شعار قسم ميدان

يفضلون العلاقات العابرة.. حينما يصبح الحب سلعة تباع وتشترى

midan - love
اضغط للاستماع
    
  
"يقول الأمير للثعلب في لحظة الفراق: أنت لم تقل لي عن أحزان هذه اللحظة! فيعترف الثعلب أنه لم يفعل، ولكن يعطيه ظرفا ويطلب منه ألا يفتحه إلا بعد أن يفترقا، وحينما يفتحه الأمير يجد فيه هذه العبارة: لا يمكن أن ترى الأشياء بوضوح إلا من خلال القلب، فكل الأمور الجوهرية غير مرئية"(1).

   

في كتابه ذائع الصيت "الإسلام بين الشـرق والغرب" يُنظِّر بيغوفيتش لمنهجية الدين الصحيح، وكيف أن الإسلام يحفظ هذه المنهجية من خلال توافقه مع الطبيعة البشـرية الثنائية بين الروح والجسد، فبيغوفيتش الذي أقرّ بأن الدين المقتصـر على الروحانيات دون الواقع لا يمكن أن يكون هو المنهج الإنساني القويم، يقدّم نقدا لاذعا للمادية والرأسمالية التي تحارب كل قيمة لا تُقاس بالمال، فالفن والثقافة هما ضامنا الإنسان من التفكك تحت سيطرة الحضارة والرأسمال، وهو ما طغت عليه الحداثة(أ)وفككت صلابته التي تحافظ على تماسك الجنس البشـري، وأبدلته بسيولة استهلاكية لا تُعنى إلا بخلق الرغبة والدعاية للاستهلاك.

   

فكيف يمكن للإنسان أن يتصلّب في قالب المادة بعيدا عن العاطفة؟ وهل يمكن له الهرب من ذلك أو التحرر منه؟ أم أن ما قضته الحداثة سيرورة لا فكاك منها؟

 

المفكر البوسني علي عزت بيغوفيتش (1925-2003م)  (مواقع التواصل)
المفكر البوسني علي عزت بيغوفيتش (1925-2003م)  (مواقع التواصل)

 

التراحم والتعاقد.. الإنسانية بين القلب والعقد

يذكر الدكتور عبد الوهاب المسيري في مذكّراته موقفا حدث مع أحد زملائه الأميركان، حيث دعا الأخير صديقة له على العشاء، وقد كانت مُطلّقة من عائلة بالغة الثراء، فاضطرت السيدة أن تترك طفلتها الصغيرة مع والدتها لترعاها حتى تعود، ثم يقول: وبعد أن ذهب صديقي للمطعم مع صديقته وعاد معها إلى منزلها، فوجئ بها تُخرج دفتر الشيكات وتعطي لأمها شيكا بمقدار عشـرة دولارات أجرا لها عن مجالستها الطفلة(2).

 

ثم يسـرد قصة أخرى مع خادمه المصـري الذي كان يرعى بعض شؤونه أسبوعيا، ثم يُصـرّ عليه لحظة تقاضي أجره ألّا يفعل، وأن "خلِّها عليّ هذه المرة"، فينصاع لرغبته في بعض المرّات التي لا تتوفر معه فيها النقود الكافية، على أن يضاعف له المبلغ في المرة القادمة. ثم يعلّق الدكتور على الموقفين بشكل منفصل قائلا: في واقع الأمر، فقد حلّلت عبارة الخادم المذكورة ووجدت أنه يقول من ورائها "برغم أنني أعمل خادما عندك وأدخل معك في علاقة تعاقدية، إلا أننا من الناحية الإنسانية متساويان، ولا بد أن ندخل في علاقة تراحمية تتجاوز عمليات التبادل الاقتصادية.. وبذلك أعطيه الفرصة ليكون دائني ولأن يدخل معي في علاقة إنسانية متراحمة"(3).

 

في حين أن الأم المذكورة -في موقف الزميل الأميركي وصديقته- لم تكن في حاجة إلى الدولارات العشـر التي كانت مبلغا زهيدا -حتى في الستينيات- ولكن ما تم هنا -وفق تعبير المسيري- هو شعائر التعاقد، وهي الشعائر التي ينبغي لها أن تسود، مهما كانت العلاقة خاصة ورحيمة، حتى "يسود النموذج ويؤكّد نفسه"(4).

 

وهنا يؤكد بيغوفيتش على ضرورة التفريق بين المجتمع النظامي والجماعة الإنسانية، فالمجتمع هو مجموعة خارجية من الأفراد الذين تجمعهم المصلحة وتحدّهم السلطة المادية، بينما الجماعة -كالأسرة والأصدقاء- هي التشكيل الداخلي بين أناس اجتمعوا على أساس من الشعور بالانتماء، فالأول قائم على المطالب المادية والثانية قائمة على التبادل الروحي والأشواق(5).

 

الإنسان -الذي هو ابن مجتمعه- لا يستطيع أن يعيش في مَعزل عنه، وليس كل العزل عزلا للأجساد عن الأماكن، ولكن ثمّة عزل معنوي يحدث معه اغتراب الإنسان عن وسطِه وعلاقاته الإنسانية
الإنسان -الذي هو ابن مجتمعه- لا يستطيع أن يعيش في مَعزل عنه، وليس كل العزل عزلا للأجساد عن الأماكن، ولكن ثمّة عزل معنوي يحدث معه اغتراب الإنسان عن وسطِه وعلاقاته الإنسانية

 

وهو ما عبّر عنه عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان بحب الإنسان المحوري لجاره(6)، فالمرء يحتاج للحب من جهتين قد تبدوان متباينتين لكنهما في الحقيقة متفاعلتان بصورة كبيرة، فهو يحتاج لأن يمنح الحب ويُعطاه حتى يحيا بنفسية مطمئنة. فباومان يرى طريق الإنسان لحب ذاته يمر من خلال حب الآخرين له، إذ لا يتحمل المرء نفسه إذا نبذه محيطه، وهو ما يستدعي أن يحب الإنسان جاره أو شريكه في الجماعة الإنسانية كحبه لنفسه حتى لا يفقد الآخر قدرته على إعطاء الحب لنفسه وللآخرين، فيتبادل كل واحد مع شركائه العاطفة نفسها التي يحتاجها، فينشأ المجتمع التراحمي الذي تحدّث عنه المسيري وبيّن بيغوفيتش رابطته الخفيّة.

 

فالإنسان -الذي هو ابن مجتمعه- لا يستطيع أن يعيش في مَعزل عنه، وليس كل العزل عزلا للأجساد عن الأماكن، ولكن ثمّة عزل معنوي يحدث معه اغتراب الإنسان عن وسطِه وعلاقاته الإنسانية، وهو ما أنتجته آلة الحداثة المادية وأكدت عليه استهلاكية ما بعد الحداثة(ب) وطوّرته بشكل مخيف.

 

الاستهلاكية والسوق وتسليع الإنسان

"لا يمكن لأمة تؤمن بضـرورة التكيّف الدائم مع سوق العمل المتغير أن تستعين بالصبر من أجل بناء علاقة إنسانية"(7).

 

في مقال له بمجلة أوبزيرفر (Observer magazine) يوضح فيل هوغان أن العلاقات الزوجية تشهد على الدوام لحظات حرجة وأزمات سيئة، ولكن الاختلاف الحادث في عصـرنا الحالي عما سبق يكمن في السـرعة المذهلة التي أصبحنا نملّ بها من تلك العلاقات(8)، وهو ما عبّر عنه باومان بالمقولة السابقة.

 

صارت العلاقات المؤقّتة تتناسب مع حاجة الإنسان الجديد للاستبدال، وأصبح الصبر والمجهود المعنوي المطلوب للاحتواء والتجاوز ومراعاة أوقات الاضطراب داخل العلاقة دربا من اللامعقول
صارت العلاقات المؤقّتة تتناسب مع حاجة الإنسان الجديد للاستبدال، وأصبح الصبر والمجهود المعنوي المطلوب للاحتواء والتجاوز ومراعاة أوقات الاضطراب داخل العلاقة دربا من اللامعقول
 

هذا الملل هو لُبّ فكرة الاستهلاك، فالنزعة الاستهلاكية حاضرة ما دامت الرغبة في الإشباع غير مُشبعة بصورة تامة، فهذا المُنتج يجبر هذا المُنتج، وهذا الهاتف الجديد يُلاشي عيوب القديم، فالمجتمع الاستهلاكي يحاكم أعضاءه ويُقيّمهم بناء على مقدرتهم في الاستهلاك(9).

 

أو كما قال فيكتور لبلو "إننا نحتاج إلى أشياء تُستهلك، وتُحرق، وتُبلى، وتُستبدل، ونتخلّص منها في سرعة لا بديل لها"(10) فثقافة النفايات التي تبحث دائما عن التنقّل السريـع بين الأشياء ولا تؤمن بالديمومة والتدوير أخذت تزحف نحو الجسد الإنساني من الخارج وإلى العلاقة الإنسانية من الداخل، فصارت العلاقات المؤقّتة تتناسب مع حاجة الإنسان الجديد للاستبدال، وأصبح الصبر والمجهود المعنوي المطلوب للاحتواء والتجاوز ومراعاة أوقات الاضطراب داخل العلاقة دربا من اللامعقول، فالقيمة التي كانت تولد من إفادة الشـيء صارت الآن لصيقة لحداثته ومواكبته لعجلة السوق(11)، وهو ما اختصـره المسيري بالإمبريالية النفسية، حيث احتلال السوق للذات وسيطرته عليها(12).

 

يقول بيغوفيتش "إن الحضارة، وقد خلقت المجتمع "المادي"، تدمر الصلات الداخلية الشخصية المباشرة بين الناس، وتقيم بدلا منها علاقات خارجية مجهولة الشخصية"(13). فطبقا لمبدأ الاستهلاك، فإن كل شيء في هذا العالم قابل للتسليع، ومن ثَم مرجو منه النفع المادي، فما كان كذلك كانت قيمته، وما  كان معنويا قيمته فيما يتراحم به الناس فلا معنى له، فالطوبيا(ج) التي تحدّث عنها بيغوفيتش كآلية لتسيير المجتمع وفق عقارب الساعة تتعارض تماما مع الدراما التي تحفظ للحياة الإنسانية مشاعرها وحياتها، فالحضارة المادية حين تدخل في العاطفة تحيّدها تماما، فتعالج التفتت الأسري بدور المُسنين الذين لم تُصبح لهم قيمة إنتاجية واستهلاكية، وترعى التفكك المجتمعي "الروحاني" في سبيل رأس المال بأن تكون قيمة كل شيء -فقط- فيما يحققه من الإشباع اللحظي وليس الدوام.

 

الفضاءات المهجورة والعوالم الافتراضية

لم يجد زيغمونت باومان مصطلحا أدقّ من "علاقات الجيب العلوي" كتعبير عن العلاقات العابرة في زمن السيولة الذي نحياه، فالاستهلاك -كما أسلفنا- هو عملية التجديد المستمر، وكذا الحُب في زمن الاستهلاك: عملية التنقل السريـع الشبيهة بإلقاء تذكرة القطار من جيبك العلوي بعد استهلاكها لرغبة معيّنة، "فإن كانت الرغبة تعني الاستهلاك، فإن الحب يعني التملّك"(14) وهو ما لا تفهمه الحياة السائلة.

 

يقول باومان إننا إذا لاحظنا مجموعة من الناس في عربة القطار ذي الرحلة الطويلة، فإننا سنجد مجموعة من العوالم المنعزلة التي تبدأ من أصابع المرء وتتمدد داخل هاتفه المحمول، ثم ما تلبث الرحلة أن تنتهي حتى يُسارع كل منهم إلى منزله، لا ليستقطعوا الوقت لجلسات السمر الأسرية، ولكن ليختفي كل منهم في فضائه المنعزل مع هاتفه في عالمه الافتراضي المخصوص، فالمكان أصبح حين يوجد الهاتف لا البشر، واللامكان هو افتقاد خاصية التواصل عبره لا افتقاد الأُنس بالآخرين(15).

  

يرى باومان أن هذا الابتلاع النَهِم للإنسان من قِبل وسائل التواصل الافتراضي -كفيسبوك وتويتر- قد ساهم في إنجاح ما آلت إليه العلاقات من تفكيك
يرى باومان أن هذا الابتلاع النَهِم للإنسان من قِبل وسائل التواصل الافتراضي -كفيسبوك وتويتر- قد ساهم في إنجاح ما آلت إليه العلاقات من تفكيك

 

هذا الاعتزال الصغير ما هو إلا انعكاس للفضاءات الأكبر المهجورة بالمُدن الحديثة، المنعزلة عن بعضها بالبوابات الإلكترونية المُصفّحة التي استعملت الخوف البشـري في زمن اللايقين كأداة تسويق لنفسها(16)، وهي المجتمعات التي يتفكك فيها المجتمع لمجموعات معزولة كبرى، لا تجد معها وسائل التواصل الافتراضية مجهودا في عزل أفرادها عن بعضهم البعض.

 

ثم يرى باومان أن هذا الابتلاع النَهِم للإنسان من قِبل وسائل التواصل الافتراضي -كفيسبوك وتويتر- قد ساهم في إنجاح ما آلت إليه العلاقات من تفكيك، فالتواصل الافتراضي هو أنسب وسيلة لتحقيق علاقات الجيب العلوي التي يسهل إلقاؤها منه بالضغط على "حذف" فقط، فهو تواصل غير قائم على علاقة حقيقية كما هو الأمر في العلاقات الواقعية، لذا فهو أخف حِملا لأنه لا يتطلب المسؤوليات العاطفية المعقدة تجاه الأسرة والأصدقاء، ويحافظ على الرغبة في التواري عن الأنظار، فالمرء لا يريد من هذا التواصل إلا التواصل نفسه ولا يريد من ورائه علاقة أو مسؤوليات.

 

وربما يكمن في ذلك تفسير للخوف الكامن وراء خطوات الارتباط والإنجاب، فلو كان الإنجاب في الماضي القريب يُدرّ الربح على الوالدين من عمل الأبناء في سن صغيرة لتحقيق التراكم الإنتاجي، فإن عصـر الاستهلاك قد استغنى عن هذا وأبدله بإثارة الرغبات، فجعل مسؤولية الآباء تجاه أبنائهم بلا عائد مادي، أي أنها مسؤولية لا تحقق سوى الرغبة في الأبوة أو الأمومة، والإنسان الاستهلاكي سريع الملل، الذي اختبر ملله في علاقات سابقة، قد يخشـى أن يطال ذلك أيضا رغبته في الإنجاب ولكن بعد أن يكون وتكون أبًا أو أمًّا عليهما الكثير من المسؤوليات. فالتواصل (الافتراضي/الاستهلاكي) قد تجاوزت خطورته ذاته، وطغى على العالم الحقيقي للشخص، ليصبح النموذج المُستبطَن في التعامل مع الناس والأرحام هو المنطق الافتراضي علاقة خفيفة، ومسؤولية أقل، وإلا فغرفتي أولى بي(17).

 

فيقول ميشيل شلوتر وديفيد لي "لقد صِرنا نرتدي الخصوصية كما نرتدي الأزياء التي تحمينا من الضغط الجوي"(18)، فلم تعد البيوت جُزر الحميمية الدافئة بين بحار الخصوصية الباردة، بل تحولت من ساحات مشتركة للحب والصداقة إلى ساحات للمناوشات والمصادمات الرافضة لتدخّل الآخرين وتطفّلهم(19).

 

صار البيت مركزا ترفيهيا متعدد الأغراض، حيث يستطيع أفراد الأسرة أن يعيشوا جنبا إلى جنب، إن جاز التعبي
صار البيت مركزا ترفيهيا متعدد الأغراض، حيث يستطيع أفراد الأسرة أن يعيشوا جنبا إلى جنب، إن جاز التعبي
 

"لقد سارعنا إلى منازلنا وأغلقنا الباب، ثم سارعنا إلى غرفنا المستقلة وأغلقنا الباب، وصار البيت مركزا ترفيهيا متعدد الأغراض، حيث يستطيع أفراد الأسرة أن يعيشوا جنبا إلى جنب، إن جاز التعبير"(20).

 

وعلى الجانب الآخر، ففي خارج المنزل حيث البحث عن الصديق وشريك الحياة، صارت العوالم الافتراضية أشبه بدليل الإرشادات الذي يُخبرك عن مزايا السلعة وعيوبها قبل الشـراء فتقبل أو ترفض بأقل الخسائر وأنت تحسبك مُحبا أو كارها، والحقيقة لا تعدو كونك زبونا لم يعجبه المعروض، أو متسوّقا يتعامل مع شريكه بعقلية الضمان الذي يسمح له باسترداد السلعة حال وجود عطب ما بدلا من التكيّف والاحتواء، فمقولة "لن يفرقنا إلا الموت" فقدت حقيقتها في زمن الاستهلاك(21).

 

استرداد الروح.. هل يستسلم الإنسان لتشيّوئه؟

يصـرّح بيغوفيتش بأن الطوبيا أو الحضارة المادية، ترفض الحبّ، فالصين -كأكبر محاولة للوصول للطوبيا- ومن قبلها روسيا السوفيتية في فترة ستالين، كانتا تعلّمان الشباب محاربة الحب لأنه اتجاه برجوازي(د) يعادي حب الوطن وحب الزعيم، فالحب بين الرجل والمرأة -مثلا- كان محرّما لزمن طويل، لكنه بعد موت ماوتسـي في الصين، وعادت رواية تولستوي "أنا كارنينيا" للظهور في المحلات، واصطفّ القرّاء لشرائها في طوابير ممتدة(22).

 

هنا يصرّح بيغوفيتش أن العاطفة لا تموت في الإنسان مهما تضاءلت فرصتها في الحياة، فلو كان القهر في حالتنا تلك سلطويا ماديا في مجتمعات الشيوعية ذات اليد الثقيلة، فإن المعسكر الانفتاحي على الجانب الآخر قد مارس نفس القهر، ولكن عن طريق الإمبريالية النفسية والسوق، وهو القهر الذي لا يدري فيه الإنسان أنه مقهور، لذا كان الفكاك منه أصعب.

 

ورغم ذلك، يروي المسيري في مذكّراته قصة البطل الرياضي الذي قابله في الطائرة ونشأت بينهما علاقة صداقة تراحمية، وكيف أن هذا البطل يخضع لنظام تحكّم كامل في جسده وحياته، حتى في علاقته الزوجية التي لا يملك حريته فيها دون إذن مُدرّبه، ثم يقول إن هذه الصداقة ما لبثت أن تلاشت حين طلب من الرجل أن يجري معه حوارا مِهنيا، وهو ما أعزاه المسيري لخيبة أمل الصديق في صديقه الذي ظنّ أنه يريد صداقته بلا تعاقد، فحساسية هذا البطل الرياضي تجاه الأمر يستشهد بها المسيري كرغبة كامنة في الإنسان للعودة إلى ذاته الإنسانية المتراحمة والمُحبّة بلا مصلحة هربا من ضغط التعاقد والاستنزاف(23).

 

يجب على الإنسان أن يعي ما تمارسه عليه الحداثة وعلى مجتمعه، ومن ثَم الاستقلال عنها ولو شعوريا، فنحن نعيش في عالم يحوِّلنا إلى مجرّد أشياء
يجب على الإنسان أن يعي ما تمارسه عليه الحداثة وعلى مجتمعه، ومن ثَم الاستقلال عنها ولو شعوريا، فنحن نعيش في عالم يحوِّلنا إلى مجرّد أشياء
 

وهي المحاولة التي يحتاج فيها الإنسان أن يعي ما تمارسه عليه الحداثة وعلى مجتمعه، ومن ثَم الاستقلال عنها ولو شعوريا، فنحن نعيش في عالم يحوِّلنا إلى مجرّد أشياء، حسب مصطلح "التشيّؤ" للمسيري، فتسقط المرجعية الإنسانية وتصبح المادة أو السوق بمنزلة المرجعية الوحيدة النهائية، فتنتفي إنسانية الإنسان وتعمل فيه آليات التشييء والتنميط والتفكيك(24)، وهو ما أعزاه المسيري لانفصال الإنسان عن ثقافته الأصيلة واستدراجه لعالم الاستهلاك والقيم السائلة(25).

 

فهل يبقى الأمل -في حياة تراحمية حقيقية- حيًّا للإنسان كما صرّح باومان عن طريق حفظ الكرامة الإنسانية من هذا التشيّؤ؟ وهل حقا الإنسان يسعى إلى التحرر الدائم من قهر الحداثة أم أن الإمبريالية النفسية قد تمكّنت دون مقاومة؟

 

ربما يرى البعض أن مناقشة العلاقات الإنسانية نوع من الترف في ظل ما تسببت فيه الحداثة والإمبريالية العسكرية للعالم الآن، لكن على قول د.هبة رؤوف فإن رحلة باومان خلف الحب السائل هي رحلة اجتماعية سياسية تبدأ من الفلسفة(26)، فالعالم الذي ينهار لم يكن ليتسارع نحو فَنائه دون أن يتفكك الإنسان، ولن يلتئم فصامه ما استمرّ الإنسان على تفكيكه بين إشباع الجسد وصرخات الروح التي تستغيث.

 

==========================================

 

الهوامش:

(أ): يمكن تعريف الحداثة بأنها المرحلة الفكرية التابعة للثورة الفرنسية وعصـر التحرر الأوروبي من الغيبيات وسلطة الدين وإعلاء العقل المادي فوق كل شيء والتحاكم إليه دون الغيبيات.

 

(ب): يعتبر مصطلح ما بعد الحداثة مصطلحا مطاطيا يحتمل الكثير من التعريفات، لكن يمكن إجمالها بتعريف المسيري لمصطلح (ما بعد) وهو التعبير عن مرحلة تفكك النموذج القائم وعدم إيجاد بديل له.

 

(ج): الطوبيا هي مفهوم استعمله بيغوفيتش لوصف المجتمعات التي تسعى للوصول للمثالية في الإدارة والإنتاج والتعليم والصناعة ولكن بشكل آلي ومادي لا يراعي الجوانب الإنسانية والعاطفية.

 

(د) البرجوازية هي طبقة اجتماعية تمتلك رؤوس الأموال والحرف، كما تمتلك كذلك القدرة على الإنتاج والسيطرة على المجتمع ومؤسسات الدولة للمحافظة على امتيازاتها ومكانتها بحسب نظرية كارل ماركس.

المصدر : الجزيرة