شعار قسم ميدان

الثائر المهزوم.. هل دعم محمد عبده الاستبداد من أجل التحديث؟

محمّد بن عبده بن حسن خير الله، من مواليد سنة 1849 في قرية محلّة نصر مركز شبراخيت في محافظة البحيرة، تلقّى تعليما تقليديّا في قريته -تعلّم القراءة والكتابة وحفظ القرآن بالكُتّاب- ثمّ بالجامع الأحمدي في طنطا قبل أن ينتقل إلى الأزهر. تعرّف على جمال الدين الأفغاني سنة 1871 وتتلمذ على يديه، ولازم حلقات درسه فتوطّدت الصلة بينهما وأصبحا صديقين. تخرّج من الأزهر سنة 1877 وعُيّن مدرّسا للتاريخ في مدرسة دار العلوم العليا، ودرّس أيضا في مدرسة الألسن(1).

وفي عام 1840 -أي قبل ولادة الشيخ محمد عبده بتسع سنوات- كانت قد وقّعت(2) كل من بريطانيا وروسيا وبيلاروسيا والنمسا والدولة العثمانية على اتفاقية عرفت وقتها باتفاقية لندن، بموجب هذه الاتفاقية تم فصل مصر عن الشام حيث كانت مصر والشام جزئيّن متصلين من وحدة إدارية واحدة لقرون في عهود إمبراطوريات إسلامية مختلفة، وتم بذلك اعتبار مصر وحدة إدارية مستقلة متميزة عن محيطها الجغرافي قبل أن تقع مصر نفسها تحت سيطرة بريطانيا نهاية القرن ما مثّل حدثا مهما في رحلة الشيخ محمد عبده.

كانت الفترة التي كبر فيها محمد عبده هي فترة تحولات وأسئلة ضخمة، سواء كنتيجة لثورة محمد علي والتبديلات الجذرية التي أحدثها في بنية المجتمع المصري، أو لآثار الغزو النابليوني لمصر من جهة ثانية، وصولا إلى وقوع مصر والعديد من دول العالم الإسلامي تحت سيطرة قوى الاستعمار والعلمنة.

وعلى ذلك كانت الأسئلة المركزية التي حكمت عصر محمد عبده هي أسئلة التقدم والتخلف، والعلاقة مع الغرب، والموقف من الاستعمار، والعلاقة بين الدين والسياسة، وغير ذلك من أسئلة ظلت مُهيمنة على الفضاء العربي والإسلامي لعقود طويلة تلت.

 الشيخ محمد عبده في شبابه (مواقع التواصل)
الشيخ محمد عبده في شبابه (مواقع التواصل)

الثائر المهزوم

كان محمد عبده مشاركا في حركة عرابي(3)، وقد نُفِيَ من البلاد عام 1882 إلى بيروت، ثم كتب إليه الأفغاني لينضم إليه في محاولاته لتأسيس مجلة العروة الوثقى، وأُسّست تلك الصحيفة بعد وصول عبده عام 1884، ودعت إلى نوع من الرابطة الإسلامية وتعاون كل مسلمي العالم لطرد الغزاة الأوروبيين.

على أية حال لم تكتمل محاولة عبده مع الأفغاني، ويبدو أن عبده لم ينجح في تأسيس أي مشروع من الخارج لدعم الثورة ومواجهة الاحتلال(4)، ففي آخر عام 1884 ترك عبده الأفغاني وذهب إلى تونس ولم يستقر فيها، وذهب إلى بيروت في العام الذي يليه، ثم قَبِل بالعودة إلى مصر ليتسلم منصبه قاضيا ثم مفتيا بناء على توصية من المندوب السامي البريطاني الذي رأى إمكانية في التفاهم مع عبده إذا استطاع العودة إلى مصر.

بعد عودته لمصر أصبح محمد عبده على قناعة بضرورة التعاون والتفاهم مع البريطانيين، وأصبح بالفعل أقرب إليهم من الخديوي حاكم مصر ومن النخبة العثمانية التقليدية، وتدريجيا تخلى عبده عن مشروعه الثوري والتحرري وهدف عودة مصر إلى حكم السلطنة العثمانية(5)، ونادى بأولوية إصلاح التعليم، فأي تعليم وأي إصلاح كان يدعو إليه؟

التحديث تحت سُلطة الاستعمار

بخلاف ثورية جمال الدين الأفغاني كانت نزعة محمد عبده إصلاحية(6)، فقد رأى أن المشكلة تكمن في ضعف الأمة الإسلامية نفسها، لأنها تأخرت ولم يعد وعيها ووضعها يمكّنها من مواجهة تحديات الاستعمار والاستبداد، بالتالي تربية وتوعية الأمة يجب أن تسبق طلب الحرية حتى تكون الأمة جديرة بالشورى والحرية.

أول مرة في التاريخ العربي الحديث يتم التأسيس والتنظير لفكرة المستبد العادل، وقد جاءت على يد أهم دعاة الإصلاح والتحديث الشيخ محمد عبده (مواقع التواصل)
أول مرة في التاريخ العربي الحديث يتم التأسيس والتنظير لفكرة المستبد العادل، وقد جاءت على يد أهم دعاة الإصلاح والتحديث الشيخ محمد عبده (مواقع التواصل)

في مقال لمحمد عبده عن طبيعة مصر وأهلها كتبه بعد عودته لمصر مباشرة شدد عبده أن أبرز صفات المصريين هي قدرتهم على التعلم، وأن على حكام البلاد أن يستفيدوا من هذه الخاصية فيهم، وفي مقال آخر -وهو أشهر مقالاته على مستوى أكثر وضوحا- تظهر ملامح المشروع السياسي لمحمد عبده يقول "إن مستبدا عادلا هو الحل لمشكلات المشرق"(7) ويضيف أن أول مهام مستبد كهذا هي "حمل قومه وتدريبهم على طرائق الحكم العصرية والبرلمانية"(8).

كانت تلك أول مرة في التاريخ العربي الحديث يتم التأسيس والتنظير لفكرة المستبد العادل، وقد جاءت على يد أهم دعاة الإصلاح والتحديث الشيخ محمد عبده، حيث تمنى(9) أن يحكم الأمة حاكم مطلق ومستبد وعادل في الوقت نفسه لمدة 15 سنة، لكن الاستبداد هنا لم يكن هدفا في ذاته، بل كان مجرد وسيلة من أجل الهدف النهائي وهو الدخول في الحداثة.

في كتابه "الوطنية الأليفة" الذي تناول بدايات الحقبة الاستعمارية في مصر يوضح الباحث والشاعر تميم البرغوثي حجم التشابه بين دعوة محمد عبده والدعوات الاستعمارية للمندوب السامي البريطاني في مصر اللورد كرومر، حيث يورد تميم نصوص اللورد كرومر في كتابه "مصر الحديثة": "ما يعنيه الأوروبيون عندما يتكلمون عن الحكم الذاتي المصري هو بعيد كل البعد عن السماح للمصريين باتباع ميولهم غير المُصلَحة، بل يعنون أن يُسمح لهم بالطريقة التي يرى الأوروبيون أنها الطريقة التي يجب أن يُحكم بها المصريون".

بعد صفحات يصل كرومر للتشابه مع خطاب محمد عبده في فكرة المستبد العادل، حيث يقول "ما أن تشرح للمصري ما عليه أن يفعل فإنه سيفهم الفكرة بسرعة، فالمصري مُقلد جيد، سينجز نسخة أمينة وتكاد تكون مطابقة لعمل راعيه الأوروبي، فهو مُستعد لأن يقبل تعاليم ولغة الأنظمة الإدارية الأوروبية ورطانتها وإن لم يفهم روحها ومعناها".

 اللورد كرومر رجل دولة وإداري لمستعمرات بريطانيا (مواقع التواصل)
اللورد كرومر رجل دولة وإداري لمستعمرات بريطانيا (مواقع التواصل)

بحسب العديد من التحليلات(10)(11) فإن بين دعوة عبده وكرومر تشابها واضحا، من قابلية المصريين للتعلم والتقليد، وواضح أنه بالرغم من دعوة عبده للتعلم من الأوروبيين فإن برنامجه المقترح للخلاص لم يكن يطرح نفسه كمشروع للمقاومة والتحرير والسيادة، إنما يقترح برنامجا تحديثيا يؤدي إلى تقدم يجعل المصريين مُستحقين أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم.

يوضح جوزيف مَسعد(12) موقف عبده هنا معلقا أنه "منذ القرن التاسع عشر، والمفكرون العرب ينتجون أفكارهم داخل منظومة الداروينية الاجتماعية، وهي منظومة معرفية غربية واستعمارية بالأساس، بمعنى أن الزمن خطّي بالنسبة لهم، يبدأ من البدائية ويتقدّم حتى يصل إلى الحداثة وما بعد الحداثة، ومن هنا تأتي فكرة "التخلف" عن هذا "التقدم"، وبرأيي أن هذه الفكرة طُرحت في الأساس داخل منظومة إمبريالية عنصرية، تُعرقِن -أي أنها تصبغ عرقية معينة- على من تقدم ومن تأخر بالمعنيَين الزمني والمكاني".

وعلى هذا يضيف تميم برغوثي(12) أنه كان من المنطقي طبقا لتوازنات وعلاقات القوة "أن يكون البريطانيون هم المشرفون على عملية التحديث هذه"، ولما استبعد عبده أي مشاريع ثورية وتحررية كان الحل الذي يقترحه هو تفويض الصلاحيات السياسية لحاكم مطلق ومستبد لمدة خمسة عشر عام يُمكنه من نقل المجتمع المصري من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث به كوادر من المتعلمين والتقدميين الذين سوف يشكلون بدورهم وقود البيروقراطية المصرية والحكم البرلماني.

اختتم المندوب السامي البريطاني كلامه عن عبده قائلاً
اختتم المندوب السامي البريطاني كلامه عن عبده قائلاً "ولم يأسف أحد على موته المبكر بأصدق مما حزنت أنا".

في ضوء هذا الطرح كان الأفق السياسي الوحيد المتاح لمحمد عبده هو الاستفادة من وجود المستعمِر وفترة الاستعمار -بما فيها من وصاية ورعاية مفروضة- والمشروع الاستعماري التحديثي -الذي قد يكون الأقرب لمشروع محمد عبده الإصلاحي- للانتقال إلى الحداثة والتقدم.

في مذكراته(13) أورد اللورد كرومر رأيه في محمد عبده قائلا "إن الشيخ محمد عبده كان عالما من نوع مختلف، ولا بد أن أضيف: كان من نوع أرقى كثيرا من إخوته الآخرين، لقد كان رجلا ذا آراء واسعة ومستنيرة، ولقد كان معترفا بالانتهاكات التي نتجت عن الحكومات الشرقية، واعترف بضرورة المساعدة الأوروبية في أعمال الإصلاح" واختتم المندوب السامي البريطاني كلامه عن عبده في مقطع آخر "كان عبده على علاقة سيئة مع الخديوي ومع العديد من أقرانه في الأزهر، ولم يكن قادرا على الاحتفاظ بمنصبه إلا معتمدا على دعم بريطاني قوي.. وفي تقاريري السنوية مدحته مرارا، ولم يأسف أحد على موته المبكر بأصدق مما حزنت أنا".

المصدر : الجزيرة