شعار قسم ميدان

قانون السياسة الأخطر.. إذا لم تجد عدوا فاصنعه

اضغط للاستماع

على الرغم من أن الحديث عن العدو ليس بالأمر المحبب إلى النفس، فنحن نفضل الحديث عن الصداقة والأصدقاء، نظراً لما تبعثه هذه الكلمة من شعور بالراحة والطمأنينة، وما تثيره الكلمة الأخرى من نفور، إلا أن ذلك لا ينفي حاجتنا إلى الأعداء، وهذا ما توصل إليه الفيلسوف والكاتب الإيطالي "أمبرتو إيكو" في دراسة له بعنوان: "اختراع العدو" حيث يقول فيها: "إن وجود العدو مهم ليس لتحديد هويتنا فحسب؛ وإنما -أيضاً- ليوفر لنا عائقاً نقيس إزاءه قيمنا، ونثبت -أثناء محاولتنا تخطيه- قيمتنا".

يستشهد "أمبرتو إيكو" في مقدمة دراسته بأهمية وجود العدو في حياتنا؛ من خلال قصة طريفة كانت قد حدثت له في نيويورك؛ حيث كان يستقل سيارة أجرة يقودها شخص من أصول باكستانية، فسأله السائق عن بلده، فأجابه "إيكو" بأنه من إيطاليا، فرد عليه السائق بسؤال آخر: من هم أعداؤكم؟ فاجأ هذا السؤال "إيكو" وحمله على التفكير في الدور الذي يلعبه العدو في تشكيل الهوية والذات، بحيث إن السؤال عن العدو جاء تالياً على السؤال عن الجنسية عند هذا السائق!

قاد هذا السؤال "إيكو" إلى التفكير في أعداء إيطاليا عبر التاريخ، وتذكر بالفعل أن بلاده لم تخلُ من أعداء ذات يوم، مستذكراً مرحلة الحكم الفاشي بزعامة موسوليني (1922 -1943)، الذي تولى مقاليد السلطة في إيطاليا في فترة ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية، وأسس حكمه على أساس التفوق العرقي وكراهية الآخر، وضرورة السطو والاستيلاء على مقدراته؛ كشرط لتحقيق نهضة قومية[1].

كما أتاحت له اطلاعاته التاريخية الواسعة، وخاصة في القرون الوسطى، استحضار الكيفية التي صور بها الرومان أعداءهم على أنهم "برابرة"، مشيراً إلى الكاتب الروماني "شيشرون" الذي وصف أعداء روما بأنهم "وثنيون ويمارسون طقوساً تتسم بالعربدة"، ثم يذكر كيف احتاجت أوروبا المسيحية في القرون الوسطى إلى اليهود، وذلك كي تدعم هويتها المسيحية، وترسخ الوعي بها تجاه الآخر /المختلف اليهودي.

أما في العصر الحديث؛ حيث تم اختراع "الغرب" كهوية متجانسة في مقابل "الشرق" والعوالم المجهولة الأخرى، يشير "إيكو" إلى أن العدو لم يعد بالنسبة للغرب هو اليهودي أو البربري أو غيرهم من الأعداء التقليديين، وإنما بات العدو الجديد متمثلاً بالمهاجرين الأجانب الوافدين من "الشرق" أو العوالم "الدونية" و"المتخلفة" بحسب وجهة نظر "الغرب الأوروبي المتقدم".[2] يتضح من خلال هذا السرد التاريخي الدور الذي يلعبه العدو في تشكيل الهوية والثقافة -والحديث هنا عن جميع الثقافات لا الثقافة الأوروبية وحسب-، إلى الحد الذي يستوجب اختراع عدو في حال لم يكن هناك أعداء متحققين فعليا.

لماذا ينبغي اختراع عدو؟ ومن الذي يتولى عملية صناعة العدو واختراعه؟ وماهو الدور الاجتماعي والسياسي الذي يلعبه العدو في تكوين المجتمعات المعاصرة؟ وهل بالإمكان أن تتشكل هوية دون أعداء؟ أم أن شرط تحقق الهوية هو أن يحيط بها أعداء متربصون؛ يشكلون ضمانة لتحقيق التضامن بين أفراد المجتمع الحديث؟

تحديد العدو وظيفة السياسي

الفيلسوف الألماني النازي "كارل شميت".

بحسب الفيلسوف الألماني النازي "كارل شميت" فإن ما يميز السياسة هو أنها "صيغة تترجم البعد الصراعي في نمط الاجتماع البشري، بحسب التحديدات الخاصة بها". فلما كانت الأخلاق تمتلك معيارية خاصة بها قوامها الخير والشر، وكانت الجماليات تمتلك معياريتها الخاصة وقوامها الحسن والقبيح، وكان للاقتصاد معاييره القائمة على الربح والخسارة؛ فإن معيارية السياسة تتمثل في تحديد العدو والصديق، ويعني هذا التحديد "الدرجة القصوى من التوحد والتفكك والترابط والانفصال"، دون التداخل مع المعايير الأخلاقية والجمالية والاقتصادية[3].

يشير "شميت" إلى أنه لكي تحقق الأمة وجودها بالذات، فإنه يتعين عليها أن تحدد عدوها، وهنا تمثل الدولة الشكل الأكثر اكتمالاً للسياسي، ذلك أنها الكيان الوحيد القادر على تحديد العدو العمومي للأمة وتسميته؛ ومن ثم إعلان الحرب عليه، والذي يعده "شميت" تحكماً شرعيا في أرواح البشر، وفي حال اعتمدت الدولة سياسة سلمية فقدت بذلك صفتها ككيان سياسي، ذي سيادة حقيقية [5].بناء عليه يصل "شميت" إلى النتيجة التالية: "يكون التجمع سياسيا عندما يتشكل في أفق محنة الحرب؛ ولهذا فإن هذا التجمع -هو في كل حال- التجمع الحاسم، وينتج عن ذلك أن الوحدة السياسية -ما دامت قائمة- هي العنصر الحاسم والسلطة السيادية طالما يرجع لها ضرورة وبالتحديد حق الحسم في الوضعية الحاسمة مهما كانت سمتها الاستثنائية".[6]

يشير د. السيد ولد أباه في دراسة له بعنوان" السيادة والسياسة: نظرية المشروعية والشرعية لدى كارل شميت" أن شميت بنى تصوراته عن السياسي بمعزل عن المحددات الأخلاقية، ومتأثراً بتصورات "هوبز" عن الطبيعة الإنسانية بوصفها "صراع الجميع ضد الجميع"، صراع لا يمكن تجاوزه ولا حله؛ إلا بتنازل أفراد المجتمع عن حرياتهم الشخصية لصالح سلطة سيادية قادرة على سنِّ التشريعات والقوانين الناظمة لحياة الناس، لكن "شميت" يضيف أن وظيفة هذه السلطة السيادية في تنظيم المجتمع لا يمكن أن تتحقق دون قيامها بتحديد عدو يلعب دوراً في تحقيق الانسجام والتجانس الهوياتي للمجتمع، ويرسخ الأواصر الجمعية بين أفراده.

الحاجة إلى العدو: التعرف على الذات عبر الآخر

مواقع التواصل
مواقع التواصل

"هل تسمعون في جميع أصقاعنا

عواء هؤلاء الجنود الهمجيين؟

الذين يأتون حتى أسرّتنا

لذبح أبنائنا ونسائنا!

إلى السلاح، أيها المواطنون!

شكّلوا صفوفكم!

فلنزحف! فلنزحف"

(من كلمات النشيد الوطني الفرنسي الذي كُتب في عهد الثورة الفرنسية ولا يزال معتمدا حتى الآن!)

في كتابه ذائع الصيت "الجماعات المتخيلة"، يعرف عالم الاجتماع "بندكت أندرسن" القومية بأنها "جماعة سياسية متخيلة؛ حيث يشمل التخيل أنها محددة وسيدة أصلا"، وهو مايعني أن كل أمة قومية مهما بلغ حجمها وتعدادها فإنها في نهاية المطاف لابد أن تتصور أن ثمة حدّا يفصل بينها ويمايزها عن الآخر، وهذا الآخر هو من يمنحها الوعي بذاتها بوصفها أمة ذات سيادة، بحيث تغدو السيادة بلا معنى في حال عدم وجود الآخر.

يشير "أمبرتو إيكو" أنه عندما تأسست الدول القوميّة في أوروبا أخذ البريطانيّون يصفون أعداءهم الفرنسيين بـ"أكلة الضفادع"، بينما أخذ الألمان يتندرون على الإيطاليين بسبب إقبالهم على استهلاك كميات من الثوم، قبل أن يصبح العدو هو ذاك الذي يجاهر باختلافه عن "الأمة" في اللبس والسلوك ونمط التفكير. أما في الولايات المتحدة الأميركية فقد كان "الزنجي" هو العدو الذي سيختاره الرجل الأبيض. وقد نُظر إليه دائماً بعين الريبة والشك والاتهام، فمجرد وجوده كان يعد أمرا ًمثيراً للخوف والريبة، وفي السينما جرى تصوير المناطق التي يقطنها السود كمرتع للجريمة والفاحشة والقذارة[7]!

تحتاج كل قومية -إذن- إلى "آخر" و"عدو" تستمد من وجوده الشعور بضرورة تجانسها وتعاضدها، ويشمل هذا الأمر حتى الدول القومية الديمقراطية القابلة للتحول إلى شكل من التعبئة الشعبوية شديدة العنصرية تجاه الآخر -كما هو الحال في أمريكا وأوروبا حاليا- متى ما وجدت هذه الدول نفسها بمواجهة تحديات اقتصادية واجتماعية أو كانت تعاني من اضطراب وقلق على مستوى الهوية، وهو ما أشار له "جورج كينان" حيث قال "دعوني أؤكد لكم أنه ليس هناك أكثر تمركزاً على الذات من ديمقراطية ما في حالة حرب! فهي تميل في هذه الحال أن تنسب إلى قضيتها قيمة مثالية تشوه رؤيتها للأشياء، ويصبح عدوها تجسيداً للشر، فيما يكون معسكرها مركزا للفضائل كلها.!"[8]

مجتمع بلا أعداء: هل هذا ممكن؟

   

عندما أخذ الاتحاد السوفييتي بالانهيار في مطلع العقد التاسع من القرن العشرين، خرج "ألكسندر أرباتوف" المستشار الدبلوماسي للرئيس السوفييتي "ميخائيل غورباتشوف"، مخاطباً المعسكر الغربي قائلاً: "سنقدم لكم أسوأ خدمة، سنحرمكم من العدو!"[9] إلا أن نظرية الإبطال للعدو هذه لم تستمر طويلاً حيث وجد "العالم الحر" ضالته سريعاً ممثلاً "بالأصولية الإسلامية" الكارهة – كما صورتها الدعاية الإعلامية- للقيم الحضارية الحديثة ونمط الحياة الغربي.يجادل الأكاديمي الفرنسي "بيار كونيسا" في كتابه "صنع العدو أو كيف تقتل بضمير مرتاح"، يجادل بأنه من الممكن طي الصراعات القديمة وتحقيق المصالحة مع العدو وتفكيك الإرث العدائي بين المتصارعين، والعيش بلا أعداء؛ وذلك مع اعترافه بصعوبة هذا الأمر، مستعرضاً عدة تجارب تاريخية تمكن أطراف الصراع فيها من تجاوز ميراث العِداء المشترك، وتحقيق ذاكرة تاريخية مشتركة حول حقبة الحروب البائدة، مقدماً تجربة الاتحاد الأوروبي بوصفها واحدة من أهم التجارب التي حققت هذا التجاوز؛ عبر الخروج من نفق الحروب القومية التي طبعت التاريخ الأوروبي إلى أفق التعاون الاقتصادي، وجعل الفضاء الأوروبي متاحاً لجميع الأفراد المنضوين في هذا الاتحاد.

إلا أن "كونيسا" لا يشير إلى مسألة هامة هنا، وهي أنه إذا كان الاتحاد الأوروبي قد مثّل -بالفعل- تجاوزا ًلحقبة النزاعات القومية الأوروبية، فإن هذا لا يعني أنه لم يعد يمتلك أعداء بصورة مطلقة؛ حيث خاضت عدد من دول الاتحاد الأوروبي مع الولايات المتحدة الأمريكية الحرب ضد "الإرهاب"، وشاركت بصورة مباشرة في غزو أفغانستان والعراق، وأسهمت أجهزتها الدعائية في تعميم ظاهرة "الإسلاموفوبيا" وتعزيز الصورة النمطية السلبية عن المسلمين، كما أن تصاعد الخطاب اليميني العنصري ضد المهاجرين والأقليات العرقية والدينية في أوروبا، يدل بصورة واضحة على أن هذه المجتمعات لم تتحرر بصورة مطلقة من عقدة وجود الأعداء[10].

قد يبدو من الصعوبة تصور وجود هوية بدون أعداء حقيقيين أو متخيَّلين، وإذا ماسلمنا بهذه الحقيقة التاريخية – كما أشار إليها أمبرتو إيكو- فإن المعضلة الأخلاقية لا تتمثل في مجرد وجود الأعداء، وإنما في تعميم صورة نمطية شيطانية عن العدو ونزع الصفة الإنسانية عنه، والقطيعة التامة معه؛ بحيث يغدو أي شكل من محاولة فهم منطق العدو والتعاطي معه أمراً مثيرا للتخوين والتهمة والعداء.[11]، إن مثل هذه النزعة الجوهرانية في التعامل مع العدو من شأنها أن تؤدي إلى شرعنة استباحته والفتك به دون الشعور -حتى- بمجرد وخز الضمير!

المصدر : الجزيرة