شعار قسم ميدان

المدرسة كأداة سيطرة.. كيف تتحكم السلطة بالشعوب عبر التعليم؟

midan - مدرسة
تلعب المناهج الدراسية دورا مهما في العمليّةِ التعليميّة، وذلك باعتبارها المنهل الخصب الذي يزود التلاميذ بالمعلومات والمعارف ويغرس في نفوسهم القيم والاتجاهات الإيجابية، كما تعد المناهج من أهم مرتكزات العملية التعليميّة التي تعتمد عليها تربية النشء وبناء الأجيال وتكوين الهوية الجامعة لأفراد المجتمع. ومن هنا اهتمّ المختصّون في مجالات علوم النفس والتربية والفلسفة بالمناهج من حيث تصميمها والتخطيط لها وأسس بنائها وتقويمها(1).

 

وللسبب ذاته أيضا كانت المناهج الدراسية على الدوام مثار تساؤل ومحل هاجس عند النخب السياسية والدينية، حيث تقام حولها المعارك الصفرية والاستقطابات الحادة بين شتى الاتجاهات والانتماءات، والتي تبدأ من من التراشق اللفظي بين المتخاصمين، وليس انتهاء بحرق المناهج(2) والمقررات الجديدة أو فرضها عنوة بقوة السلطة.

 

ولعلّ حركة تعديل المناهج التي طالما طالت بعض الدول العربية -الأردن مؤخرا- مؤججة بذلك الشارع السياسي والديني والثقافي، ومفضية إلى سجال ومشاكسة محمومة بين هذه النخب، النخب العلمانية من جهة والنخب الإسلامية من جهة أخرى، ولتكون خير شاهد على ما تمثله موقعية المناهج الدراسية في وجدان ومخيلة النخب من أهمية(3).

 

بيد أنّ هذا الصراع عادة ما يقتصر على نمط واحد وضرب واحد من المناهج المدرسية، وهو المنهاج الظاهر أو الجلي، ويتم التغافل عن نوع آخر مهم من المناهج الدراسية، أي المنهاج الخفي أو المستتر، والذي قد يكون أخطر تأثيرا وأبلغ نفاذا من المنهاج الظاهر أو الجلي في تشكيل صورة مشوّهة عن الذات والتاريخ والهوية، وفي العمل على تدجين التلامذة وتنميطهم على مساطر الانضباط والأخلاق العسكرية حتى يسهل انقيادهم وفق رغائب السلطة وأهواء المستبدين.

 

إن المدرسة مكان يجلس فيه الطلاب معا، يرفعون أياديهم،  ويقفون في صفوف، والعديد من الخبرات الأخرى تحدث دون أن تكون ملحوظة. لكن تلك التفاعلات تنطوي على رسائل تؤثر في الكيفيات التي ينشأ فيها الطلبة
إن المدرسة مكان يجلس فيه الطلاب معا، يرفعون أياديهم،  ويقفون في صفوف، والعديد من الخبرات الأخرى تحدث دون أن تكون ملحوظة. لكن تلك التفاعلات تنطوي على رسائل تؤثر في الكيفيات التي ينشأ فيها الطلبة
  
ما المنهاج الخفي؟

من خلال التتبع للأدبيات التربوية والأطر النظرية التي تناولت موضوع المنهج الخفي نجد اختلافا بين الباحثين في تحديد المدلول اللفظي للمنهج الخفي، ومن أهم هذه المدلولات ما يلي: المنهج المستتر، المنهج الضمني، المنهج غير النظامي، التعليم غير المتوقع، التعليم الجانبي، الخبرات المصاحبة، النواتج غير المتوقعة للعملية التربوية، النتائج الجانبية للتعلم، النتائج غير الأكاديمية… إلخ من هذه المسميات التي وإن اختلفت في ظاهرها فإنها تحمل في مضمونها معنى واحدا هو "المنهاج الخفي"(4) (Hidden Curriculum).

 

أما من حيث المفهوم الاصطلاحي فيعتبر المنظر التربوي فيلب جاكسون أول من ابتكر مصطلح المنهج الخفي عام 1968 في كتابه المعنون بـ"الحياة في الفصل الدراسي"(5)، يقول فيليب جاكسون في كتابه آنف الذكر "إن المدرسة مكان يجلس فيه الطلاب معا، ويستمعون وينتظرون، ويرفعون أياديهم، ويناقشون ويعملون معا، ويقفون في صفوف، وكل تلك الخبرات روتينية وتحدث آليا ومن دون أن تكون ملحوظة. ولكن تلك التفاعلات تنطوي على رسائل ومضمونات ما، وتؤثر في الكيفيات التي ينشأ فيها الطلبة اجتماعيا في الصفوف والمدارس، وكثيرا ما تؤثر في التحصيل الأكاديمي، أو غالبا ما يكون لها مثل ذلك التأثير"(5)وبناءً على ذلك عرّف فيلب جاكسون المنهج الخفي بأنه "كل النواتج الثانوية للعملية التربوية"(5)، ويرى باحثون أنّ هذا التعريف قد يعتريه بعض القصور ولذلك اقترح البعض تعاريف أخرى نذكر منها الآتي:

 

ترى الباحثة التربوية لوبان بأنّه يمكن تعريف المنهج الخفي باعتباره "تعبير عن تلك الخبرات التعليمية التي يتحصل عليها المتلقي دون أن يقصد تعلمها أو يقصدها مخطط المنهج أو المصمم بالضرورة"(6)، ويرى جان مارتن بأنّ المنهج الخفي هو "التعلم العرضي غير المقصود الذي يؤدي إلى تحقيق أهداف غير مخطط لها بالإضافة إلى تلك الأهداف المخطط لها"(6). ومن ذلك العرض أمكن تحديد المفهوم الإجرائي للمنهج الخفي بأنه "القيم والمعايير والمعتقدات المنقولة للتلاميذ بدرجة كبيرة من خلال اللاوعي والعمليات اللانظامية في بيئة وبنية المدرسة"(7).

 

الفرق بين المنهج الخفي والمنهج الظاهر

من خلال مراجعة العديد من المَراجِع والدراسات التي ناقشت الخصائص التي يتميز بها المنهج الخفي عن المنهج الصريح فإنه يمكن تحديد أهم هذه الخصائص فيما يلي:

 

undefined

 
1- إن المنهج الصريح يتم تخطيطه مسبقا من قبل المعنيين بوزارات التربية والتعليم، بينما المنهج المستتر فهو خلاف ذلك، لأنه في حقيقته آني وقتي، ويتوقف على طبيعة المواقف التربوية في المدرسة وما يصاحبها من مثيرات للتعلم.

2- المنهج الصريح نواتجه دائما إيجابية باعتبارها تستهدف تحقيق الأهداف المعلنة للعملية التربوية، في حين نجد أن نواتج المنهج المستتر غالبا ما تكون سلبية.

 

3- يتميز المنهج الصريح بأنه منهج ثابت لا يتغير بتغير المواقف التعليمية، أما المنهج المستتر فإنه قد يتغير بتغير الزمان والمكان والفرد والمتعلم، ذلك أن المنهج المستتر ليس هو نتاج بيئة معينة أو موقف معين، بل إنه قد يوجد في كل موقف بصورة مختلفة، ولذلك لا يمكن القول بأن بيئة معينة أو موقفا تعليميا معينا يمكن أن يوحي بمناهج مستترة متماثلة، ذلك أن الفرد المتعلم قد يكون العامل الحاسم في الموقف التعليمي بحيث يكون له دور بارز في إفراز مناهج مستترة عديدة قد لا يثيرها غيره من الطلاب في موقف مماثل(8).

أهمية المنهج الخفي

يمثل المنهج الخفي وما ينطوي عليه من نتائج وأهداف نقطة البدء في أي إصلاح تعليمي، حيث يقدم تفسيرا للنتائج التي تقوم المدرسة بإنتاجها بالفعل، ويلقي الضوء على الوظائف الحقيقية التي تضطلع بها المدرسة بغض النظر عما استقر في وجدان المجتمع من وظائف مشروعة ومعترف بها اجتماعيا(9).

 
هذا بالإضافة إلى الكشف عن طبيعة العلاقات والتفاعلات الاجتماعية داخل البيئة المدرسية في اتصالها بالعلاقات الاجتماعية في المجتمع الأكبر، وكذلك فإن توضيح وتجلية بعض جوانب المنهج الخفي يوفر قدرا مناسبا من الوعي بالنسبة لكل من الطلاب والمعلمين حتى لا يشتركون في حالات تعليمية -دون وعي- غير مرغوب بها أو حتى غير مشروعة اجتماعيا(9).

 
كما أنه يستدعي الانتباه إلى نواحي التعليم المدرسي اليوم، والتي دائما ما تكون غامضة، وتبقى في مساحة غير مختبرة، وبخاصة البيئة التدريسية والنظامية أو القانونية والاجتماعية للمدارس وعلاقاتهم المتبادلة(9).

تطبيقات المنهج الخفي في إطار المدرسة

يمكن أن نجد المنهج الخفي فيما يتعلمه الطلاب من طبيعة العلاقة بين المدير والمعلمين، وأسلوب تعامل المعلمين مع الطلاب، وعلاقة المعلمين مع بعضهم البعض، وترتيب الفصول ونوع الأثاث ووضعه في المدرسة، وأحاديث المعلمين العلمية والثقافية والاجتماعية، وتوزيع الوقت الدراسي، واللوائح والأنظمة والتعليمات التي تطبق عليهم. ومن الممكن تحديد بعض المظاهر التي تمثل المنهج الخفي في البيئة المدرسية(10) والتي نذكر منها الآتي:

  

من الملاحظ أن خبرة التعليم المدرسي تقدم حالات تعليمية واجتماعية تتجلى فيها مظاهر علاقات السلطة، ومن ثم يتم تعلم تلك العلاقات أثناء المرور بخبرة المدرسة من خلال المنهج الخفي
من الملاحظ أن خبرة التعليم المدرسي تقدم حالات تعليمية واجتماعية تتجلى فيها مظاهر علاقات السلطة، ومن ثم يتم تعلم تلك العلاقات أثناء المرور بخبرة المدرسة من خلال المنهج الخفي
 

الطبيعة الهرمية للمدرسة: من الواضح أن بناء السلطة في المدرسة يشير إلى الطبيعة الهرمية لكل من البناء المدرسي والعملية التعلّمية، فممارسة السلطة في المجتمع المدرسي تحمل دورسا للتبعية والهرمية التي تعد أساسية لإدارة النظام البيروقراطي في الشركات والمصانع(11). وإذا كان المعلمون يحتلون مراكز متوسطة في هذه الهرمية فإن التلاميذ يمثلون وضعا متدنيا على مدارجها، ويساهم المنهج الخفي في تقبل هذه الهرمية كأمر مشروع حتى للذين يحتلون أقل الأوضاع في هذا النظام الهرمي(11).
 

ومن الملاحظ أن خبرة التعليم المدرسي تقدم حالات تعليمية واجتماعية تتجلى فيها مظاهر علاقات السلطة الموجودة في حياة الكبار، ومن ثم يتم تعلم تلك العلاقات أثناء المرور بخبرة المدرسة من خلال المنهج الخفي، وإذا كانت الحالات التعليمية غير الأكاديمية متمثلة في بناء السلطة في المدرسة تمثل نموذجا واضحا لتقبل الهرمية فإنّ الحالات التعليمية المعرفية أيضا تسهم في هذا التقبل(11)، ويتضح ذلك من المنهج الخفي الذي يقدمه ما أسماه باولو فريري بالتعليم البنكي، حيث يرى أن مهمة التعليم البنكي هي تأقلم المتعلمين مع ظروف القهر(12).

 
الطبيعة التنافسية للمدرسة: من أشهر علماء اجتماع التربية الذين اهتموا بالطبيعة التنافسية للمدرسة هربرت جينتز، حيث رأى أن تقسيم العمل في المجتمع الرأسمالي انعكس في المنافسة المنظمة داخل المدرسة بين التلاميذ، والتي غالبا ما تكون هدّامة، كما تنعكس أيضا في التخصص وتقسيم المعرفة الأكاديمية. وتطرح الطبيعة التنافسية للمدرسة مجموعة من القيم وأنماط السلوك لدى التلاميذ، فهي تؤكد الفردية على حساب الجماعية، والأنانية بدلا من الغيرية، والاهتمام بالشكل على حساب الموضوع، وبالنتائج بغض النظر عن الوسائل. وهنا تُبرز الطبيعة التنافسية للمدرسة بعض أشكال السلوك الانحرافي بطريقة غير واعية(13).

 
وتشير نتائج الطبيعة التنافسية إلى مشروعية تفوق أبناء القادرين على أبناء الطبقات الفقيرة بطريقة مستترة، رغم كل ادّعاءات المسؤولين عن النظام المدرسي في تطبيق مؤشرات الديمقراطية كحق التعليم المجاني وإلزامية التعليم وتوزيع الطلاب على أساس مجموع الدرجات… إلخ(13). ومرد ذلك إلى ما يتوفر لأبناء القادرين من إمكانات ووسائل تساعدهم على النجاح التعليمي من ناحية، وما يتوافر داخل النظام التعليمي نفسه من تحيز لهذه القلة القادرة(13).

 

تقوم عملية التصنيف في حد ذاتها بإعداد التلاميذ بطريقة مستترة لأن يكونوا مصنفين ومحددين في نوع معين من النشاط التعليمي مرتبط بنوع معين من المستوى الاجتماعي (بكساباي)
تقوم عملية التصنيف في حد ذاتها بإعداد التلاميذ بطريقة مستترة لأن يكونوا مصنفين ومحددين في نوع معين من النشاط التعليمي مرتبط بنوع معين من المستوى الاجتماعي (بكساباي)

 
الطبيعة التصنيفية للمدرسة: إنّ تصنيف التلاميذ وإعادة توزيعهم من الوظائف الأساسية للنظام المدرسي، وهنا يمكن مناقشة بُعدين أساسيين فيما يتصل بالمنهج الخفي، الأول يرتبط في حد ذاته بفكرة التصنيف، والآخر يرتبط بالمعيار الذي يتم التصنيف على أساسه(13). وبالنسبة لعملية التصنيف ذاتها فهي تشمل تصنيف التلاميذ بالإضافة إلى تصنيف المعرفة، وبافتراض أنها تقوم على أسس موضوعية دون تحيز طبقي، حيث إن فئة معينة من التلاميذ تستأهل نوعا معينا من المعاملة، وذلك لأنه إذا قدرات طفل (أ) تقاس على أنها أعلى من قدرات طفل (ب) باستخدام مقياس للقدرات فإنه يستأهل المكافأة ليس على أساس وضعه الاجتماعي والطبقي ولكن على أساس قدراته القابلة للقياس(13).

 
وهنا تقوم عملية التصنيف في حد ذاتها بإعداد التلاميذ بطريقة مستترة لأن يكونوا مصنفين ومحددين في نوع معين من النشاط التعليمي مرتبط بنوع معين من المستوى الاجتماعي، ليس بالضرورة لأن لهم اهتماما خاصا به، ولكن لقيمة خارجية يحتلها هذا النشاط داخل النظام التعليمي(13). وتطرح عملية التصنيف هذه مجموعة من الثنائيات في النظام التعليمي: علمي وأدبي، فني وأكاديمي، ديني وعلماني، رسمي وخاص… إلخ، وكل هذه الأنواع ترتبط بالإعداد مسبقا لشغل أوضاع اجتماعية متمايزة. ومما يزيد من مشكلة التصنيف أنها ربما تحدث في سن مبكرة لم تكن ميول التلميذ وقدراته قد تكشفت بعد(13).

 

وأما بالنسبة لمعايير التصنيف فمن المعلوم أنها تتم على أساس الدرجات والشهادات التي يحصل عليها التلميذ والتي تمثل جواز المرور لمختلف أنواع التعليم ومستوياته، ومن ثم الأوضاع الاجتماعية في التركيب الهرمي للمجتمع، وهذه العملية التصنيفية تكون مشبّعة بالصفات والخصائص الاجتماعية والطبقية للتلميذ، وبالتالي تعمل على إعادة إنتاج تقسيم العمل في المجتمع وتدعيم الفوارق الطبقية من جديد(13).

   

من الواضح أن العديد من القواعد المدرسية تهدف إلى تدجين الطفل وتعويده على الخضوع والانصياع، حتى حركات العيون التي يجب ألا تفارق ورقة الامتحان هي مقوم من مقومات التطبيع
من الواضح أن العديد من القواعد المدرسية تهدف إلى تدجين الطفل وتعويده على الخضوع والانصياع، حتى حركات العيون التي يجب ألا تفارق ورقة الامتحان هي مقوم من مقومات التطبيع
 

آليات الترويض والقهر: جزء كبير مما يتعلمه التلميذ ليس له علاقة بمحتويات الدروس، وإنما يقصد بطلب الطاعة المطلقة وجعل التلميذ يستهلك استهلاكا سلبيا كل التحيزات الدينية والقيمية والأيديولوجية التي يزخر بها أي مجتمع، ولا تهدف المدارس الرسمية إلى تحقيق المساواة في قدرة الأفراد، بل تهدف إلى ترسيخ اللامساواة في هذه القدرات(14). لذلك لا بد من الحذر من المنهاج الخفي، وهو غرس قيم الطاعة والخضوع والمذلة في نفوس الناشئة مما يقتل روح الإبداع في النفس العربية، فالمدرسة أداة لإعادة إنتاج الأمر الواقع بكل سلبياته واختناقاته لمصلحة النخبة المهيمنة(15).

 

وعلى سبيل المثال، في آخر قمّة عربية احتشد فيها الرؤساء العرب -والتي عُقدت في البحر الميت بالأردن- طُلب من طلّاب المدارس النزول إلى الشوارع والاصطفاف على جوانب الطريق ليقوموا بإرسال التحايا والتلويح بالكفوف المتعبة ونثر الورود على الشيوخ والأمراء والملوك والباشوات في سلوك قبيح تأباه النفوس الأبيّة والفِطر السليمة(16). وهكذا يمثل ما يجري في دائرة الحياة المدرسية من طقوس علائقية ومشكلات وعلاقات في الفصل الدراسي وخارجه بدءا من الحفلات المدرسية والطوابير والأنشطة الرياضية والرحلات أحد الوجوه الخفية لفعالية تربوية على غاية من الأهمية والخطورة(17).

 
يصف الباحث الأميركي جاكسون الوجه الخفي للحياة المدرسية ودوره في تطبيع التلاميذ وتطويعهم لمعايير التسلط بطريقة مملة، فحين يدخل الطفل الصغير إلى المدرسة فهو يدخل بيئة أصبح على ألفة كبيرة بها، وهو يحفظ تعاليمها وقواعدها حتى وإن لم يطقها، ويعرف جيدا أن عليه القيام بأمور محددة: لا صوتا عاليا خلال جلوسه، ليس له أن يقاطع أحدا إلا بإذن، أن يرفع يده إن كان لديه سؤال، أن يستجيب لمجرد إشارة المعلم بقلمه. ومن الواضح تماما أن هذه القواعد تهدف إلى تدجين الطفل وتعويده على الخضوع والانصياع، حتى حركات العيون التي يجب ألا تفارق ورقة الامتحان هي مقوم من مقومات التطبيع، وخطوة مبرمجة نحو وضعية الامتحان والانصياع لإكراهات المجتمع الطبقيّة والاجتماعية(17).

 
هذه العمليات بسيطة جدا للمتأمل العادي، ولكن التحليل العلمي يبين أن هذه الأساليب والعمليات تنفذ إلى عمق الشخصية الإنسانية وتبرمجها بصورة شمولية، فالطفل الذي لا يعرف المدرسة لا يعرف قانونية الخضوع والامتثال والانصياع كالذي خبر الحياة في هذه المدارس(17). فالرسالة التي تحملها المدرسة مختلفة جدا عن الأهداف الواضحة التي تحددها، وهذه الرسالة الخفية تأخذ مكانها في نفوس الأطفال وتنفذ إلى أعماق الشخصية الإنسانية، وهي تهدف في نهاية الأمر إلى استلاب شخصية الطلاب والتلاميذ وقمعهم وتشكيلهم على الصورة الثقافية التي تريدها الطبقة التي تسود في المجتمع، وهي غالبا ثقافة التسلط والإكراه(17).

 
وليس الأمر متوقفا على ممارسة التسلط على التلامذة -كما يرى المفكر التربوي الفلسطيني منير فاشة- بل يتجاوز الأمر إلى تدريب الطلاب ليكونوا متسلطين، وذلك عبر توكيلهم بمهمتين:
 
1- قرع الجرس إيذانا بوجوب دخول الأطفال إلى قاعات الدراسة أو انتهاء فترة الطعام.
2- العريف، وهو الواشي الذي يخبر المعلم من خالف الأوامر (العسكرية/التعليمية) في أثناء غيابه!(18)

  

 يشير تنظيم الفصل الدراسي إلى المسافة الاجتماعية بين المعلم والتلاميذ، ويمثل نموذجا للتدريس يتصف بالسيطرة ويكون متمحورا حول المعلم
 يشير تنظيم الفصل الدراسي إلى المسافة الاجتماعية بين المعلم والتلاميذ، ويمثل نموذجا للتدريس يتصف بالسيطرة ويكون متمحورا حول المعلم

تقاسيم الزمان والمكان: تنسحب هذه المظاهر التسلطّية -كما يراها الكثيرون- لتصل إلى فكرة التقسيمات الزمانية والمكانية في النظام المدرسي، وفي هذا يرى الباحث رولاند ميغون فيما يخص البيئة المادية للمدرسة يكفي أن نقول إنّ عدم كفاية تصميم المبنى المدرسي قد يضطر المعلمين إلى أداء أدوار أكثر تسلطية لتعويض النقص في تصميم البناء(19)، فزج خمسين طالبا في مكان واحد لا يكاد يتسع لعشرة منهم سيؤدي إلى ارتفاع السلوك التسلطي من قبل المعلمين.

وليس الأمر كذلك فحسب، فقد انتقد ميغون فكرة الأسوار العتيدة المحاطة بالمدرسة، وتوزيع الفراغ الموجود في الفصل الدراسي، وتساءل لماذا يكون للفصل مقدمة ومؤخرة وجانبان؟ وجد ميغون أن تنظيم الفصل بهذا الشكل مرتبط بالنموذج التسلطي لإمداد المعرفة، حيث تسير في شكل خطي من أعلى حيث المعلم إلى أدنى حيث التلاميذ، وهذا التنظيم الذي يعرف بالتعليم المغلق (Closed Teaching) يشير إلى مسافة اجتماعية بين المعلم والتلاميذ، ويمثل نموذجا للتدريس يتصف بالسيطرة ويكون متمحورا حول المعلم، وهنا يمكن تمثيل الفصل بالمعركة الحربية فيها المواجهة والتأهب(19).

ولا ينفصل قهر المكان عن قهر الزمان وتقسيماته، حيث يتميز الزمن المدرسي برتابته وتقاسيمه، ويشكل نوعا من القضاء الذي يجب على الطفل أن يخضع له. فالطفل مكره على أن يأتي إلى المدرسة في أوقات محددة، والعام الدراسي يبدأ وينتهي في وقت محدد، وتمضي السنوات والأيام وفي هذا الانتظام رسالة مضمرة وغاية مدرسية خفية قوامها تشكيل الأطفال على إيقاعات تحددها الثقافة السائدة في المجتمع، فالنظام يقتضي تراتبية في الزمن، وتنسيق الزمن يشكل بعدا من أبعاد التسلط للقوانين(20)، وأداة الجرس هنا خير ما يؤدي هذه المهمة بصرامته وحدّيته(21).

وتخطيط الزمن وتنظيمه يعبر عن طبيعة حياة الطبقة السائدة في المجتمع وأصحاب الياقات البيضاء، فالزمن مخطط منظم عند أفراد هذه الطبقة، ولذلك فإن تخطيط الزمن وتنظيمه في المدرسة يتوافق مع الصورة الثقافية لمفهوم الزمن لدى الطبقة السائدة في المجتمع. فأبناء الطبقات الوسطى يدركون الزمن ويتمثلونه في وسطهم السابق للمدرسة على نحو ما هو في المدرسة، ولكن أطفال العمال والفلاحين وصغار الكسبة يرون في تقاسيم الزمن المدرسي ورتابته صورة تتنافى مع مفهوم طبقتهم للزمن ودورته. لذلك فإن التوافق في صورة الزمن يؤدي إلى النجاح والتفوق، وهذا يعني أن الزمن هنا بأنساقه ورتابته يمارس دورا قهريا ضد أبناء الفئات الاجتماعية المدحورة(22).

وختاما، من الصعب التحكم في المنهج الخفي والحد من آثاره السلبية، ولكن التعامل الإنساني الأمين مع الطلبة وتوجيههم للأفضل فكريا، واجتماعيا، وسلوكيا، والاستجابة لمصالحهم ورغباتهم وحاجاتهم من خلال بيئة مدرسية عصرية بناءة، ومناهج ذات صلة وثيقة بالواقع الذي يعيشونه، مع توفر معلمين وإداريين أكفاء إنسانيا ووظيفيا، قد تقلل مجتمعة من الآثار السلبية للمنهج الخفي.

المصدر : الجزيرة