "الأم التي تقوم بكل شيء رهيب وفظيع، الأم التي لا تواجه مشاكل في حياتها، أولادها مثاليون، أم سعيدة، تمارس حياتها بالكامل، وتعمل "كاب كيك" وتضع صورته على السوشال ميديا". وبهذا تتضخم صورة هذا النوع من الأمهات وتكبر في أذهان النساء المتابعات، وبهذا تحصل الأم المروّجة للفكرة على قوّة أكبر وبالتالي جمهور أكثر[2].

 

تُعتبر الشبكات الاجتماعية وسائل اتصال ثريَّة؛ لأنها تمتلك قدرًا كبيرًا من المعلومات؛ فضلًا عن تنوُّع المضمون المقدَّم من خلالها، ومن ثم تستطيع هذه الوسائط التغلُّب على الغموض والشك الذي ينتاب الكثير من الأفراد من بينهم "الأمهات" عند التعرُّض لها، لا سيما القضايا المتعلقة بكل ما له علاقة بدور الأمومة،  كما أنها تتميز بسرعة رد الفعل، والتركيز الشخصي على الوسيلة، واستخدام اللغة الطبيعية التي تكون قريبة ومحببة[3].

 

ويحصل تأثير شبكات التواصل الاجتماعي على فئة النساء تحديدا -الأمهات- من خلال ثلاثة مستويات مترابطة بحسب ما ذكره الدكتور الراجي في كتاب أيدولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي: المستوى العاطفي، فتزايد المجموعات الخاصة بالأمومة وعالم الأطفال والتربية عبر مواقع التواصل، يؤدي إلى إعادة صياغة عواطف النساء ومشاعرهنّ تجاه قضاياهنّ، والتأثير في الأذواق والاختيارات بناء على النموذج الـمُقدَّم في هذه المجموعات سواء من الأم "السوبر ماما" أو غيرها من النماذج.

وسائل التواصل ساهمت بشكل كبير في تفعيل قضايا الأمومة من خلال العديد من الصفحات بشقيها العام أو الخاص الذي تتناول فيه الأم الحديث عن تجربتها الشخصية مع أطفالها
وسائل التواصل ساهمت بشكل كبير في تفعيل قضايا الأمومة من خلال العديد من الصفحات بشقيها العام أو الخاص الذي تتناول فيه الأم الحديث عن تجربتها الشخصية مع أطفالها (مواقع التواصل)

ثم هناك المستوى المعرفي وهو مرتبط بالبُعد السابق فالمجموعات أو الصفحات أصبحت مصدرًا جديدًا من مصادر إنتاج القيم وتلقين المعارف (الأيديولوجيا) وتشكيل الوعي بالقضايا المختلفة، لا سيما أن المحتوى العربي على "الإنترنت" فيما يخص عالم الأمومة والتربية شحيح، لتسد هذه المجموعات الثغر الحاصل في هذا المجال وتزود الأمهات بكل ما له علاقة بدورهنّ. أما المستوى الثالث هو البُعد السلوكي الذي يُعدُّ أعمق هذه المستويات، والتي تساهم شبكات التواصل بتشكيلها بطريقة عفوية أو قصديّة[4].

 

وتؤكد الأم إسراء قطب على ذلك بقولها إن وسائل التواصل ساهمت بشكل كبير في تفعيل قضايا الأمومة من خلال العديد من الصفحات بشقيها العام أو الخاص الذي تتناول فيه الأم الحديث عن تجربتها الشخصية مع أطفالها، والتي تقدم صورة أوضح عن واقع الأمومة، بالإضافة إلى وفرة الخيارات المتاحة للاطلاع على تجارب أمهات أبدعن وقدمن شيئا جديدا في فضاء الأمومة، وكان لهنّ دور إيجابي في حياة أمهات أخريات[5].

 

وتصنف قطب المتابِعة بشغف لكل الصفحات ذات الصلة بالأمومة والأطفال، أن تفاعل الأمهات مع الصفحات أو المجموعات الممتدة على مواقع التواصل ثلاثة أنواع؛ أمهات يجدن في مواقع التواصل منصة لمشاركة تجاربهن بطريقة تفاعلية مع أمهات أخريات، ويتعاملن معها كمتنفس لمشاركة الخبرات، ويجدن فيها عنصرا مشوقا ممتعا للأم، بينما هناك أمهات يبحثن عن المعلومة ويستمتعن بمتابعة النوع الأول ويحاولن تطبيق كل ما يتعلمْنَ مع أطفالهنّ دون تبادل خبرات أو مناقشة أو عرض تجارب، أما النوع الثالث فيعتبرن أن بذل أي مجهود يعتبر مضيعة للوقت ومثالية زائفة، فالأمومة بنظرهنّ تتمثل بصورتها التقليدية[6].

 

وفي هذا الشأن، تبرز أهمية مواقع التواصل الاجتماعي في قدرتها على التأثير بالتكوين المعرفي لمجتمع الأمهات، من خلال عملية تعرض طويلة المدى لمجموعة من النماذج والصفحات على الشبكات والتعامل معها كمصادر للمعلومات الموثوقة، فتقوم بتوجيه المعارف وتغير في أسلوب ونمط وطريقة تفكير الأم وقناعاتها المكتسبة[7]، كما تبرز أهميتها في أنها تملك التأثير على توجهات الأمهات ومواقفهم إزاء قضايا الأمومة والقضايا الاجتماعية المختلفة، والتأثير على ممارستهم لأدوارهم ونمط حياتهم[8].

 

"السوبر ماما".. نحو أمومة خارقة

"السوبر ماما".. نحو أمومة خارقة

وحول سؤال سبب انجذاب النساء لنموذج الأم "السوبر ماما"؛ ترى الأخصائية الاجتماعية ملسم عرفات أن ذلك يعود للصراع الذي تعيشه الأمهات في التوفيق بين دور الأمومة وبين العمل خارج المنزل، لا سيما التي تبحث عن تحقيق ذاتها وطموحاتها؛ وتعلّق: "هذا طبيعي جدًا برأيي؛ فالأم هي إنسان، ومن الطبيعي أن تكون لها أحلام وطموحات ذاتية ترغب بتحقيقها نظرا لتأثرها بالنزعة "الفردانية". لكنّ الضغوط التي تمارس عليها في سوق العمل عدا عن ضغوط المجتمع حول جدوى عملها خارج المنزل يقحمها في حالة اضطراب، وهنا تُطرح صورة "السوبر ماما" القادرة على كل شيء والناجحة في كل دور. مما يدفع العديد من النساء لإتقان هذا الدور وتبني هذه الصورة، بالإضافة إلى الدور الإعلامي الذي يعزز ذلك[9].

 

أول من استخدم مفردة الــ(Supe) في أطروحاته الفكرية، الفيلسوف الألماني فريدريك نيشه، والذي رأى أن واجب الحضارة هو خلق إنسان جديد، إنسان أعلى؛ أطلق عليه لقب الــ(Superman) على أن يكون هذا الإنسان صلبا قويا شجاعا وذكيا؛ كما أنه مستقل أخلاقيا عن القيم الدينية القديمة. على أن يلتزم الإنسان السوبرمان من وجهة نظر نيتشه بالقيم التي تعلي من شأن الإنسان والحياة معا، قيم جديدة تجعل الإنسان قويا خلاّقا سعيدا وحرا، قادرا على تشكيل مستقبله[10]. ويوضح نيتشة أن هذا الإنسان يبقى في حالة تغير مستمر، وفي حالة دائمة من الولادة المتجدّدة والنضج. فهو الذي يشرّع قيم الخير والشر، ولا يسمح للدين أو المجتمع بأن يضعاها من أجله، فيحدد قيمه وأخلاقه الخاصة، من دون أن يكون هناك أي مجال للخوف والمعاناة[11].

 

وبهذا حسب تعريف نيتشه، فإن نموذج الــ"السوبر ماما" يغدو النموذج الداعي إلى التحرر من القيود الفكرية القديمة بما يخص التربية، تحديدا الذي لا يتناسب مع المجتمع والبيئة التي نعيش فيها؛ كما تقول عرفات، والمقصود هنا ليس تجاوز البعد الديني والأخلاقي لمرجعية ذات الإنسان بحسب وصف نيتشه، وإنما ينسحب على مفهوم البعد عن المألوف، هنا وتضيف عرفات، أن كل طرح يصدر عن هذا النموذج سيلاقي إعجابًا من مجتمع الأمهات، لاسيما وأنه يقدم الأجوبة في قوالب جاهزة، عدا عن توفير الحلول السحرية لكل المشكلات؛ تقول: "في عصر السيولة والسرعة من الصعب على بعض الأمهات دراسة احتياجات طفلها الخاصة، وبالتالي الحلول السهلة والسحرية تعتبر الحل الأمثل"[12].

أسماء الشرباتي، أم لأربعة أطفال؛ تنوّه إلى الخطورة المترتبة على وجود نموذج السوبر ماما على نفسية الأمهات المتلقيّات أو المتابعات لهذه النماذج
أسماء الشرباتي، أم لأربعة أطفال؛ تنوّه إلى الخطورة المترتبة على وجود نموذج السوبر ماما على نفسية الأمهات المتلقيّات أو المتابعات لهذه النماذج (مواقع التواصل)

وتلفت، أن هذه الصفحات رغم أنها تقدم شيئًا من المحتوى الجيد، لكن للأسف في كثير من الأحيان تعرض الأم دورها ورؤيتها له بأنه حقيقة مطلقة، وهذه كارثة يستوجب معها التنبيه للصورة التي تُظهر الأم وطفلها، والتي تروّج بشكل أو بآخر لفكرة السوبر ماما. عدا عن إشكالية الأفكار المستوردة والتي تتمثل بنقل عشوائي لتجارب ودراسات غربية قد تكون فعلا ًناجحة في بيئة وظروف معينة، لكنها قد لا تصلح لشخصية بعض الأمهات وبيئتهنّ[13].

 

أسماء الشرباتي، أم لأربعة أطفال ومدربة في مجال التنمية البشرية؛ تنوّه إلى الخطورة المترتبة على وجود نموذج السوبر ماما على نفسية الأمهات المتلقيّات أو المتابعات لهذه النماذج، لاسيما وأنه يتغاضى عن اللحظات الصعبة في حياة الأم، ويعكس نموذجا مرتاحا خاليا من العيوب، تعيش فيه الأم حياتها في سعادة غامرة، وتقضي جلّ وقتها في رحلاتٍ سياحية؛ وبهذا تشعر الأم المتلقية بوجود خلل ما يمسُّ شخصيتها أو دور الأمومة الذي تقوم به، فترى أنه لا بدّ أن تكون في مكان آخر، ولكن الظروف وضعتها في مكان لا يوافق رغبتها بأن تكون "سوبر ماما"، فمن الطبيعي أن تتأثر الأمهات[14].

 

وتؤكد الأم أروى الطويل أن نموذج الـ"السوبر ماما" ليس صحيحا وغير موجود[15]. لا سيما وأن معظم المشاعر والأفكار التي تكون على وسائل التواصل الاجتماعي يمكن تلخيصها بأيقونات تعبيريّة أو علامات ترقيم، وبهذا يمكن للأم أن تخفي الكثير مما تشعر به خلف بريد إلكتروني مرسل، أو منشور على الـ (Facebook)، حيث تستطيع أن تظهر بالطريقة التي تريدها، وأن تلعب الدور الذي تشتهيه، وهنا لا يمكن تلقي أية إشارات للحكم على مدى مصداقية تلك النماذج من عدمها[16].

يمكن للأم أن تخفي الكثير مما تشعر به خلف بريد إلكتروني مرسل، أو منشور على الـ (Facebook)
(مواقع التواصل الاجتماعي)

تبين الكاتبة شيماء مصطفى في مقال مترجم بعنوان "سيكولوجية التواصل عبر شبكات التواصل الاجتماعي" أن شبكات التواصل تسهل وجود عالم افتراضي، وعادة ما يستخدم مصطلح "افتراضي" لوصف الأشياء غير الحقيقية، لكنها في ذات الوقت تأخذ صفات من العالم الحقيقي[17].

 

وتوضّح أكثر فكرة "المجتمع الافتراضي" كيف أنه عندما نلعب أي لعبة حربية على الكمبيوتر فإننا نختبر مشاعر التحمس والإحباط والتوتر، ولكن دون أي إصابات أو جروح حقيقية، لأن الخطر المحيط بالعالم الحقيقي تم إزالته من اللعبة. وبنفس الطريقة يجري التفاعل من خلال شبكات التواصل الاجتماعي والذي يمكن زائريه من التواصل مع الآخرين دون أية مصاعب أو تعقيدات[18].

 

بين السوبر ماما والأم الهاربة.. نظرة اشمئزاز لدور الأم التقليدي

تتعامل النساء مع أدوار الأمومة بصور مختلفة؛ فمن وجهة نظر الأم إسراء قطب أنهنّ ينقسمن لأربعة أنواع؛ الأم العالقة التي تعتبر أن الأطفال نقطة نهاية، فلا يمكنها الخروج للعمل وفي ذات الوقت تشعر أنها غير قادرة على إنجاز ما تطمح إليه وبهذا تشعر أنها "عالقة"[19].

بين السوبر ماما والأم الهاربة.. نظرة اشمئزاز لدور الأم التقليدي
(مواقع التواصل الاجتماعي)

بينما هناك الأم الهاربة، التي تحاول بطرق شتى إخلاء مسؤولياتها تجاه أطفالها، لأنها تريد أن "تعيش"، إما أن تكون عاملة أو غير ذلك، وينطبق على النساء اللواتي يرفضن أو يؤجلْن فكرة الإنجاب؛ لكنها فعليا أم هاربة.

 

في حين نرى نوعا ثالثا؛ كالأم المتفانية التي تقدم أسرتها وأطفالها على حساب ذاتها، بينما النوع الأخير يتمثل بالأم الواعية التي تتحمل مسؤولية اختيارها بأن تكون أما فتعي مراحل حياة طفلها، وتحاول جاهدة أن تكون قراراتها عقلانية ليس على حساب نفسها أو أطفالها[20].

 

وفي ظل وجود النماذج النسائية المذكورة سابقا، تبذل هناك جهود إما بطريقة مقصودة أو غير ذلك؛ لترويج كل منها على حدة، وبهذا تساهم منصات التواصل في إحداث عملية "ضبط جماعي" يتم من خلالها توحيد الأمهات على ثقافة أو نموذج واحد، بحيث يصبح الخروج عنه أمرا صعبا، كأن تحدد بعض الصفحات الشخصية للأمهات على الفيسبوك ما يصلح وما لا يصلح من خلال آراء معينة في حين يتم التكتيم على أخرى، فيخلق ذلك عند الأمهات ما يشبه العرف الذي يُقبل ويتّبع ويُحذر من مخالفته[21].

 

ويبدو هذا الكلام أكثر وضوحا لدى شريحة النساء اللواتي تحدثنا عنها في المقدمة؛ هي اللامعة والمتميزة في مجالها المهنيّ، لكنها ترفض أو تؤجل فكرة الإنجاب بدعوى أنها تبحث عن تحقيق ذاتها وطموحاتها. وغالبا فإن هذا النوع من النساء يجد في الأمومة حملا ثقيلا، وعبئا يستلزم معه التخلي عن الأحلام، لا سيما وأنها تعيش في مجتمع  يتحدث عن الإنجازات والطموحات العالية وتحقيق الذات، ويتم تصنيف الناس فيه على أساس أرقام (عدد الإنجازات،المستوى المادي، السفرات، الملابس، الحاجيات التي تُقتنى) حسب قول ملسم عرفات.

النظرة الاشمئزازية للأمومة التقليدية مردُّها إلى قسم من النساء اللواتي اخترن "الدور التقليدي" أنغمسن بدورهنّ وانغلقن على أنفسهنّ وأغلقن بوابة العالم الآخر
النظرة الاشمئزازية للأمومة التقليدية مردُّها إلى قسم من النساء اللواتي اخترن "الدور التقليدي" أنغمسن بدورهنّ وانغلقن على أنفسهنّ وأغلقن بوابة العالم الآخر (مواقع التواصل)

وتضيف عرفات، وأمام هذه النماذج من الطبيعي أن لا يحظى نموذج المرأة التقليدية باحترام، فهي لا تتقاضى أجرًا على عملها. كما لا نستغرب من وجود واحد من الأزواج يطالب زوجته بالمكثوت والاعتكاف على تربية الأطفال ورعايتهم، ولكن نظرته إليها دونية مقارنة بنظرته لزميلته المتفوقة في عملها!

 

وتوضّح عرفات، أن النظرة الاشمئزازية للأمومة التقليدية مردُّها إلى قسم من النساء اللواتي اخترن "الدور التقليدي" أنغمسن بدورهنّ وانغلقن على أنفسهنّ وأغلقن بوابة العالم الآخر. فبإمكان المرأة التي لا تعمل خارج المنزل أن تشارك في فعاليات وأنشطة مختلفة، ولكن اختيارها بالانغلاق ساهم بشكل جزئي بوجود النظرة الدونية لربّة المنزل.

 

وبهذا فإن النموذجين "السوبر ماما أو الأم الهاربة" تقومان من خلال منصات التواصل الاجتماعي بعرض جزء صغير من حقيقة الواقع، ليبقى في أذهان الجمهور على أنه الواقع الحقيقي الكامل، وهو ما يعرف بنظرية "صياغة الواقع". وبذلك تعمل النماذج على صياغة الواقع حسب الرؤية التي تريدها، وتعمل على صياغة نمط حياة تقدمه للناس على أنه الواقع المثالي، وتوحي للجمهور بتقليده عبر نشر صورته الإيجابية الجميلة فقط، فتختزل كل تفاصيل الحقيقة في هذا الجزء الصغير الذي تم عرضه[22].

 

الأم الجيدة بما فيه الكفاية

الأم الجيدة بما فيه الكفاية

وينيكوت: بناء مرونة أطفالنا هو هدية "الأم الجيدة بما فيه الكفاية". محاولة محاكاة نماذج الأمومة دون الإحاطة بها بشكل دقيق له تبعاته وآثاره، فعلى سبيل المثال؛ توجه النساء للانخراط في دور السوبر ماما وفقا للصورة الذهنية التي شكلتها؛ سيؤدي إلى إصابة الأم بما يسمى بــ"الاحتراق النفسي". خاصة وأن هذا الدور تعكس فيه الأم قدرتها على القيام بكل شيء بشكل خارق ومفرط في المثالية، دون أدنى إشارة للمصاعب التي قد تواجه الأم أثناء رحلة الأمومة، وقد تصاب الأم المتفانية أيضا بالاحتراق النفسي، والتي عادةً ما تردد عبارة "أفني حالي عشان أولادي" حيث تقدم أطفالها وعائلتها على حساب صحتها النفسية والجسمية.

 

عرّفت كريستينا ماسلاش الباحثة في مجال الاحتراق النفسي أنه "حالة من الإنهاك الجسدي والانفعالي والعقلي تظهر على شكل إعياء شديد وشعور بعدم الجدوى، وفقدان الأمل، وتطور مفهوم ذات سلبي واتجاهات سلبية نحو العمل والحياة والناس". وللاحتراق النفسي ثلاثة أبعاد؛ الإجهاد الانفعالي (emotional exhaustion)، حيث يتصف هذا البعد بالإرهاق والضعف واستنزاف المصادر الانفعالية لدى الأم، حيث تصل إلى مستوى تعجز به عن العطاء، ويعد هذا البعد العنصر الأساسي للاحتراق النفسي ويظهر علي شكل أعراض جسمية أو نفسية أو كليهما[23].

 

كما يعتبر تبلد المشاعر (depersonalization) بعدا آخر من الاحتراق النفسي، حيث يؤدي إلى تغييرات سلبية في الاتجاهات والاستجابات نحو الآخرين، وخصوصا الأبناء الذين يتلقون الرعاية والاهتمام من الأم، وغالبا ما يكون مصحوبا بسرعة الغضب والانفعال، وفقدان التقدير للعمل، وكذلك الاتجاهات الساخرة نحو الأبناء[24].

من بين الأمور التي تثير قلق الأم ومخاوفها، تفكيرها الدائم بمدى إتقانها لدورها، وهو ما يجعل العبارة الشائعة تتكرر: "هل أنا أم جيدة بما فيه الكفاية؟"
من بين الأمور التي تثير قلق الأم ومخاوفها، تفكيرها الدائم بمدى إتقانها لدورها، وهو ما يجعل العبارة الشائعة تتكرر: "هل أنا أم جيدة بما فيه الكفاية؟" (مواقع التواصل)

فيما يعتبر نقص الشعور بالإنجاز الشخصي (low personal accomplishment) البعد الأخير للاحتراق النفسي، حيث تميل الأم إلي تقييم إنجازاتها الشخصية بطريقة سلبية، ويتمثل بمشاعر الاكتئاب، والانسحاب، وقلة الإنتاجية، وعدم القدرة على التكيف مع الضغوط، والشعور بالفشل، وضعف تقدير الذات[25].

 

وأمام تنوع نماذج الأمومة على وسائل التواصل الاجتماعي والتسويق لها، يصبح صعبا على الأم اتخاذ النموذج الذي يساعدها في البقاء على صحتها النفسية والجسدية، وتحقيق التوازن المطلوب في دور الأمومة. وفي هذا السياق يمكننا تقديم نموذج يتسم بالواقعية والمرونة، ويساعد الأمهات على أداء أدوارهن دون إفراطٍ أو تفريط، وهو نموذج "الأم الجيدة بما فيه الكفاية" والذي جاء به طبيب الأطفال البريطاني والمحلل النفسي "دونالد وينيكوت" في كتابه الشهير اللعب والواقع، وذلك ضمن جهوده لتقديم الدعم لما أسماه "الغرائز السليمة من الآباء العاديين.. أسر مستقرة وصحية".

 

يؤكد وينيكوت، أن من بين الأمور التي تثير قلق الأم ومخاوفها، تفكيرها الدائم بمدى إتقانها لدورها، وهو ما يجعل العبارة الشائعة تتكرر: "هل أنا أم جيدة بما فيه الكفاية؟"[26]. ويرى وينيكوت أنه مطلوب من الأم أن تكون "الأم الجيدة بما فيه الكفاية" وليس "الأم المثالية". فإن الإخفاق وارد وطبيعي بين الحين والآخر في علاقة الأم مع طفلها[27]، لا سيما وأنه راقب على مدى عشرات السنوات العلاقة بين الأم ورضيعها ورفض بشكل مطلق تعليم الأمهات عن الأمومة، برأيه الأم تحمل غريزة الأم وهي بحاجة فقط للإصغاء لغريزتها والعمل حسب حدسها وفطرتها[28].

بحاجة أن يتعلموا من خلال التجربة أن الحياة يمكن أن تكون صعبة، وأنهم سوف يشعرون بالهبوط وخيبة الأمل، وأنهم لن يحصلوا دائما على طريقهم  (الجزيرة)
بحاجة أن يتعلموا من خلال التجربة أن الحياة يمكن أن تكون صعبة، وأنهم سوف يشعرون بالهبوط وخيبة الأمل، وأنهم لن يحصلوا دائما على طريقهم   (الجزيرة)

كما لاحظ وينيكوت أن الأطفال يستفيدون بالفعل عندما تفشل أمهاتهم في رعايتهم، وهنا لا نتحدث عن حالات الفشل الكبرى، مثل إساءة معاملة الأطفال والإهمال، "فالأم الجيدة بما فيه الكفاية" تسمح للرضع بتجربة كميات صغيرة من الإحباط فهي لا تتعجل فورا مع كل صرخة طفل، قد تسمح لطفلها بالبكاء لبضع ساعات قبل أن تغذية، ولكن فقط لبضع دقائق. إنها ليست "مثالية" لكنها "جيدة بما فيه الكفاية" في أن طفلها يشعر بكمية ضئيلة من الإحباط[29].

 

ويرى أن الأطفال بحاجة أن يتعلموا بطرق صغيرة كل يوم أن العالم لا يدور حولهم، وأن كل طلباتهم لن يتم الوفاء بها، وأن سلوكهم يؤثر على أشخاص آخرين. إنهم بحاجة أن يتعلموا من خلال التجربة أن الحياة يمكن أن تكون صعبة، وأنهم سوف يشعرون بالهبوط وخيبة الأمل، وأنهم لن يحصلوا دائما على طريقهم[30].

المصدر : الجزيرة