شعار قسم ميدان

القهر الاجتماعي.. لماذا يصبح الإنسان كائنا عنيفا؟

midan - violence

في (يوليو/تموز) من عام 1961م بجامعة ييل (Yale)، أجرى عالم النفس الاجتماعي ستانلي ميلغرام تجربة نفسية اجتماعية لقياس مدى انصياع الإنسان للعنف وفق توجيهات الآخر، بهدف قياس الاستعداد البشري لإطاعة سلطة تأمر بسلوك عنيف تجاه الغير. فأعلن عن تجربته، ولكنّه لم يُعلن الغرض الحقيقي منها، فأخبر المشاركين أن الدراسة تقيس-فقط- العلاقة بين العنف وأثره على التعليم والذاكرة.

 

تبدأ التجربة بتقسيم المشاركين إلى (أ) و(ب)، على أن يؤدّي الأول دور المُعلِّم ويقوم الثاني بدور التلميذ، ثم يسأل (أ)، فإن أخطأ (ب) الإجابة يصعقه (أ) بالكهرباء، على أن تزيد شدة التيار في كل مرة عن سابقتها، وهكذا. ورغم أن (ب) كان متواطئا مع البروفيسور ولم يكن يعاني في الحقيقة من الصعقات المُوجهة له فإن النتائج كانت أكثر من مفاجئة.

 

بالرغم من أن 3% فقط -وفقا للاستبيان النظري- قد أظهروا استعدادا لبلوغ الحد الأقصـى من شدة التيار لصعق (ب) فإن الثلثين قد وصلوا بالفعل لهذا الحد، خاصة بعدما أُخبِروا بأنهم لن يتحملوا المسؤولية القانونية لما يحدث.

 

 

ويعلّق ميلغرام على هذه النتيجة قائلا: "النتائج كما تابعتها في المختبر مقلقة، إنها ترجح أن الطبيعة البشريـة غير جديرة بالاعتماد عليها لتبعد الإنسان عن القسوة، والمعاملة اللاإنسانية"(1)فرغم الهدف الأساسي للتجربة -الذي أعلنه ميلغرام لاحقا- فإنها كانت تهدف أيضا لقياس كمية التعذيب الممكن إنزالها بشخص بريء تماما من قِبل شخص آخر حينما تتهيأ له الظروف، وهذا هو الشاهد من الأمر.

 

وسواء أكانت هذه الظروف سلطة تأمره، أو مساحة من التسيّب وغياب العدالة، أو غير ذلك، فإن التجربة أظهرت على هامشها سؤالا مهما: ما السبب الحقيقي الذي يجعل الإنسان، أو المجموعة من البشر يتجهون للعنف؟ وما السلطة التي تدفعهم لذاك؟

 

العنف.. ما هو؟
يعرّف بيار فيو العُنف على أنه حالة من الضغط المادي أو المعنوي، ذات طابع فردي أو جماعي، ينزلها الإنسان بالإنسان فيما يتعلّق باستلاب حق من حقوقه الأساسية(2). أو هو السلوك العدائي الذي يمارسه الفرد أو الجماعة تجاه فرد أو جماعة آخريْن بما يتسبّب في حالة من الضـرر الجسدي أو الجنسـي أو المعنوي للمُعتدى عليه(3). أو من جهة أخرى، فهو النقيض الدلالي للرفق واللين، أو الشدة والقسوة اللتان تتجليان في استخدام القوة(4).

 

ومن الجدل الدائر حول ماهية العنف وأسبابه الحقيقية وتعدد الأُطر المعرفية التي تتناوله بالشـرح والتحليل، يبرز السؤال الفلسفي المُثار حوله: هل العنف حقا ظاهرة متأصّلة في الإنسان؟ أم أنه حالة طارئة على المسار البشري؟

 

الإنسان والعنف.. العنف في التفسير النفسي
يرى العلماء الذين يعزون سبب العنف ودوافعه داخل الإنسان إلى أن العنف محصلة متعلمة، أن العنف مُحصَلة لما يتعلمه الطفل من القدوة الاجتماعية المتمثلة في الأب والأم
يرى العلماء الذين يعزون سبب العنف ودوافعه داخل الإنسان إلى أن العنف محصلة متعلمة، أن العنف مُحصَلة لما يتعلمه الطفل من القدوة الاجتماعية المتمثلة في الأب والأم
  
يتعامل علم النفس مع العنف بتعريف أكثر حيادية وتخصصية، ألا وهو العدوانية، فعلماء النفس يرون أن لفظة العنف تتعلق أكثر بالمجال السياسي والاجتماعي منها بالمجال النفسـي. وعليه، فقد تعددت المدارس السيكولوجية التي تفسّـر هذا المفهوم وتحلل دوافعه الدفينة داخل الإنسان وفقا للأسباب التالية:

 

العنف كمحصّلة متعلّمة:

ويرى أصحاب هذه المدرسة -وعلى رأسهم ألبرت باندورا- أن العنف مُحصَلة لما يتعلمه الطفل من القدوة الاجتماعية المتمثلة في الأب والأم على سبيل المثال، وهو السلوك الذي يعززه بلوغ القدوة الاجتماعية لرغبته نتيجة لممارسته العنيفة. الأمر الذي ينمّي في الطفل خبرة تجاه العنف وما له من فائدة في إدراك المطلوب، خصوصا مع طغيان العقاب الجسدي كوسيلة للعقاب من والديه أو أحدهما، وهو ما يكوّن تصوراته عن مدى فاعلية العنف وفائدته(5).

 

نظرية التحليل النفسي:

حسب فرويد فإن العنف هو التواصل المادي بين الطاقة النفسية للشخص والعالم المحيط، وهو ما يحدث نتيجة لعدم إشباع دوافع اللذة (الليبدو)، فيقود إلى تراكم طاقة نفسية في اللاوعي تخرج منه بشكل عنيف وهدّام، وهو الأمر الذي يزيد كلما احتوى حاجز الأنا الأعلى (القيم الحاكمة) للفرد على تصدّعات أخلاقية نتيجة المسيرة التربوية، أو أثناء بناء الشخصية في مرحلة الطفولة والمراهقة. فالعنف -وفق التحليل النفسـي لفرويد- نابع من كبت داخلي لم يخرج بالصورة التي تُفرّغ النفس منه، فيتصوّر على هيئة عدوان(6).

 

نظرية الإحباط والفشل:

رؤية سيكولوجية أخرى للعنف، أو العدوانية، تظهر من وراء ما يسببه الإحباط للإنسان من كبت. "والكبت، من وجهة نظر التحليل النفسـي، لا يعني الإقصاء التام للرغبات التي تم الحرمان منها، فالرغبات المكبوتة تبقى حيوية، وتكون خلف الكثير من أنماط السلوك وردود الفعل"(7)وهو الأمر الذي لا ينعكس بدوره فقط على مسببات هذا الإحباط، بل قد يخرج في أغلب الأحيان ضد كبش فداء أو يرتد إلى الذات بالانطواء أو بإيذاء النفس، وهو ما يُعرف بآلية التأجيل والسحب(8).

  undefined

 

وتكمن خطورة النزعة العدوانية هنا في المجالين النفسـي والاجتماعي، فقد يجنح الإنسان لإيذاء نفسه -كما ذُكِر- أو لإيذاء الغير بإخراج هذا الكمّ من العنف في الإطار المجتمعي، وهو ما قد يدفعه للاندماج مع جماعات ترعى العنف وتؤطّره داخل إطارها الجماعي وفق دوافع أيدولوجية مختلفة، مما يؤثّر على تطوّر السلوك العدواني عند الإنسان، "فقد يكون الفرد مترددا في الممارسات العدوانية إذا كان منعزلا، ولكنّه لا يتردد في ذلك عندما يتواجد وسط مجموعة تشجع على هذه الممارسات وفق أفكار مختلفة"(9) كجماعات البلاك بلوك التي بدأت في ألمانيا أو الجماعات المتطرفة اجتماعيا وما شابه، وهو الأمر الذي يضيف للعنف بُعدا اجتماعيا لا ينفصل عن البُعد النفسي.

 

العنف في التفسير الاجتماعي
على خلاف علم النفس، ينظر علم الاجتماع للمفاهيم بدون وجود فكرة مُسبّقة عن الطبيعة الإنسانية المُوحّدة، فالأمر تحكمه النسبيات بشكل أوسع، فما يعدّه مجتمع عنفا قد لا تعتبره ثقافة مجتمع آخر كذلك. فمثلا، شـريعة الأضحية في المجتمعات المسلمة قد تحتج عليها مجتمعات أخرى لا تؤمن بنفس المنظومة الفكرية والقيمية التي تحيط بالمجتمع المسلم، وهكذا(10).

 

هذا عن تعريف العنف في النظرة السوسيولوجية، أما عن أسبابه، فالعنف الاجتماعي يُعتبر فعلا مزدوجا يتمثّل في عنف يمارسه المجتمع على أفراده للقبول بمنظومته الفكرية، وعنف مماثل كردّ فعل متمرد ضدّ النوع الأول(11)، كالعنف الذي مارسته فئة مجتمعية على شباب الربيع العربي لخروجهم عن منظومة الاستقرار، والتمرّد الذي أحدثه هؤلاء الشباب في الربيع العربي ذاته، وهو التمرد الذي نجمل أسبابه في التالي:

 

القهر الاجتماعي:

وهو ما يحدث نتيجة للقهر الذي تمارسه السلطة على الفرد، وعدم تكافؤ الفُرص في مجتمعه وعدم الحصول على حقوقه كأحد أفراد هذا المجتمع، "وقد أثبتت التجربة أن البلاد التي تخيم عليها نُظم ديكتاتورية أكثر عُرضة للحروب الأهلية والنزاعات الدموية بشكل يفوق غيرها من البلدان التي تتمتع بمناخ اجتماعي ديموقراطي، كما حدث في إيران والعراق ولبنان والجزائر وما يحدث في سوريا مؤخرا"(12).

  

يرى ماركس أن العنف في المجتمع قائم على الفجوة الاقتصادية، وكذا غياب العدالة السلطوية، ما يلجأ بالأفراد للتصدّي لتحقيق العدالة -من منظورهم- بشكل فردي بعيدا عن سلطة الدولة أو القانون
يرى ماركس أن العنف في المجتمع قائم على الفجوة الاقتصادية، وكذا غياب العدالة السلطوية، ما يلجأ بالأفراد للتصدّي لتحقيق العدالة -من منظورهم- بشكل فردي بعيدا عن سلطة الدولة أو القانون
  

الإحباط:

وهو ما تعانيه المجتمعات العربية من فصام بين إيجاد نموذج سياسي اجتماعي يحفظ لها تراثها التي قامت عليه من جهة، ولا يعيق تقدّمها ومسايرتها للعالم الحديث من الجهة الأخرى. الأمر الذي أحدث حالة من الإحباط العام لدى الشباب مع ملاحظتهم لهذا الفشل من قِبل الساسة في إيجاد النموذج الذي سيحقق لهم الاتزان، بما في ذلك من أثر سلبي والرغبة في التمرّد عليه(13).

 

الطبقية وغياب العدالة:

وهو ما يحدث نتيجة الفقر المادي لطبقة واسعة مع تعذّر وسائل الإشباع لهم من قِبل المجتمع، ما يدفعهم لتبنّي العنف كحلّ وحيد للكفاف، وهو أقرب شيء لتصور ماركس عن العنف القائم على الفجوة الاقتصادية، وكذا غياب العدالة السلطوية في بعض المجتمعات، ما يلجأ بالأفراد للتصدّي لتحقيق العدالة -من منظورهم- بشكل فردي بعيدا عن سلطة الدولة أو القانون(14).

 

العنف والسلطة.. العنف الرمزي عند بورديو
في كتابِه عن العُنف الرمزي، ينتقد بيير بورديو التصور الماركسـي للعنف الاجتماعي كونه ناشئا -فقط- عن أسباب اقتصادية خالصة، ويذهب إلى أن نوعا خفيا من العنف تمارسه الفئة المهيمنة ولكن عبر أساليب مختلفة.

 

هذا العنف يُعرّفه بورديو بأنه ذلك النوع غير الفيزيائي، الهادئ، المُقنّع وغير المرئي، الذي تمرّره السلطة عبر المؤسسات التربوية أو الخطابية والإعلامية لفرض أيدولوجيا معيّنة تتبناها الدولة أو الطبقة المُهيمنة، وهو الأمر الذي يتمّ باتفاق خفي بين من يمارسون هذا النوع من العُنف ومَن يُمارس عليهم، عبر علاقات الاتصال التي تجمعهم بأساليبها المختلفة(15).

 

النظام التعليمي والتربية: المدرسة كآلية لممارسة العنف الرمزي:

إن المدرسة الحداثية عند بورديو ليست أكثر من آلة للسلطة من أجل إخضاع مواطنيها لأجل ما تتبناه الطبقة الرأسمالية السائدة
إن المدرسة الحداثية عند بورديو ليست أكثر من آلة للسلطة من أجل إخضاع مواطنيها لأجل ما تتبناه الطبقة الرأسمالية السائدة
  

يقول بورديو إن وظيفة المدرسة الأساسية -المُفترضة- هي خلق القدرة على السؤال والبحث، لكن ما تمارسه المدرسة بشكل فعلي في المجتمعات هو إعادة إنتاج للأجيال -المُمارس في حقها عنف السلطة الرمزي- دون أي تجديد في ذلك(16) بغرض الإبقاء على النظام الاجتماعي في صورتِه التي تختارها السلطة، وإبقاء الطبقات الدُنيا في حالة خضوع مستمر للطبقات المُهيمنة، فما تتبناه المدرسة من سلوكيات ومفاهيم يُعبّر دائما عن أيدولوجيات الطبقة المهيمنة، وهو ما يتجلّى مثلا في خجل القروي من لهجته القروية والنظر لها على أنها رمز للرجعية على عكس ما تُمثّله اللهجة المدنية، أو تصوّر المرء للحقائق التاريخية والأفكار والسلوكيات وفق المذكور في كتاب المدرسة قبل أي شيء آخر، وهو ما تساعد فيه الأسرة حين تصنع من التعليم المدرسي المركزية الأولى عند الابن، فالمدرسة الحداثية عند بورديو ليست أكثر من آلة للسلطة من أجل إخضاع مواطنيها لأجل ما تتبناه الطبقة الرأسمالية السائدة(17).

 

سلطة الكلمات: اللغة كأداة للهيمنة والعنف الرمزي:

بالإضافة لما يراه عالم اللسانيات الاجتماعي فرديناند دي سوسير من أن الكلمة تستمد قوّتها من الباطن الذي تخرج منه، فإن بورديو يرى أن سُلطة اللغة تُكتسب أيضا من الخارج عن طريق سُلطة المسؤول الذي يستعملها في الخطابات والتصاريح، "فإن أقصـى ما تفعله اللغة هو أنها تمثل هذه السلطة وتظهرها وترمز إليها"(18). فالخطاب السلطوي عنده أداة عنف رمزي تمارس سيطرتها على الأذهان عن طريق شخص مُضلِّل عُهِد إليه بالتكلّم لما له من مكانة اجتماعية أو سلطوية ليحقق الهدف المرجو للسُلطة(19).

 

وسائل الإعلام: التلفزيون كأداة للهيمنة والعنف الرمزي:

يقول باولو فريري: إن الإعلام أداة للقهر تستخدم لتضليل عقول البشـر، كما إنه إحدى الأدوات التي تسعى النخبة من خلالها لتطويع الجماهير من أجل أهدافها الخاصة(20). فالمؤسسة الإعلامية، كما يقول هاربيرت شيللر تتلاعب بالعقول عن طريق تنقيح الصور والمعلومات وإحكام السيطرة عليها بالتركيز على خبر لتمرير خبر آخر أكثر خطورة دون اهتمام(21)، كتصدّر خبر انفصال ممثل هوليوودي وزميلته للشاشة الإخبارية، ومرور خبر مقتل عشـرات الأطفال السوريين في الشـريط الهامشـي بالأسفل.

 

ذلك العنف الذي تمارسه الأداة الإعلامية كنوع من سياسة العقول وإخضاعها -كما قال شيللر- يعتبره بورديو أخطر أنواع العنف لأنه يمر دون وعي ممن يُمارس ضدهم وبالتالي بلا مقاومة، فهو أداة للعنف الرمزي من السلطة تجاه المجتمع، ومن المجتمع نفسه تجاه الأشخاص والأفكار التي يحفّزهم الإعلام ضدها. فالعنف الرمزي عنده ليس أكثر من أداة سلطوية لتمرير أشكال النفوذ والسيطرة الأخرى وصنع حالة من التقبل النفسـي لها عند مواطنيها، وشرعنة ما تتبناه من العنف المادي عن طريق وسائل التربية والإعلام.

 

العنف والدولة.. من العنف المقدس إلى العنف المشروع
الدولة حين تمارس العنف لأجل القانون فإنها بذلك تحتفظ بشـرعيتها المستمدة من القانون أمام مواطنيها، لكن عندما يحدث العكس فإنها تتعامل بالقانون الذي يخدم الديكتاتور (رويترز)
الدولة حين تمارس العنف لأجل القانون فإنها بذلك تحتفظ بشـرعيتها المستمدة من القانون أمام مواطنيها، لكن عندما يحدث العكس فإنها تتعامل بالقانون الذي يخدم الديكتاتور (رويترز)
 
كأحد التجلّيات لعلاقة السلطة بالعنف يظهر مصطلح العنف المقدس وتطوره إلى العنف المشـروع كمشهد آخر في مسـرحية العنف عبر التاريخ، ويُعرّف العنف المُقدس بأنه العنف القائم باسم الإله، كالحروب الدينية المختلفة عبر التاريخ(22).

 

هذا العنف المقدس ما لبث أن استبدلته آلة الحداثة بالعنف في سبيل القانون، فهي التي تمارسه وتؤطّره وتحظر على غيرها استعماله، وفي المقابل يتنازل الإنسان للدولة عن هذه الممارسة ممتثلا لإرادتها ما دامت تحافظ له على السِلم الاجتماعي. فيصبح العنف المُبرر هنا في منظومة الدولة هو ما يتم بواسطة المؤسسات القانونية، أو كما يؤكد ماكس فيبر أن حيازة الدولة لكل أشكال العنف يتطابق في الأصل مع طابعها القانوني، وأن من أكبر مهمات الدولة الحد من العنف والسعي إلى إلغائه وذلك باستخدام العنف نفسه(23).

 

غير أن سؤالا محوريا يظهر هنا، وهو: هل من يمارس العنف هو قانون الدولة أم دولة القانون؟ فالدولة حين تمارس العنف لأجل القانون فإنها بذلك تحتفظ بشـرعيتها المستمدة من القانون أمام مواطنيها، لكن عندما يحدث العكس فإنها تتعامل بالقانون الذي يخدم الديكتاتور وهنا يخرج العنف عن شرعيته ويصبح ممارسة قمعية قهرية وأداة في يد السلطة لتطويع الشعب(24).

 

العنف عبارة عن حلقات متصلة من الأكبر للأصغر ومن الذاتي للموضوعي، فهذا الذي تمارسه الدولة بصورة مادية سيحتاج عنفا معنويا -أو رمزيا- لتأسيسه، وهو ما يرتبط في النهاية بتشكيل ضغط سلطوي يدفع للتمرد المجتمعي عليه
العنف عبارة عن حلقات متصلة من الأكبر للأصغر ومن الذاتي للموضوعي، فهذا الذي تمارسه الدولة بصورة مادية سيحتاج عنفا معنويا -أو رمزيا- لتأسيسه، وهو ما يرتبط في النهاية بتشكيل ضغط سلطوي يدفع للتمرد المجتمعي عليه
 

والدولة هنا تقوم بممارسة مزدوجة للعنف، فهي تدّعي مشـروعيته وحفظ أمن الفرد، ولكنها في الحقيقة تُلقي به في التهلكة من خلال الحرب التي لا تخدم سوى مصالح السلطة، أو من خلال القمع الذي يدّعي حفظ الوحدة الشعبية وهو في الأساس لا يحفظ سوى مصالح النخبة، كألمانيا النازية في عهد هتلر، أو إيطاليا الفاشية في عهد موسوليني، وروسيا في عهد ستالين(25).

 

فالعنف هنا يتحول من المقدس باسم الدين الثابت إلى الشـرعي باسم القانون، ثم يتحول بعد ذلك ليخدم مصالح الديكتاتورية إذا ما استطاعت تطويعه لها، ليبرز التساؤل من جديد: من يتحكم في الآخر في النهاية؟ هل الدولة هي من تُشـرّع للعنف؟ أم العنف هو من يُنشئ المؤسسة ليمنح نفسه شرعية؟ وهو السؤال الذي يرى بول ريكور أن الإجابة عنه تقتضـي تعريفا واضحا للعنف باعتباره شكلا من أشكال منع القتل، وهو المعنى الذي يصنع التوافق بين العنف الذي تمارسه الدولة والأخلاق، لكن ريكور يصـرّح أيضا بأن القتل هو أكثر مظاهر عنف الدولة تواترا، وهو ما يُصعِّب -في الواقع- من إمكانية التوافق بين العنف والأخلاق(26).

 

فالعنف في النهاية -كظاهرة- عبارة عن حلقات متصلة من الأكبر للأصغر ومن الذاتي للموضوعي، فهذا الذي تمارسه الدولة بصورة مادية سيحتاج عنفا معنويا -أو رمزيا- كما قال بورديو لتأسيسه، وهو ما يرتبط في النهاية بتشكيل ضغط سلطوي يدفع للتمرد المجتمعي عليه، الأمر الذي يتصل بمجموعة من الأشخاص المُهيّئة لتبّني ذلك العنف بميول عدوانية مكبوتة. فهل تحتاج حقا الحلول المطروحة لمشكلة العنف نوعا من الدمج بين الاُطر المعرفية من أجل الوصول لحلول واقعية، وأن ننظر لكل إطار منهم بشكل متصل مع الآخر لاستنتاج هذا الربط؟ وإن كان الأمر كذلك، فالسؤال الحقيقي الآن هو: كيف يمكن أن يحدث ذاك؟

المصدر : الجزيرة