شعار قسم ميدان

المدينة المشوّهة.. بين ابتلاع القاهرة واحتلال جزيرة الورّاق

ميدان - جزيرة الوراق
في وقت ما من منتصف سبعينيات القرن الماضي بباريس، يحكي ديفيد هارفي أن هنري لوفيفر(1) -وهو فيلسوف وعالم اجتماع ومخطط حضري فرنسي- رأى ملصقا على جدار بشارع في باريس، يعرض رؤية بديلة لمدينة باريس تستلهم فيه روح مدينة باريس القديمة بالزهور المزروعة في الشرفات والميادين الممتلئة بالناس والأطفال والمتاجر والورش والمقاهي، والمتنزهين على ضفاف النهر والحدائق العامة.

 

فيما كانت باريس الجديدة حينها تتشكل وتهدد بابتلاع القديم ابتلاعا مأساويا، فالمباني الشاهقة حول ميدان بلاس دي-إتالي كانت تهدد بغزو المدينة القديمة، أما مباني الإسكان العام الشاهقة والفاقدة للروح في الحي الثالث عشر وفي الضواحي، فتعيد تشكيل نمط الحياة النابض للأحياء التي أقيمت قديما حول ورش الحرفيين في حي "لو مايز" التاريخي.

 

هذا المعمار الأوروبي الحديث والرائع لدرجة الإبهار البصري والذي يفتقد إلى الروح، هو ما كان يهدد العمارة القديمة في باريس، أما في القاهرة الجديدة وفي العاصمة التي حاول الخديوي إسماعيل استنساخها من باريس في عصره فقد شُيدت بتخطيط عمراني لا يفهمه أهل القاهرة، كما يعد غريبا عليهم وعلى طريقة حياتهم اليومية، حيث حاول الخديوي استلاب المدينة العربية وإعادة تخطيطها عمرانيا حسب هواه الأوروبي، الأمر الذي سيتكرر في أغلب المدن العربية بطرق مختلفة وسيعرف بالعمارة الكولونيالية أو الاستعمارية، ثم سيتطور فيما بعد لنوع آخر من العمارة يشبه نسخة مشوهة من العمران الجديد الذي ظهر في سبعينيات باريس وسيعرف بعمارة ما بعد الكولونيالية أو ما بعد الاستعمار.

 

تعتمد الأنظمة الشمولية والاستبدادية تخطيطات عمرانية حديثة لتفكيك هوية المدن العربية وبيعها جاهزة للاستثمار الخليجي، كما يحدث في جزيرة الوراق حاليا
تعتمد الأنظمة الشمولية والاستبدادية تخطيطات عمرانية حديثة لتفكيك هوية المدن العربية وبيعها جاهزة للاستثمار الخليجي، كما يحدث في جزيرة الوراق حاليا
  

أما الآن فيجتاح المدن العربية نوع أكثر تشوها وبشاعة وهو أشبه بالعمران الخليجي وعمران ناطحات السحاب والكمبوندات الصحراوية المحصنة، والذي استخدمه الحكم العسكري في مصر مؤخرا لبناء عاصمة إدارية جديدة خارج العاصمة القديمة المزدحمة، والذي يستحيل وصول الحشود الغاضبة إليها -نظريا على الأقل- فتصبح حينها أدوات الاحتجاج مثل الاعتصام والإضرابات والمظاهرات في قلب المدن وأمام المصالح الحكومية بلا نفع ولا تأثير، ليس ذلك فقط بل تعتمد الأنظمة الشمولية والاستبدادية تخطيطات عمرانية حديثة لتفكيك هوية المدن العربية وبيعها جاهزة للاستثمار الخليجي(2) كما يحدث في جزيرة الوراق حاليا.

 

عالم ديزني والذاكرة المعمارية للمدينة
على عكس المدن القديمة التي تأسست كبؤرة تحوي أشكال الوجود الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي المتنوع لسكانها، وبؤرة تصاغ داخلها العلاقات بين الأفراد في بعديها المادي والرمزي، كعلاقات تواشج وتضامن وتبادل للمنفعة(3)، وعلى عكس المدينة العربية الإسلامية القديمة التي تأسست داخل إطار من التأسيس الديني، كان المسجد مركزها، أتت المدن الحديثة متمركزة حول السوق، وبدلا من أن تكون احتياجات البشر الاستهلاكية داخل محل بقالة على ناصية الشارع، أصبح "المول التجاري والسوبر ماركت" هو مركز المدينة ومركز الحي السكني، ومعبده الديني الذي يشد الناس الرحال إليه.

 

يشرح هنا ديفيد هارفي(4) كيف أن "التسويق" وما يطلبه السوق أصبح هو ما يشكل القيمة داخل المدن، وكلما زادت سهولة تسويق الشيء قلت خصوصيته وتفرده، بل في كثير من الأحيان يميل التسويق لتدمير التفرد والخصوصية. وإذا ما طبقنا هذا الأمر على العمارة سنجد أن الإعلانات التجارية تجد صعوبة في تسويق بيت قديم أو لترويج بين جديد بمواصفات معمارية خاصة، بينما تميل لتسويق الأبراج الشاهقة التي تنتشر صورتها في العالم كله وفي جميع الدول والتي لا تملك أي خصوصية معمارية أو شكل متفرد.

  

العالم كله الآن يعيد تصميم نفسه كعالم ديزني، عالم من مراكز الترفيه والكرنفالات الدائمة والتشابه المعماري المستنسخ، وهذا النمط هو ما بدأ ينتشر في العالم العربي بدءًا من دبي وحتى الدار البيضاء
العالم كله الآن يعيد تصميم نفسه كعالم ديزني، عالم من مراكز الترفيه والكرنفالات الدائمة والتشابه المعماري المستنسخ، وهذا النمط هو ما بدأ ينتشر في العالم العربي بدءًا من دبي وحتى الدار البيضاء
  

يحكي هنا ديفيد هارفي شكوى وصلته من طالبة تخبره أن تجربتها في أوروبا تبدو ضحلة إذا ما قورنت بتجربة عالم ديزني، فتقول: "في عالم ديزني الدول كلها قريبة من بعضها البعض ويعرضون لك الأفضل من كل دولة. أوروبا مملة، الشعوب تتحدث لغات غريبة وكل شيء متسخ، في بعض الأحيان لا ترى أي شيء مثير للاهتمام. لكن في عالم ديزني يحدث شيء مختلف طول الوقت، والناس سعداء، إنها أكثر إمتاعا بكثير إنها مصممة بشكل جيد"(5).

 

لا ينطبق هذا الأمر على أوروبا وحدها، وهي التي تحاول تصميم نفسها كعالم ديزني كما يحدث في برشلونة (6)، بل إن العالم كله الآن يعيد تصميم نفسه كعالم ديزني، عالم من مراكز الترفيه والكرنفالات الدائمة والتشابه المعماري المستنسخ، وهذا النمط هو ما بدأ ينتشر في العالم العربي بدءًا من دبي وحتى الدار البيضاء، فيتطاول البنيان وتظهر الأبراج وناطحات السحاب على أنقاض المدينة القديمة، فتبدأ بمحو الأماكن التي كانت تشكل الذاكرة المعمارية لسكان المدينة.

 

أبراج شاهقة تعيد رسم المدينة وتغير فلسفة عمرانها
"فقط أذكر أن الأمور كانت تسوء بلا انقطاع.. وفي كل مرة كان الفارق بين الوضع أمس واليوم طفيفاً، لذا يغمض المرء عينه كل ليلة وهو يغمغم: أهي عيشة.. إذن فليكن غد.. ثم تصحو ذات يوم لتدرك أن الحياة مستحيلة، وأنك عاجز عن الظفر بقوت غد أو مأواه.."

(أحمد خالد توفيق، يوتوبيا)

    undefined

   

في المدن العربية وبعد الربيع العربي الذي انتهى بموجة أشد من الاستبداد خاصة في مصر، لم تكن محاصرة المعارضين ببناء مزيد من السجون كافية، بل عملت الأنظمة الاستبدادية على تشييد عمران للمعاقبة (7)، فبدأت في خصخصة الفضاء العام وعسكرته بتوفير مزيد من الإجراءات الأمنية في الشوارع والمتنزهات وحتى المحلات(8).

 

هكذا تغيرت فلسفة العمران في المدينة العربية بدلا من الاتفاق على مساحات للحياة المشتركة، أصبحت الدفاع عن مناطق السكن الراقية والحفاظ على أمن سكان الأبراج وحدهم، واختُزلت المناطق العامة في جيوب ذات مداخل محددة لحراستها من أي حشود معارضة، بل أصبح نمط العمران هو الانفصال والانعزال (9) كما تمثله المجمعات الصحراوية كـ"مدينتي"، بل وتجريم ما تبقى من الاختلاف بين الناس، فأصبح سكان الأحياء الراقية هم وحدهم أصحاب الرأي.

 

ولكي تنفذ الأنظمة العربية تلك الفلسفة فقد اعتمدت -بشكل واعٍ أو لا واعٍ- على إستراتيجيات معمارية أصبحت منتشرة في العصر الحديث. حيث يرى "كلود ليفي شتراوس" أن هناك إستراتيجيتين للتعامل مع الأغيار، الأولى هي إستراتيجية الإقصاء، والثانية هي إستراتيجية الدمج.

 

أولًا: الأماكن الطاردة
undefined
  
يذهب عالم الاجتماع زيغمونت باومان (10)إلى أن الفضاء العام في المدن الحديثة مهما اختلفت في النوع والحجم، فهي تقع تحت واحدة من فئتين كبيرتين يكمل كل منهما الآخر، ويسمي باومان الفئة الأولى بـ"الأماكن الطاردة" ويضرب مثالا له بالمكان الذي يُقال له "لاديفونس" في فرنسا وهو "عبارة عن ميدان شاسع يقع على ضفة نهر السين اليمنى، وكان الرئيس الفرنسي السابق "فرانسوا ميتران" هو الذي ابتكر فكرته، وأمر ببنائه، وأشرف عليه تخليدا لحقبته الرئاسية التي شهدت انفصالا حادا بين منصب الرئاسة وضعف وفشل شخص الحاكم، فيجسد هذا المكان سمات المكان الطارد، فأول ما يستوقف من يزور "لاديفونس" هو وحشة المكان، وكل ما يقع عليه البصر يبعث على المهابة، لكنه لا يشجع على المكوث طويلا".

 

يحث هذا المكان وسماته زواره على مغادرته سريعا؛ لأن من ينظر إلى هيبة مبانيه يضيق صدره "فتلك القلاع/الصوامع، المنيعة التي تقع في الميدان ولا تنتمي إليه تدفع كل من يأتيه أن يقتدي ويسترشد بها، فيشعر أنه بداخل الميدان إلا أنه لا ينتمي إليه، فلا شيء يغير من الفراغ الرتيب رغم اتساعه، ولا مقاعد صالحة ولا أشجار يستظل بظلها من لهيب الشمس الحارقة، ونظرا إلى ما يتسم به جدول مواعيد قطارات المترو هناك من انتظام ممل، لا ينفك المرء يرى الطوابير ومواكب المارة كأنهم نمل يخرج من باطن الأرض فجأة، ثم يتفرقون فيحل محلهم مارة آخرون بعد قليل وهكذا"(11).

 

كذلك تم تصميم هذا النمط من الميادين ليكون للأغراب، مثلما قدم فيلم "الإرهاب والكباب" صورة تيه المواطن العادي في مجمع التحرير بميدان التحرير بالقاهرة، ويعتبر ميداني التحرير ورمسيس بالقاهرة نموذجان للأماكن الطاردة، التي يمر بها الأغراب يوميا لقضاء مصلحة ما ثم مغادرتها سريعا، كذلك أراد النظام المصري الحاكم منذ انتهاء فترة الاستعمار الإنجليزي، أن يكون ميدان التحرير هو قلب العاصمة، ففيه تقع المصالح الحكومية، وفي نفس الوقت يعد مكانا طاردا للحشود ومعبر للغرباء المرتحلين، إلى أن سيطر عليه المتظاهرون في "ثورة يناير" مما أوجب تغيُرا في عمارته.

 

ثانيًا: الأماكن الملتهمة
undefined
  
يكمل زيغمونت باومان (12) أن الفئة الثانية من الفضاءات العامة "غير الاجتماعية" هي لخدمة المستهلكين فقط، أو بالأحرى لتحول سكان المدينة إلى مستهلكين. وتضيف ليزا أو سيتالو (13): "يجتمع المستهلكون في فضاءات استهلاكية مادية ملموسة، مثل قاعات الحفلات الموسيقية، وقاعات المعارض، والمنتجعات السياحية، ومواقع الأنشطة الرياضية، والمجمعات التجارية، والمطاعم وذلك من دون أن يكون لهم أدنى تفاعل اجتماعي فعلي".

 

حيث تشجع هذه الفضاءات على الفعل لا على التفاعل، ويقول باومان أن "المهمة الأصلية لتلك الأماكن هي الاستهلاك الذي يمثل هواية ومتعة ذاتيين لا يمكن تعويضهما بأي حال من الأحوال". ويرى عالم الاجتماع الأميركي جورج ريترز (14) "أن الحشود التي تكتظ بها مداخل معابد الاستهلاك، هي حشود احتفالية وليست تعبدية، تكتلات وليست جماعات، حشود وليس كليات. فربما تعاني أماكن الاستهلاك من الزحام، لكنها تخلو من أي فعل اجتماعي ". هكذا تفعل الأماكن الملتهمة، فهي تشتت الحشود إلى أفراد غرضهم واحد لكن حركتهم متضادة، ويعلق هنا الفيلسوف لويس ألتوسير (15) "أن من يدخل مثل هذه الأماكن يتم استجوابه بصفته الشخصية الفردية، يُطلب منه أن يتخلى عن علاقاته وروابطه أو يمزقها، وأن يُسقط ولاءاته أو ينحيها جانبا".

 

ويضيف المفكر عبد الله العروي (16) "أن الاستهلاك فعل ما لم تقدر الأديان على فعله، وهو توحيد البشر". وذلك النمط من الأماكن الملتهمة هو ما سيظهر بصورة واضحة وجلية في أغلب المدن العربية، صورة المولات التجارية ومجمعات المطاعم السريعة، وأسواق المتاجر ذات العلامات التجارية العالمية.

 

ثالثًا: أماكن "اللامكان"
undefined
  
يشرح باومان أن ثمة تصور ثالث مألوف يطلق عليها جورج بيكو "اللامكان"، حيث أن أماكن اللامكان هي أماكن تسمح بنزول الغرباء فترات طويلة، لكنه يلغي ذاتية المارة أو يجعلها هي والعدم سواء، "فاللامكان فضاء يخلو من السمات الرمزية التي تكشف عن الهوية أو العلاقات أو التاريخ، ومن أمثلته المطارات الجوية، والطرق السريعة، والغرف الفندقية، ووسائل النقل العام". (17) فتخلو تلك الفضاءات من المعاني والدلالات، وتخلو من أي تحاور بشأن الاختلافات، وهي أماكن غير مستعمرة، لكنها فائض لتصميمات عمرانية أخرى، وهي طرق لمدن محصنة في الصحراء كمدينتي والعاصمة الإدارية الجديدة في مصر، أو طريق خالي يعمه الصمت والفراغ مثل الطرق السريعة، لكنها ترسم خريطة العمران في ذهن أناس مختلفون يستخدمونها يوميا في حياتهم.

 

لذلك، فأنواع الأماكن مثل "الأماكن الطاردة والأماكن الملتهمة" لا يمكن أن تقوم إلا عبر "اللامكان"، وهذا ينعكس على الطرق ووسائل النقل التي يركبها الغرباء العابرون للميادين الطاردة أو يسلكها المستهلكون إلى الأماكن الملتهمة. وهو ما تقوم عليه العاصمة الإدارية الجديدة في مصر والمجمعات الصحراوية على حدود القاهرة المزدحمة، وتلك هي المكونات الأساسية لنمط العمران الخليجي الذي تريد الأنظمة العربية أن تغمر به المدن العربية.

 

باريس والقاهرة ودبي.. صور استلاب المدينة العربية
"نعم.. لم يكن للمصريين ما يباع سوى الماضى.. وقد اشتريناه"

(أحمد خالد توفيق، يوتوبيا)

 

أثناء تلقي الخديوي إسماعيل جانبا من تعليمه في باريس افتُتن الخديوي إسماعيل بالعاصمة باريس. "فسار بين معالمها مشدوهاً إلى عمرانها الحديث. وحين أراد بناء عاصمته الجديدة، «القاهرة الإسماعيلية» والقاهرة الخديوية"، استقدم مصمّمها جورج هوسمان ليجعل مركز الحكم الجديد في مصر (قطعة من أوروبا أو باريس الشرق)"(18)

 

فقام الخديوي بتغيرات عمرانية جذرية "فهجر قلعة جده ونقل مركز الحكم لأول مرة منذ صلاح الدين الأيوبي إلى قصر عابدين الذي شيّده في حي ضخم جديد سمي بـ القاهرة الإسماعيلية والقاهرة الخديوية (حي وسط البلد حالياً) ".(19) كذلك فإن حاكم مصر العسكري يعتزم نقل مركز الحكم إلى عاصمة إدارية جديدة في طريق السويس. وعلى نهج إسماعيل، مع الفارق، فإن العمران الجديد ذو طابع نيوليبرالي خليجي صحراوي (20) يتلاءم مع تحالفات حاكم مصر الإقليمية وشركاء جيشه في الاستثمار العقاري.

  

لم يقترف إسماعيل خطيئة بونابرت الثالث، الذي أسس باريس الحديثة على أنقاض باريس القديمة، بل أنشأ قاهرته الخديوية في مكان جديد
لم يقترف إسماعيل خطيئة بونابرت الثالث، الذي أسس باريس الحديثة على أنقاض باريس القديمة، بل أنشأ قاهرته الخديوية في مكان جديد
  

"لكن يمكن تشبيه الفارق بين عاصمة الخديوي إسماعيل وعاصمة حاكم مصر بالفارق بين باريس ودبي. لم يقترف إسماعيل خطيئة بونابرت الثالث، الذي أسس باريس الحديثة على أنقاض باريس القديمة، بل أنشأ قاهرته الخديوية في مكان جديد، محل مستنقعات الأزبكية التي كان النيل يفيض فيها موسمياً قبل التحكم النهائي في مساره الحالي. على الرغم من ذلك، لم تنفصل قاهرة إسماعيل عن قاهرة القرون الوسطى، فلم يكن هناك سور عازل، ولا فاصل من الخلاء بين أحياء السيدة زينب والخليفة والقلعة وبين حي عابدين، حيث أقام الخديوي قصره ومركز حكمه الجديد، أما عاصمة حاكم مصر فلن تكن -غالباًـ سوى فقاعة خليجية معزولة مكيفة الهواء، شديدة صفار الرمال، شديدة سواد الأسفلت، مركباتها فاخرة، وألوانها فاقعة، كثيرة السلالم الكهربية، جدرانها من الزجاج العاكس، وأرضيتها من الرخام الأملس، حيرانة بين وادي النيل وبين ساحل خليج السويس، فلا هي نهرية ولا بحرية".(21) لكنها تعتمد أنماط العمران الحديث والذي يتألف من الأماكن الطاردة والملتهمة واللامكان، فداخل تلك المدن الجديدة لا يوجد مكان للمارة، فوسيلة الانتقال هي الإطارات الهوائية فقط، وتحيط تلك المدينة طرق سريعة وصحراء من المجمعات وأسوار تعيق وصول أي حشود على عتبات المصالح الحكومية.

 

وبالتوازي مع نقل مركز الحكم، فإن القاهرة وخاصة منطقة وسط البلد، هما الكنز الذي ينتظر النيوليبرالية المصرية والعالمية(22)، فقد "تدهورت أحوال منطقة وسط البلد بسبب الزحام وسوء التخطيط والحراك الطبقي النازل وتدني مستويات الدخل عموماً. هجرها أغلب سكانها الأصليين لأسباب متنوعة، فتحوّلت مساكنها الفسيحة إلى مقار إدارية ومكاتب، بل إلى مخازن أحياناً، وقُضي على بهاء المنطقة تماماً بتشغيل مترو الأنفاق الذي نقل عشرات الآلاف يومياً من الهامش الريفي المتحضر في أطراف المدينة إلى مركزها سعياً وراء الرزق" (23).

 منذ فترة قصيرة ظهر على الساحة اسم «مصطفى المدبولي» لأول مرة عام 2009 حين تم الإعلان عن مخطط «القاهرة 2050» "الذي يرفع شعار التطوير والتنمية ويضمر التجريف البشري لأغراض «الصيانة» والاستثمار الرأسمالي"(24)ويمكن تلخيص مصير مركز الحكم الحالي في رؤية مشروع «القاهرة 2050» بأنها العودة بالجدران والشوارع إلى القاهرة كما كانت في النصف الأول من القرن العشرين، مع إحلال البشر و"تجديدهم" بمن لديه القدرة على الدفع من المتقاعدين والعجائز. كما تضطلع شركة تدعى «الإسماعيلية» (25) بهذا الدور المهم في شراء عقارات وسط البلد بأموال طائلة.

 

الوراق: مانهاتن على النيل – القاهرة 2050
تصميم متخيل لمشروع جزيرة الوراق (إحدى الشركات القائمة على المشروع)
تصميم متخيل لمشروع جزيرة الوراق (إحدى الشركات القائمة على المشروع)
 
كتب الدكتور نائل الشافعي على صفحته أن شروط قرض صندوق النقد الدولي الذي يتلقاه النظام الحاكم الآن في مصر هي (26):

– خفض عجز الإنفاق، بخفض الالتزامات (الدعم) ورفع الإيرادات (أسعار الطاقة).
– الاندماج الكامل في الاقتصاد العالمي بنبذ مبدأ الاكتفاء الذاتي في جميع المجالات وإزالة العوائق أمام التجارة العالمية، وتسهيل تنقل الأموال عبر الحدود بدون ضرائب (أو أقلها) وبدون قوانين عمل تقيد المستثمرين.
– الاعتماد الكبير على إطلاق سوق عقارية قوية تحفز المواطنين والأجانب على الاستثمار، وتطلق حركة إنشاءات قوية تكون هي المحرك الرئيسي للاقتصاد.

"لذلك مع تولي جمال مبارك قيادة مصر الفعلية (ومعه لجنة سياسات الحزب الوطني) في 2007، بدأ البنك الدولي في صياغة ما أسماه "رؤية القاهرة 2050". تلك الرؤية اكتملت في (أبريل/نيسان) عام 2009، وأعلن عنها وزير الإسكان أحمد المغربي والدكتور مصطفى كمال مدبولي رئيس هيئة التخطيط العمراني.

 

ويكمل الشافعي أن: رؤية القاهرة 2050 اهتمت بمظهر المدينة العام، حتى أن مجلس الوزراء عقد أكثر من جلسة في 2009 لمناقشة منظر أفق المدينة (Skyline) والتاكسي الطائر واستخدام النيل كمحور ترفيهي. جرت تلك الاجتماعات لمجلس الوزراء بينما يغرق 70% من الشعب تحت خط الفقر وتشتعل أحداث فتنة طائفية جديدة في ربوع مصر.

  

قامت في (أبريل/نيسان) 2009 تحركات أمنية في جزيرة الوراق لبدء مصادرة الأراضي بزعم أنها مأخوذة بوضع اليد، وحدثت صدامات بين المواطنين والشرطة آنذاك، جعلت الدولة تتوقف عن تنفيذ المشروع
قامت في (أبريل/نيسان) 2009 تحركات أمنية في جزيرة الوراق لبدء مصادرة الأراضي بزعم أنها مأخوذة بوضع اليد، وحدثت صدامات بين المواطنين والشرطة آنذاك، جعلت الدولة تتوقف عن تنفيذ المشروع
  

وأبرز عناصر رؤية القاهرة 2050 -حسب الشافعي- كان تفريغ العاصمة بنقل الوزارات إلى عاصمة جديدة في محيط القاهرة وإنشاء حي خدمات مالية مشابه لجزيرة مانهاتن بمدينة نيويورك. هذا الحي سيكون في "جزيرة الوراق" ومقار شركات في جزيرة الدهب، وتطوير الواجهة النيلية بداية من مثلث ماسبيرو حتى روض الفرج بمساحة 1200 فدان بطول 6 كيلومترات.

 

وبدأ على الفور في (أبريل/نيسان) 2009 تحركات أمنية في جزيرة الوراق لبدء مصادرة الأراضي بزعم أنها مأخوذة بوضع اليد. وحدثت صدامات بين المواطنين والشرطة آنذاك، جعلت الدولة تتوقف عن تنفيذ المشروع. ولعل أحجام نظام مبارك عن تنفيذ الإصلاحات الهيكلية المطلوبة من البنك الدولي كانت سبباً في قرار إقالة مبارك واستبداله بالمجلس العسكري.

 

"واستمر البنك الدولي في حث مصر على اتباع روشتة الإصلاح الهيكلي في عهود المجلس العسكري ثم مرسي، ولكن القيادتين لم تجرؤان على (أو لم تريدا) اتخاذ الخطوات الصعبة المتمثلة في رفع الدعم وتعويم العملة. ثم جاء السيسي وقام بالخطوتين الرئيسيتين، بخطوات قمعية غير مسبوقة. فأصبح لزاماً عليه تنفيذ العنصر الثالث في روشتة البنك الدولي، ألا وهي: إطلاق سوق عقارية قوية عبر رؤية البنك الدولي المسماة "القاهرة 2050″. وهو ما دفع السيسي لمحاولة إخلاء جزيرة الوراق حتى يتم تطويرها حسب رؤية البنك الدولي."

 

يذكرنا ذلك بما تفعله سلطات الاحتلال الصهيونية في فلسطين وهو النمط نفسه الذي تنتجه الأنظمة العربية في العراق وسوريا، وهو التفريغ الديموغرافي والعمراني للسكان الأصليين وتدمير المدن وإحلالها بسكان ومباني جديدة.

المصدر : الجزيرة