شعار قسم ميدان

هل تغيّب الدعاية وعي الشعوب؟ إعلان زين نموذجا

ميدان - إعلان زين
بينت نظرية المسؤولية الاجتماعية أن الإعلام طريقٌ أخلاقيّ يُسلك لنشر المشترك القيمي الإنساني، ونشر الوعي بالقضايا الساخنة بطريقة أمينةٍ مسؤولة وصادقة قبل كل شيء، حيث رأى أصحاب النظرية أن العمل الإعلامي حق وواجب ومسؤولية في ذات الوقت، إذ يلتزم تجاه المجتمع بدور قيمي يُبنى على المسؤولية الاجتماعية التي تلتزم بمعايير مهنية قائمة على الصدق والدقة1.

 

وفي الوقت الذي  انفجرت فيه لحظات تاريخية في زماننا هذا كان الإعلام الأداة المُثلى التي ساعدت المستضعفين والمظلومين في إيصال أصواتهم للعالم أجمع، كما ساعدتهم هم على فهم أنفسهم وتفكيك كثيرٍ من القضايا الشائكة التي داهمتهم على حينِ غرّةٍ ودونَ سابقِ تحصينٍ فكريٍّ بفعل الطغيان الذي لا يترعرعُ إلا في بيئة الجهل والفساد، وكانت السبيل الأكبر في تعرية المستبدين والطغاة وتبيان كذبهم البواح وتلاعبهم الممتد بمصير الشعوب بلا مبالاة ولا مسؤولية، فكانت ثورات الربيع العربي القصعة التي تداعى عليه القوم الخائفون على مناصبهم فجيّشوا لها إعلامًا مضادًّا متجاوزًا ميثاق أخلاقيات المهنة مستخدمًا الوثائقَ نفسها؛ وثائقَ المظلومين وصورهم وبياناتِهم وجرحهم الراعف ودمعتهم النازفة ليبدؤوا بتشويه الواقع وقلب الوقائع وتزوير الحقائق والتدليس على الناس، ضاربين بعرض الحائط أدنى القيم الإنسانية والأخلاق المهنية التي يتوجب عليها أن تُعلي صوت الضحيّة لردع القاتل الواضح، وتنقلَ الحقيقةَ كما هيَ لا كما يحبّ ويريدُ أباطرة السياسة أن تكون، أو تخشع أمام دم الأطفال المهيب.

 

من البُعد الاقتصادي إلى تشويه الوعي

ترتكز الإعلانات عمومًا على إمبريالية نفسية لا ترى الإنسان إلا من بُعْدٍ اقتصادي جنسي؛ حيث تقوم الإمبريالية النفسية من خلال الإعلان بترويج صورة الإنسان الاقتصادي الجسماني، وهذا يتضح بجلاء في الإعلانات التليفزيونية؛ فهدفُ الإعلان التليفزيوني اقتصاديٌّ استهلاكيٌّ -بيع سلعة ما-.

 

 

لكن هناك إعلانات تحاول أن تَدخل للمستهلك من مدخل آخر؛ كاستخدام قيم مثل الترابط العائلي ولكنها توظفها في تصعيد الاستهلاك، كأن يدعوك الإعلان للحديث مع والدتك من خلال شركة كذا للتليفونات، أو تذكرك بشراء هدية لها من المحل الفلاني وبالتقسيط المريح.

 

والمهم هنا هو توظيف القيمة الإنسانية والأخلاقية من أجل الاستهلاك، والهدف من هذا الهجوم الإعلامي هو إشاعة النموذج الاستهلاكي لتطويع الجماهير وتدجينهم وتنميطهم، بحيث يجد الإنسان العادي -وغير العادي- نفسه مستبطنًا لفكرة أن السعادة لن تتحقق إلا عن طريق الاستهلاك والمزيد من الاستهلاك، فيتوحد تماما بالسلعة ويصبح إنسانا "متسلِّعا" ذا بُعْدٍ واحدٍ غارقًا تمامًا في السلعة والمادة، وفي حالة غيبوبة إنسانية كاملة.

 

وإن ضحايا الاستغلال في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة ليسوا العمال والفلاحين، وإنما هم المستهلكون من أي طبقة، ولعل هذا يظهر في الاستغلال البشع للطفولة، إذ تتوجه لهم الإعلانات مباشرة، وبذا تتخطى الآباء والأمهات ومنظوماتهم الأخلاقية بل حتى دخلهم المالي2.

 

وبالفعل فمع تقادم الزمن وازدياد السُّعار الاستهلاكي للإنسان العربي، ارتفعت وتيرة الضخّ الإعلاني والإعلامي لتُحاكي هذا التطورات في الإنسان العربي وفي المعطيات المحيطة به.

 

اختلفت مواقف وسائل الإعلام من الثورات فمنها مَن وقف مع الشعوب وساهم في إيصال صوتها للعالم، ومنها مَن انحاز للأنظمة المستبدة

 

ومع موجة ثورات الربيع العربي التي اجتاحت بعض البلاد أخذت وسائل الإعلام المختلفة مواقف عدة ضمن اصطفافات ومحاور سياسيّة إقليميّة ودوليّة؛ فمنها مَن وقف مع الشعوب وساهم في إيصال صوتها للعالم، ومنها مَن انحاز للأنظمة المستبدة وبدأ يُنافح عنها ويشرعن قتلها لشعوبها، فبدأت معركة وعيٍ تنشب يريد كلٌّ أن يحشد لها ويقود دفّتها للتأثير على العقل الجمعي للشعوب، فمنهم من يريد أن تستمرّ الثورات المطالبة بالحرية والعدالة والكرامة وتحقق مطالبها، ومنهم من يبتغي إجهاضها والتعمية على حقيقة ما يجري.

 

وفي سبيل هذا بدأ الإعلام يوسعّ أدواته في معركة الوعي لتطال المسلسلات القائمة على التشويه والتزوير، والبرامج الإعلامية، والإعلانات التجارية التي هي في الأصل تنظر إلى الإنسان على أنه بعد اقتصادي جنسي، لتراهُ ببُعد جديدٍ وهو بُعدٌ عقليٌّ يجب استمالة وعيه والهيمنة عليه.

 

ومثال ذلك ما كان أخيرًا من إعلان مُغنَّى لشركة زين للاتصالات:

"اعبد ربك حبًّا لا رعبًا، كن في دينك سهلًا لا صعبًا، خالف ندك سلمًا لا حربًا، اقنع غيرك لينًا لا غصبًا"

 

غنّاها حسين الجسمي مع بداية رمضان 2017 في إعلان تجاريّ لشركة زين الكويتية للاتصالات كما أشرنا، ومدته ثلاث دقائق تقريبًا يتحدث عن ارتكاب المتطرفين جرائم إرهابية تحت مظلة الإسلام، الفيديو يحوي إيحاءات ودلالات مكثّفة يشي بها لباس المشاركين وأسماؤهم، ولكن أهم وأوضح ما كان في الإعلان هو استخدامه لصورةٍ من أشهرِ صور ضحايا النظام السوري والروسي على حلب وهي صورة الطفل السوري عمران  دقنيش التي تصدّرت يومَ ظهورها الإعلام العربي والعالمي وأحدثت ضجة وتعاطفًا كبيرًا، وقد سأل ميدان محمود رسلان  مصور هذا الطفل عن صحة وجود الطفل عمران ضمن السردية التي أظهرها الإعلان فقال "إن الإعلان أظهر الإعلانُ عمران ضحيةً من ضحايا الإرهاب الإسلامي المتطرف أولًا، ثمّ لم يذكر مستهدفَ الطفل الحقيقي ثانيًا، ففك بذلك ارتباط الضحية بقاتلها وعزل الجريمة عن سياقها الصحيح، وتساوقَ هذا مع رواية النظام السوري الذي حمّل ما يصفها بالجماعات الإرهابية مسؤولية ما يحل بالمدنيين من جرائم، والإعلان في مجمله أغفل فعل الأنظمة المستبدة بشعوبها وقتلها الممنهج لهم وإخماد أصواتهم المطالبة بالعدالة والحرية والكرامة".

 

والمفارقة أن أغنية الإعلان تدعو إلى اللين والسلم والحب والسهولة، وتغفل أهمية الصدق والأخلاق والوضوح.

 

  إعلان زين

 

التحول البنيوي "للمجال العام"

أوجد الفيلسوف الألماني المعاصر هابرماس مصطلح "الفضاء العام" في كتابه التحوّل البنيوي إلى المجال العام، هذا المفهوم يصف المجال التصوري الذي قد تنشأ به جدالات ديمقراطية عامة، وهو المجال الذي يتشكّل خلاله "رأي عام" جماعي وتتكون مصالح جماعية، ويتعامل فيه الأفراد بوصفهم كائنات اجتماعية؛ فيناقشون قضايا المجتمع ويشاركون في توجيهه الديمقراطية التي تسمح للجميع بالتعبير عن رأيه، وههنا يتقلّص دور الإعلام بوصفه الفاعل الوحد المؤثر على الوعي المرئي3؛ فيشير هابرماس إلى المساحة الواقعة بين "العام" الممثل بالمؤسسات الاجتماعية و"الخاص" المتمثل الفرد أو الأسرة، وفي هذه المساحة يُجترح الخطاب العام ويتشكل الرأي العام كذلك.

 

بالفعل فإن هذا الفضاء التواصلي العام فرض على الوسائل الإعلامية الرضوخ للمساءلة والنقد، وتمحيص كل ما تبثّه وإخضاعه للمناقشة والجدل دون تسليمٍ كما كان سابقًا

وبعض قضايا المجتمع تتطلّب جدلاً سياسياً أو اجتماعياً يتشارك فيه ويتداخل العام والخاص، بما يؤدي إلى تشكيل رأي عام في المجتمع نحو تلك القضية، وفي خضم هذا الجدل يصبح معيار الشرعية في القضايا هو المنطق والعقل والتبرير لا السلطة، فيتراخى دور السلطة أمام تنامي وتطور الجدل العام في موضوعات النقاش المجتمعي4.

 

ومن أجل صياغة مفهومه للفاعلية التواصلية وللمجال العمومي الحديث، اضطر هابرماس إلى إعادة النظر في مسألة الحقيقة، إذ لم تعد الحقيقة معطى جوهريًّا سابقًا على الوجود الإنساني، إنما هي نتاج لعملية تبادل البراهين والحجج، وهي بذلك تتويج لاتفاق ذي طبيعة اجتماعية، وهذا ما يسميه هابرماس بـ"النظرية الإجماعية للحقيقة"، حيث تغدو الحقيقة نتاجًا للتداول العمومي والنقاش العام، والإجماع الذي ينتج عن هذا التداول، ومن هنا يدعو هابرماس إلى التواضع في الإعلان عن الموقف، لأن ذلك من شروط الحوار، والاعتراف بإمكان الوقوع في الخطأ مبدأ من مبادئ النقاش العمومي، فلا شيء معفي من السؤال والنقد والمناقشة، وكل الموضوعات إنما تكتسب شرعيتها من خلال المناقشات العمومية التي تتيح الوصول إلى الحقيقة الإجماعية5.

 

وبالفعل فإن هذا الفضاء التواصلي العام فرض على الوسائل الإعلامية الرضوخ للمساءلة والنقد، وتمحيص كل ما تبثّه وإخضاعه للمناقشة والجدل دون تسليمٍ كما كان سابقًا، والجدل في هذا الفضاء العام يكون في ظل ديمقراطية وانعدام رقابة ونخبوية في الحديث؛ فالإنترنت دعّم مفهوم دمقرطة وسائل الإنتاج الإعلامي ويُسر فكرة المشاركة بين مجموعة من الأفراد في مساحة تتيح لهم تبادي الرأي والمعلومات حول القضايا الخلافية6.

 

وبالعودة إلى الإعلان التجاري لشركة زين، نجد أنه سرعان ما ضجَّ ناشطون سوريون وعرب على محتوى الإعلان، وأطلقوا هاشتاغ #زين_تشوه_الحقيقة على وسائل التواصل الاجتماعي، ولقي تفاعلًا جماهيريًّا واسعًا، وظهر إثرها مصوّر الطّفل ومسعفه بمقاطع فيديو تحدثوا بها عن الحقيقة ولقيت الفيديوهات تفاعلًا كبيرًا من الجمهور.

 

  

 

 

فدعا الناشطون الشركة إلى سحب إعلانها والاعتذار من الضحايا. وطالب آخرون شركة زين بسحب إعلانها والاعتذار من إساءتها للضحايا، بل بادر بعض مستخدمي خط "زين" إلى كسر الشريحة واستبدالها، ودعوا إلى ذلك، الأمر الذي لفت صحفًا عالمية وكتبت عنه7.

 

وبهذا نجد فعلًا أنَّ دور وسائل الإعلام التقليدية كالتلفزيون مثلًا قد قلَّ تأثيره في ظلِّ الديمقراطية الحديثة، وأنه لم يعد قادرًا على النجاة من أي تلاعب بالحقائق.

 

مصوّر الطفل عمران

ومن حملات روّاد "الفضاء العام" كان أن خرج المصور محمود رسلان مصوّر الطفل عمران في حلب بمقطع مسجّل وبيّن فيه أن الثورة السورية ضد الإرهاب المتطرف وهي أكثر مَن عانى منه، وأنه كغيره من أبناء الثورة لا يقبل أن يُغفل اسم القاتل الحقيقي لأطفال الشعب السوري.

 

وتحدّث المصور محمود لميدان عن شعوره بالخزي من وسائل إعلامية تقوم باستغلال صورة الطفل الضحية في إعلانات تجارية، ولا تصرح باسم القاتل بل تعمد إلى تشويش الحقيقة، ويضيف إن هذا ليس تشويشًا فقط بل هو شراكة بالإجرام مع بشار الأسد والروس وإلا فما معنى أن يظهر عمران وكأنه قتل من قبل المتطرفين من دون الإشارة إلى القاتل الأسد وميليشياته والروس؟

 

وروى محمود لميدان تفاصيل  ليلة  تصوير عمران وما كان بها من جرائم حرب يرتكبها نظام الأسد والروس، حيث استمر القصف على منطقة حلب يومها عدة ساعات مخلّفًا عددًا من الشهداء، وبالتزامن سقط صاروخان  الأول على منطقة الميسر والصاروخ الثاني على القاطرجي حيث كان محمود أول الواصلين كان في القرطاجي عمران وعائلته واستشهد أخو عمران علي 10 سنوات، ويقول محمود: كنّا حينها نترنّح بين التوثيق ومساعدة الدفاع المدني في إسعاف المصابين والجرحى، واستطعنا إنقاذ عمران عن طريق إخراجه من بيته من الشرفات بسبب تحطم درج العمارة التي هو فيها .. كانت ليلة متعبة من كثرة الجرحى والشهداء.

 

  مصوّر الطفل عمران يتحدّث عن تشويه الحقائق العلني في إعلان زين

 

وعن مشاعره إذ تصدّرت صورة عمران الصحف العربية والعالمية حدّثنا محمود:

 لا يوجد في سوريا عمران واحد إنما آلاف ممن هم مثله أو مصابهم أكبر منه، وحز في نفسي أن مئات الأطفال ضحايا ومثلهم مصابين لكن لم تتصدر إلا صورة واحدة والأرشيف مليء بصور الأطفال، لكن المهم أن شيئًا وصل للإعلام الغربي وأشعر العالم ولو قليلًا أنَّ الموت يصيبنا ظلمًا، وكنت أرجو أن تكون الصورة سببًا في إيصال صور أخرى تفضح جرائم الأسد وتكف الظلم والقصف عنا.

 

وفي تعريج على دور الإعلام والإعلاميين في حلب بين محمود أن الإعلام والإعلاميين داخل حلب لعبوا  دورًا مهمًّا في توثيق كل لحظة من الإجرام والإحصار داخلها لكننا كنا نعاني من تلقّي العالم الخارجي لتغطية الحدث ، لولا بعض الصور التي اشتهرت كصورة عمران وجذبت النظر الغربي إلى المأساة فخصص وقتًا لنقل جزء من معاناتنا وقوفًا جزئيًّا مع الثورة ضد القصف الروسي وقصف نظام الأسد، فلولا الإعلام ربما لكنا قُتلنا من دون أن يسمع بنا أحد، لكننا آثرنا الخطر في سبيل إيصال صوتنا؛ فالإعلامي في المناطق الساخنة هو إعلامي حربي يحيطه مخاطر تتمثل بالقصف القنص؛ مخاطر لا تختلف عن تلك المحيطة بأي مقاتل بوصفه واقفًا على خط النزاع، إلا أن دور الإعلامي دور إنساني ومهمته إيصال الصورة وتوثيق الجرائم وبعض الإعلاميين من أصحابنا بُترت أطرافهم وأصيبوا إصابات بالغة ولم يمنعهم هذا عن مواصلة العمل الإعلامي.

 

وما بين المسؤولية الاجتماعية وتسليع الإنسان تقف وسائل الإعلام على المحك بين ارتباطها بقضايا الشعوب ومصيرها وبين تمرير رسائل لا تضيف للواقع إلا مزيدا من التضليل..

المصدر : الجزيرة