شعار قسم ميدان

تطور نظرية التطور

midan - darwin

تعدّ نظرية التطوّر أحد أبرز النظريات العلمية في العصر الحديث، وحجر الزاوية للفكر الإلحادي، ولا تكاد تخلو مؤسسة أكاديمية في الغرب من تدريس هذه النظرية وتطبيقاتها على العلوم الطبيعية والإنسانية، برغم ما يكتنف النظرية من كثير من الأساطير، منها أن النظرية هي منتوج للعلم الصادق والمحايد بشكل مجرّد، أو أن النظرية تحوّلت من مجرّد فرضية إلى حقيقة علمية صلبة، ومنها أن النظرية تم اختبارها ورصدها في المعامل مئات المرّات، فما هي حقيقة هذه الادّعاءات؟ وهل تم رصد التطور في المعامل بالفعل؟ وما هو السياق التاريخي الذي نشأت فيه النظرية ونمت؟ وأخيرًا: هل تقف النظرية متفرّدة في وجه الانتقادات الموجّهة إليها أم أن التحديات التي تواجهها تمثّل تهديدًا حقيقيًا للنظرية بالفعل؟

 

عصر التنوير والتمرّد على النمط الديني
قبل منتصف القرن التاسع عشر، كان أغلب الناس في الغرب يعتقدون أن الإله خلق كل نوع من الكائنات الحية: الحيوانات، والنباتات، والكائنات المجهرية، الخ- بشكل مباشر[1]، فقط النذر اليسير من العلماء الطبيعيين كانوا يدّعون أن هذه المروية الإنجيلية غير صحيحة، فاعتبروا أن الكائنات الحيّة لم تكن مخلوقة بشكل مُعجز وإنما تطورت عن بعضها البعض بطريقة أو بأخرى، لكن ما هو مبرّر اتجاه هؤلاء العلماء لإنكار مروية الخلق الإنجيلية؟ يقدّم لنا الأميركي هنري موريس، الذي يوصف بأنه أبو علم الخلق الحديث، الإجابة قائلًا: (لتتبع تاريخ الفكر التطوري، علينا أن ننظر إلى الإعدادات الهامة قبل داروين، لقد كانت تلك الحقبة التاريخية السابقة على داروين بجيلين حقبة تقلبات وثورات سياسية)[2].
قام العالِم الفرنسي جورج دي بوفون بنشر كتابه (التاريخ الطبيعي) في حوالي ثلاثين مجلدًا عام 1780م، أيّد فيه فكرة تطور الكائنات الحية من أنواع أسلاف مشتركة
قام العالِم الفرنسي جورج دي بوفون بنشر كتابه (التاريخ الطبيعي) في حوالي ثلاثين مجلدًا عام 1780م، أيّد فيه فكرة تطور الكائنات الحية من أنواع أسلاف مشتركة

فمع بزوغ عصر التنوير، وما حمله من شعارات العقلانية والتقدم، نمت بذور هذا الفكر التطوري بشكل خاص في فرنسا منذ القرن الثامن عشر، خصوصًا مع إرهاصات الثورة الفرنسية التي ألهمت مفكّري عصر التنوير في التخلّص من السرديات الدينية وما تزعم منها خلق الإله لجميع الكائنات الحية بطريقة مباشرة.

 

لذلك فإنه على عكس ما يعتقد كثيرٌ من الناس، لم يبتدع تشارلز داروين نظرية التطور من الصفر بل سبقه العديد من العلماء الذين اعتنقوا فكرًا تطوريًا في سياق التنوير والتمرّد على السرديات الدينية، فعلى سبيل المثال، قام العالِم الفرنسي جورج دي بوفون بنشر كتابه (التاريخ الطبيعي) في حوالي ثلاثين مجلدًا عام 1780م، أيّد فيه فكرة تطور الكائنات الحية من أنواع أسلاف مشتركة، واقترح -على سبيل المثال- أن جميع النمور والأسود والفهود تطوّرت عبر الزمن وبفعل العوامل المناخية من سلف مشترك واحد للقطط[3]، وعن تأثير هذا الكتاب حينئذٍ، يقول الأحيائي إرنست ماير أن هذا الكتاب قرأه كل شخص متعلّم في أوروبا[4].

 

المناظرة بين التطور والخلق المباشر
أثّر فكر دي بوفون التطوري في العديد من الفلاسفة والعلماء الطبيعيين، من أبرزهم: المفكران الفرنسيان بارون دولباخ، صاحب كتاب (نظام الطبيعة) الذي أُطلق عليه (إنجيل الإلحاد)، والذي ناقش فيه فكرة تنظيم المادة لنفسها لتنتج الحياة بفعل العوامل البيئية والزمنية فحسب، ودينيس ديدرو، الذي اقترح بأن المادة تتفاعل بشكل عشوائي ما يتسبب في نشوء الحياة عن طريق الصدفة[5]. أما العلماء الطبيعيين المتأثرين بدي بوفون فكُثر، نذكر منهم العالمان الفرنسيان -أيضًا- إيتيان جوفري وجون لامارك، التي سُميت نظرية التطور في البداية على اسم الأخير (اللاماركية)، حيث لخّص لامارك أفكاره عن التطور في كتابه المعنون (التاريخ الطبيعي للحيوانات اللافقارية) والذي صدر في سبعة مجلدات في حوالي عام 1820م.

 

لكن الفكر التطوري لم يكن يُترك وحيدًا في الساحة العلمية، وقام أغلبية العلماء بمعارضته، على رأسهم العالِم الفرنسي جورج كوفييه، مؤسس علم الحفريات وعلم التشريح المقارن الحديثين، الذي كان معارضًا قويًا لنظرية التطور، وجادل بأن الكوارث الطبيعية، كالزلازل والفيضانات ونحوهما، تتسبب في انقراض الكائنات -ولم يكن الانقراض معروفًا في المجتمع العملي حينذاك- ثمّ يخلق الإله كائنات جديدة بشكل مباشر بعد هذه الكوارث. 

تلقى العلماء الغربيون نظرية الفلكي الفرنسي بيير لابلاس بقبول واسع وبات من المسلّم به أن نظامنا الشمسي كان قديمًا عبارة عن سحابة سديمية من الغبار الكوني والغازات، ثمّ تشكّلت عبر آلاف السنوات إلى النجوم والكواكب
تلقى العلماء الغربيون نظرية الفلكي الفرنسي بيير لابلاس بقبول واسع وبات من المسلّم به أن نظامنا الشمسي كان قديمًا عبارة عن سحابة سديمية من الغبار الكوني والغازات، ثمّ تشكّلت عبر آلاف السنوات إلى النجوم والكواكب

وفي عام 1830م حدثت مناظرة شهيرة في فرنسا بين جورج كوفييه وإيتيان جوفري استمرّت قرابة الشهرين، حيث دافع الأول عن مبدأ الخلق الإلهي المؤدي إلى الاختلاف البنيوي والوظيفي للحيوانات بينما رأى الأخير أن الحيوانات كلها مشتركة في صفات جوهرية نتيجة تطورها من أصل واحد، ورغم تفوق كوفييه الواضح بسبب غزارة أدلته وقوة نفوذه الأكاديمي والسياسي، ما أدى إلى كبح انتشار الفكر التطوّري، إلا أن طرح جوفري لنظرية التطور في هذا السجال العلمي المرموق كان مؤذنًا بأن النظرية بدأت تشق طريقها نحو الساحات الأكاديمية والعلمية.

 

لكن ما هي أهم نقطة أثبتها كوفييه كدليل ضدّ نظرية التطور؟ خلال دراسته لهيكل الحيوان، نشر كوفييه مؤلفًا عام 1812م بعنوان (خطاب تمهيدي) أثبت فيه أن أي تغيّر طفيف في الكائن الحيّ يستلزم تغيير جميع أجهزة الكائن الحيّ بشكل متوازي، مما يجعل نظرية التطور مستحيلة حيث أن تغيّرًا بسيطًا في جهاز واحد يجعل بقية الأجهزة غير قادرة على البقاء، مما يعني أن معجزة التغير الموازي في كل الأجهزة في نفس الوقت لا تختلف في الحقيقة عن معجزة الخلق الإلهي[6]. وهي الحجّة التي تم تطويرها لاحقًا خصوصًا على يد أستاذ الكيمياء الحيوية مايكل بيهي في كتابه (صندوق داروين الأسود) فيما سُمي بالتعقيد غير القابل للاختزال Irreducible Complexity[7].

 

داروين ابن عصره
مع بدايات القرن التاسع عشر بدأ النظام الكوني يُفهم على أنه نظام مغلق وتطوري يتغير نحو الأرقى كلّما مرّ الزمن، فقد تلقى العلماء الغربيون نظرية الفلكي الفرنسي بيير لابلاس بقبول واسع وبات من المسلّم به أن نظامنا الشمسي كان قديمًا عبارة عن سحابة سديمية من الغبار الكوني والغازات ثمّ تشكّلت عبر آلاف السنوات إلى النجوم والكواكب[8]، والملفت أنه لم يكن هناك ذكر لدور الإله في هذا السيناريو على الإطلاق، بل أن نابليون عندما سأل لابلاس عن سبب عدم الإشارة إلى الإله في نظريته قال له لابلاس: (يا سيدي إنَّ الإله فرضية لم أجد لها ضرورة في عملي هذا!)[9]. شكّل هذا الاعتقاد السائد المقدّمة الضرورية والبيئة الخصبة لاكتمال نظرية التطور في صيغتها العلمية.

 

هذا التحوّل في تصوّر العالم شمل جميع العلماء التجريبيين إذ صاروا يرون العالم كوحدة ميكانيكية تمثّل معملًا عضويًا كبيرًا تتطور فيه المواد والكائنات الحية مع مرور الزمن[10]، وفي سياق هذه الرؤية التطورية للكون ظهرت نظرية تشارلز داروين التي أصبحت منافسًا قويًا بالفعل لسردية الخلق الدينية. لكن تشارلز داروين لم يكن عبقريًا قدر ما كان مجتهدًا، بل أن أحد روّاد علم الأحياء يصفه بأنه كان "متوسط الذكاء"[11]، وعلى أية حال فإنه في الحقيقة لم يكن ثمّة جديد فيما يتعلق بالفكر التطوري وقت ظهور داروين، بل يمكن اعتبار داروين و فكرة الانتخاب الطبيعي ببساطة نتاج عصرهما[12]، حتى أنّ فكرة الانتخاب الطبيعي نفسها كانت مطروحة قبل داروين بواسطة جدّ تشارلز نفسه، إراسموس داروين[13].

 

انقلاب داروين
لكن الشيء المختلف والنقلة النوعية التي أحدثها داروين بالفعل هي صياغته للفكر التطوري في قالب نظرية علمية بدلًا من الاقتراحات المبهمة الرائجة -حينئذٍ- بخصوص آليات التطور[14]، ففي عام 1859م و بعد تردّد كبير، نشر داروين كتابه (أصل الأنواع) الذي حاجج فيه على تطوّر جميع الكائنات الحيّة من خلية بسيطة ازدادت تعقيدًا مع مرور الزمن، لكن داروين لم يكن جريئًا في التصريح بتطور الإنسان، وظهر في الكتاب عدم يقينية داروين في مسألة تطوّر الإنسان خصوصًا أنه لم يتحدث عنها طوال الكتاب، بل أنه حاول تطبيق آلية الانتخاب الطبيعي على الإنسان ولكنه لم يستطع، فدوّن في مذكّراته: (ولكن الإنسان.. الإنسان الرائع. استثناء لذلك)[15].

 (رويترز)
 (رويترز)

لكن بعد فترة من الرصد والنظر اختمرت أفكار داروين فنشر في عام 1871م كتابه (انحدار الإنسان) الذي أكّد فيه على انحدار الإنسان من سلف مشترك مع كائنات حية أخرى، مثله كمثل جميع الأنواع، الفكرة التي عارضها الكثير من العلماء حتى أولئك أكثرهم حماسةً للنظرية، لقد انتقده عالم النبات آسا جراي في هارفارد، وصديق داروين القديم تشارلز ليل، بل أن أقسى نقد وُجه له كان بواسطة صديقه ألفرد والاس الذي شارك داروين في أول ورقة بحثية للتعريف بالانتخاب الطبيعي أصلًا[16]، وهذا النقد الشديد لداروين يرجع إلى أن جوهر الاختلاف بين الخلقين التطوريين لم يكن في الخصائص الجسمانية للإنسان فحسب وإنما في قدراته العقلية والشعورية وحسّه الديني والجمالي ووعيه الذاتي ونحو ذلك، الخصائص التي أرجعها داروين كليةً إلى الانتخاب الطبيعي فحسب دون تفريق بين الإنسان وغيره من الكائنات الحية، مما كان له مآلات خطيرة، كما يوضح ذلك عالم الحفريات بجامعة هارفارد، ستيفن جاي جولد، قائلًا:(إن علم الأحياء الدارويني قد نزع منا منزلة المخلوقات المثالية المصنوعة على نمط الإله)[17].

 

لكن هل طرح داروين نظريته وفقًا للعلوم الحديثة؟ بالطبع لا، إذ أن كثيرًا من الاكتشافات العلمية لم تكن معروفة وكانت الأجواء العلمية حينئذ بدائية بشكل نسبي، فكان ثمّة اعتقاد بأن الخلية مجرد بالون مليء بمادة هلامية، وبأن الحشرات تظهر من بقايا الطعام، بل أن الحمض النووي (DNA) لم يكن معروفًا أصلًا حينذاك[18]، لذلك فإن نظرية داروين ستواجه تحديّات ضخمة كلّما مرّ عليها الزمن مع تعاقب التعقيدات والاكتشافات، وستضطر النظرية إلى التكيف وأحيانًا المراوغة للتوافق والمعطيات الجديدة.

 

بدأت النظرية تأخذ في الانتشار بين الأوساط العلمية يومًا وراء يوم، وأحدثت انقلابًا علميًا هائلًا، وفي خلال خمسين عامًا فقط، استطاعت النظرية أن تكون هي الرؤية السائدة في جُلّ المجتمع العلمي في الغرب. يصف الأحيائي الأسترالي مايكل دانتون الانقلاب الذي أحدثته النظرية قائلًا بأنه (أعمق من الانقلاب الذي تسببت فيه نظريات نيوتن وجاليليو مجتمعة، فانتصار النظرية يعني القضاء على الاعتقاد السائد لمدة ألفيتين كاملتين بأن العالم خُلق بشكل منظم لغاية معينة، فكل التعقيد والنظام والتصميم الموجود في الكون -وفقًا للنظرية- هو محض نتيجة عرَضية لعملية عشوائية عبثية لا وجهة لها ولا هدف)[19]، ويوافقه الأحيائي إرنست ماير حيث يصرّح أن النظرية الداروينية هي ربّما أهم الثورات الفكرية في تاريخ البشرية، لأنها لم تقض على مركزية الإنسان فحسب وإنما أثّرت في كل مفهوم ميتافيزيقي وأخلاقي[20].

 

هل يمكن رصد التطور؟!
يقدّم التطوريون نظرية التطور على أساس أنها حقيقة تجريبية يمكن اختبارها في المعامل البحثية، لكن يبدو أن ذلك مجانبٌ للصواب، فعملية التطور تنقسم إلى قسمين: الأول هو التطور الكبير(Macroevolution) الذي يعني التغيّر في الصفات المورفولوجية والجينية مما يتسبب في الانتقال من نوع إلى نوع آخر، أمَّا التطور الصغير (Microevolution)؛ فهو التغيّر على مستوى النوع الواحد نفسه، كتطوير كائن حي لمقاومة نحو جسم غريب، أو تغيير لونا لجلد، أو تغيير في حجم عضو معين من الجسم، أو نحو ذلك.
قام الباحث التطوري ريتشارد لينسكي، برصد علامات التطور في البكتريا لمدة 20 سنة بتعقب 40,000 جيلًا من البكتيريا، وفي النهاية أقرّ أنه لم يكن هناك تغيّر جين واحد مفيد أو بنّاء طوال هذه المدّة
قام الباحث التطوري ريتشارد لينسكي، برصد علامات التطور في البكتريا لمدة 20 سنة بتعقب 40,000 جيلًا من البكتيريا، وفي النهاية أقرّ أنه لم يكن هناك تغيّر جين واحد مفيد أو بنّاء طوال هذه المدّة

ويبدو أن غياب التفريق بين المصطلحين أمرٌ مقصود في كثيرٍ من الأحيان، فالغموض-كما يرى الباحث هشام عزمي يولد مزيدًا من الغموض، ومع تعريف غامض أو حتى بدون تعريفات محددة يستطيع التطوريون أن يزعموا وجود أدلة على صحة التطور كما يشاؤون دون أي قيود[21].

 

ويرى نيكولاس كومنينلس، الأستاذ بجامعة ميزوري-كنساس، في كتابه (Darwin’s Demise)، أنه من الأخطاء الشائعة في الاستدلال العلمي هو استخدام التكيُّفات الملحوظة في التطور الصغير لافتراض صحة التطور الكبير والانتقال من نوع إلى نوع آخر[22]. فعلى سبيل المثال، قام أحد أشهر المواقع المؤيدة للتطور (Talk origins)بإيراد أكثر من عشرين حالة ادّعى فيها الموقع رصد الانتواع بالفعل (أي الانتقال من نوع إلى نوع)، لكن قام الجيولوجي الأمريكي كيسي لَسكين بفحصها جميعًا، فتبيّن له أن هذه الادّعاءات غير صحيحة على الإطلاق وأنه في الحقيقة ليس هناك حالة واحدة من الحالات المذكورة حدث فيها التطور الكبير الذي يتسبب في ظهور نوع جديد، بل كانت جميع التغيّرات على مستوى النوع الواحد فحسب[23].

 

وفي تجربة ملفتة، قام الباحث التطوري بجامعة ميتشيجن الأمريكية، ريتشارد لينسكي، برصد علامات التطور في البكتريا لمدة 20 سنة بتعقب 40,000 جيلًا من البكتيريا، وفي النهاية أقرّ أنه لم يكن هناك تغيّر جين واحد مفيد أو بنّاء طوال هذه المدّة[24]. ويعلّق أستاذ علم الجراثيم بجامعة بريستول البريطانية آلان كلينتون متسائلًا: (ولكن أين هو الدليل التجريبي؟ لا يوجد ادّعاءٌ في الأدبيات العلمية أن نوعًا من الكائنات الحية قد تطور إلى آخر. البكتريا، وهي أبسط صور الحياة المستقلة، تُعتبر مثالية لهذه الدراسة، فهي تنتج أجيالًا كل 20 إلى 30 دقيقة وتمثل مجاميع كل 18 ساعة. ولكن طوال 150 عامًا من علم الجراثيم، لا يوجد دليلٌ واحد أن نوعًا من البكتيريا قد تغير إلى آخر)[25].

 

نظرية في أزمة: عمليات الإنقاذ لنظرية التطور
undefined

مثل أي نظرية علمية عانت نظرية التطور منذ أشعل شرارتها داروين من عدّة تحدّيات ضخمة هددت صلاحية النظرية بالكامل، فاضطر مناصريها إلى تكييفها وفقًا والمعطيات الجديدة، في كتابه (التطور: نظرية في أزمة) يعرض مايكل دانتون أهم التناقضات والمغالطات العلمية التي وقعت فيها النظرية وكيف استجاب مناصريها لها، أحد أهم عمليات الإنقاذ هذه كانت عقب اكتشاف ما سُمّى بالانفجار الكمبري (Cambrian Explosion)، وهو الظهور المفاجئ لأكثر من 41 شعبة من شعب الحيوانات بشكل فوري منذ حوالي 550 مليون سنة بلا أي سجل أحفوري يسبق هذه المدّة، مما شكّل أزمة عميقة بالنسبة الداروينيين، إذ أن النظرية تفترض ظهور الحيوانات بشكل متدرّج بطئ مما يعني بالضرورة وجود سجل أحفوري متدرّج من الأدنى إلى الأكثر تعقيدًا يتوافق وهذه الرؤية، وهو ما حصل عكسه بالضبط في الانفجار الكامبري

[26].

 

لكن النظرية لم تقف مكتوفة الأيدي، فقد جاء ستيفن جولد في عام 1972م ليطرح آلية جديدة للانتخاب الطبيعي سمّاها بالتوازن المتقطع (Punctuated Equilibrium) ليعطي تفسيرًا تطوريًا للحفريات الجديدة المكتشفة، فاقترح أن الكائنات الحية تمر بفترات استقرار لا تظهر فيها أنواع جديدة، تعقبها فترات تحول عنيف، مما يتسبب في ظهور أنواع جديدة مختلفة بشكل مفاجئ، ليس ذلك فحسب، وإنما طرح جولد كذلك أن السلف المشترك المفترض في نظرية التطور ليس سلفًا واحدًا وإنما عدة أسلاف في الحقيقة[27].

 

لكن هل ذلك يتوافق وأصل نظرية التطور؟ أورد داروين في كتابه (أصل الأنواع) أن الطبيعة كلٌّ مستمر، لا انقطاع فيها ولا فجوات، ولا قفزات[28]، وهي النظرة المتفقة مع الباراديم (التصوّر الذهني) الحتمي العلمي السائد حينئذٍ، الذي آمن فيه العلماء بعمومية قوانين الطبيعة وثبوتها واطّرادها، بلا تخلف ولا مصادفة[29]، لكن سواء تغيّر هذا البارادايم أم بقي، إلا أن هذه الفكرة -تقطّع التطوّر- رفضها داروين تحديدًا بشكل قاطع، لأن القول بأن التغيّرات -والكلام لداروين- تحدث بشكل متواتر ومستمر هو قول يحتوي في الحقيقة على معجزة[30]. فالسؤال هنا: ما قيمة استبعاد معجزة الخلق الإلهي إذا تم استبدالها بمعجزة التطوّر المتقطع؟

المصدر : الجزيرة