شعار قسم ميدان

"القراءة في السرير".. كيف تطور مفهوم القراءة المنفردة؟

ميدان - القراءة في السرير
مقدمة المترجمة

هذا أحد المقالات السوسيولوجية والأنثروبولوجية التي نتمنى أن نجد مثيلا لها في المحتوى العربي. في هذا المقال، من خلال سلوك القراءة، وفي تتبع لنشوء ظاهرة القراءة المنفردة، يرسم الكاتب تحليلا أوسع لسلوكيات إضافية عرفتها المجتمعات الأوروبية في تلك الفترة. لكن المقال أيضا، يفتح الآفاق على موقف العالم العربي من القراءة، لماذا تكره الأجيال السابقة رؤيتنا نحمل الكتب؟ هل للأسباب ذاتها؟ بهذا الصدد، أرشح للقراءة كتابا بعنوان "تطور المتع البشرية"، صدر عن المنظمة العربية للترجمة.

 

نص التقرير

في إحدى صباحات عام 1831، عُثر على اللورد والسينغهام في سريره محترقا حد التفحم. وتضيف مجلة سبكتاتور "كانت بقاياه بالكامل تقريبا عبارةً عن هشيم، احترقت يداه وقدماه حتى صارت رمادا، بينما ظل رأسه والهيكل العظمي لما تبقى، الشاهد الوحيد المتبقي على صلته بالكائنات البشرية". زوجته أيضا، لاقت نهاية تراجيدية، فقد اضطرت للقفز من النافذة هربا من الحريق، إلى حتفها.

 

 سجل كتاب "مرصد العائلة" ميتة اللورد والسينغهام، آنذاك، ميتة عصرية. واستنتج المحرر أنه لاقى هذه الميتة النكراء بعد غفوته أثناء القراءة في السرير، وهي ممارسة سيئة الصيت ارتبطت بالموت حرقا؛ لأن الأمر تطلب إنارة الشموع. سرعان ما شكلت الواقعة عبرة تستخدم في تحذير القراء من استفزاز القدر بقضاء الوقت في القيام بـ"أفظع النوائب والمصائب" والمتمثلة بقراءة كتاب في السرير. كان يُطلب من القراء، عوض ذلك، اختتام يومهم بـ"صلاة تحفظ أجسادهم من المهالك والشرور". تجدر الإشارة إلى أن اعتبار القراءة في السرير نقيصة أخلاقية، في افتتاحية الكتاب، كان رأيا شائعا في تلك الفترة.

أثارت القراءة في السرير جدلا لأنها كانت سلوكا جديدا: في الماضي، كانت القراءة ممارسة جماعية وشفوية، بينما كانت القراءة الصامتة نادرة وجديدة.
أثارت القراءة في السرير جدلا لأنها كانت سلوكا جديدا: في الماضي، كانت القراءة ممارسة جماعية وشفوية، بينما كانت القراءة الصامتة نادرة وجديدة.
 

كان الربط بين الموت والفضيلة معقولا بدرجة ما؛ فقد اعتبر الكذب بشأن القراءة في السرير عملا دنيئا لما يمكن أن يتسبب به من خسائر في الأرواح والممتلكات. وقد تناولت كتابات متفرقة من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تلك العواقب الوخيمة المترتبة على القراءة في السرير.

ضمن مذكراتها التي حملت عنوان "حكاية حزينة صادقة"(1791)، تعرض حنة روبرتسون أحد الشواهد: في حكاية مثيرة  لعلها التجسيد الأمثل لعبارة "من سيء لأسوأ"، يحل عليهم ضيف نرويجي يمارس نشاط ما قبل النوم المنحوس المتمثل في النوم بصحبة كتاب: "التقطت الستائر النيران، وجالت ألسنة اللهب من قطعة أثاث لأخرى، ومن مبنى لآخر، لتأتي في النهاية على معظم ممتلكاتنا تقريبا". حتى الشخصيات الشهيرة المتوفاة لم تسلم من التقريع المصاحب لهكذا ممارسة؛  عام 1778 ذمّت سيرة غيرية، عن صمويل جونسون عادة قراءته في السرير، ونُعت فيها الكاتب البريطاني الراحل بالصبي الوقح. بينما زعمت سيرة أخرى عن جوناثان سويفت، بأن رجل الدين والخطابة كاد أن يحيل قصر دبلين إلى رماد، وأنه حاول التكتم على الواقعة بدفع رشوة.

في الحقيقة، كانت القراءة في السرير أقل خطورة مما أوحى به الاستنكار العام. فمن بين 29.069 حريقا مسجلا في لندن  بين 1833-1866، ارتبط 34 حريقا فقط بالقراءة في السرير بينما كانت القطط مسؤولة عن نسبة مماثلة من حوادث الحرائق.

 
لماذا، إذا، شعر الناس بالتهديد من ذلك السلوك؟ في جزء منه، أثارت القراءة في السرير جدلا لأنها كانت سلوكا جديدا: في الماضي، كانت القراءة ممارسة جماعية وشفوية، بينما كانت القراءة الصامتة نادرة وجديدة. نستدل على ذلك من كتاب الاعترافات لأوغسطين، وهو يعبر عن دهشته من رؤية سان أمبروس يلتقط معاني النصوص بإجالة نظره عبر الصفحات، حتى عندما "كان ساكن الصوت ثابت اللسان".
 

مع ابتكار السرير ذو الأعمدة الأربع ابتكر مفهوم الخصوصية الحديث (بيكساباي)
مع ابتكار السرير ذو الأعمدة الأربع ابتكر مفهوم الخصوصية الحديث (بيكساباي)

حتى القرنين السابع عشر والثامن عشر، كان يعتبر جلب كتاب إلى السرير امتيازا نادرا يختص به أولئك الذين يجيدون القراءة، أو من يمتلكون امتياز الوصول إلى الكتب والوسائل ليكونوا بمفردهم. فقد غير اختراع آلة الطباعة من القراءة الصامتة لتصير أمرا متعارفا عليه، ومرتبطا بمفاهيم الخصوصية والحرية الشخصية التي كانت قد ظهرت للتو آنذاك. بحلول القرن السابع عشر، كانت القراءة المنفردة قد أصبحت ممارسة شائعة، وعادة ما كانت الكتب توضع في غرف النوم عوض غرفة الجلوس أو الدراسة.

في هذه الأثناء، كانت غرف النوم تمر بتغيير أيضا. أصبح نشاط النوم نفسه أقل اعتمادا على المؤانسة وأشد انفرادية. ففي القرنين السادس عشر والسابع عشر، حتى الشخصيات الملكية افتقرت إلى الخصوصية التي يعتبرها أفراد الزمن الحالي أمرا مفروغا منه، عند حلول الليل. لدى أسرة تيودور، الأسرة الويلزية التي حكمت إنجلترا في القرن السادس عشر، كان في وسع الخادمات النوم قرب السرير أو الاندساس تحت الملاءات مع فتيات الطبقة الملكية لتدفئتهن. وفي النهار، كان السرير يعدُّ مركز حياة البلاط الملكي. كان الملوك فيما مضى يفردون مخدعا منفصلا لتسوية الأعمال التجارية الملكية. في الصباح، كانوا ينتقلون إلى غرف أخرى تكون جزءا من القصر، مُعتلين أسرةً أبهى وأشد ترفًا لاستقبال الزوار.

 
في أوروبا الحديثة المبكرة، استلهم عامة الناس قواعد سلوك السرير من الشخصيات الملكية. كانت بيوت الفلاحين المتواضعة تتألف من غرفة واحدة. وبحكم الضرورة، كانت العائلة برمتها تتشارك سريرا واحدًا، أو ترصف عددا من الأسرة إلى جانب بعضها بعضا. أما في البيوت البرجوازية ذات المساحة الأوسع وحيث ثمة إمكانية لتعدد الغرف، كانت غرفة النوم تستصلح كحيز لاجتماع العائلة.

من هنا، وفي تلك الفترة،  تم ابتكار السرير ذو الأعمدة الأربع.  ومعه ابتكر مفهوم الخصوصية الحديث. في منزل مزدحم، يتألف من غرفة واحدة، كان إسدال الستائر على السرير يمثل فرصة نادرة للاختلاء بالنفس؛ وعليه فقد أجج سلوك الاختلاء سلوكًا قمعيا مقابلا له.
 

لم يكن الخطر الذي سلطته القراءة نابعًا من الخوف من إضرارها بالحياة أو الأملاك، وإنما بسبب التلاشي الملحوظ للثوابت التقليدية
لم يكن الخطر الذي سلطته القراءة نابعًا من الخوف من إضرارها بالحياة أو الأملاك، وإنما بسبب التلاشي الملحوظ للثوابت التقليدية
 

في تتبعه لظاهرة العادة السرية، في كتاب بعنوان "جنس المنفردين بأنفسهم"، يرسم المؤرخ توماس لاكر صلة مباشرة بين سخط أبناء القرن الثامن عشر على الانفراد، وقراءة الروايات الصامتة،  ومكانة العادة السرية الجديدة في المجتمع بوصفها خطرًا يتهدد العامة. "إن الروايات، كالعادة السرية، خلقت للنساء بديلا، لقد منحتهم رفاقا في السرير". أدينت هذه "الرذائل الانفرادية" كما يطلق عليها لاكر، مخافة أن تؤدي الاستقلالية الفردانية إلى انهيار النظام الأخلاقي القائم على الجماعية. ومع تغير نشاط النوم من نشاط اجتماعي عمومي إلى نشاط أشد خصوصية، أضحى السرير نقطة اشتعال ذلك القلق.

في المحصلة، لم يكن الخطر الذي سلطته القراءة نابعًا من الخوف من إضرارها بالحياة أو الأملاك، وإنما بسبب التلاشي الملحوظ للثوابت التقليدية. التغييرات التي طرأت على القراءة والنوم عززت من الاكتفاء الذاتي، وهو حجر الأساس في أسلوب تفكير عصر الأنوار. هذا الموقف الجديد حلَّ وثاق فرد القرن الثامن عشر من المجتمع، من بيئة اجتماعية تنتشر فيها القراءة الشفوية وعادات النوم الجماعي وتطمر الفرد في جماعة. حيث يكون في وسع فتاة شابة، عند النوم،  سماع شخير والدها، أو تحسس جسد شقيقتها الصغرى مكورا عند قدميها. وحيث يكون أحد رجال السلطة حاضرًا لتفسير النصّ، عند الاستماع لنصوص الكتاب المقدس.

خشي الناس من أن تولد القراءة المنفردة حياة خاصة، خيالية تهدد الجماعة؛ بالأخص في أوساط النساء. النائم المنفرد بنفسه ينام ليلا وقد تشبّع خيالات عالم آخر، مكان يعرفه وحسب من خلال الكتب. خلال النهار، كانت فتنة الأدب التخييلي تغوي النساء بالبقاء في السرير بهدف القراءة، وهو ما كان يعرض التزاماتهن الاجتماعية للخطر.

التحولات الاجتماعية يرافقها التخوف الأخلاقي. الإنترنت، الذي قلب طريقة تفكير البشر وتواصلهم مع بعضهم بعضا، هو النسخة المعاصرة من الرواية، بخيرها وشرها  (بيكساباي)
التحولات الاجتماعية يرافقها التخوف الأخلاقي. الإنترنت، الذي قلب طريقة تفكير البشر وتواصلهم مع بعضهم بعضا، هو النسخة المعاصرة من الرواية، بخيرها وشرها  (بيكساباي)

يشاع أن مغنية السوبرانو المحتفى بها كاترينا جابرييلي كانت تقرأ رواية من هذا النوع عندما أهملت حضور حفل عشاء حضرته النخب الصقلّية في منزل نائب ملك باليرمو، الذي كان عازمًا على التقرب منها. وعندما أُرسل في طلبها، وجدها المبعوث على السرير، وقد بدا أنها غارقة في كتابها، بحيث نسيت أمر الحفلة كليا. اعتذرت للمبعوث عن سلوكها السيء، دون أن يزحزحها ذلك عن السرير بالطبع.

التحولات الاجتماعية يرافقها التخوف الأخلاقي. الإنترنت، الذي قلب طريقة تفكير البشر وتواصلهم مع بعضهم بعضا، هو النسخة المعاصرة من الرواية، بخيرها وشرها. يتوازى الخوف من دوره مع الخوف من القراءة في السرير في القرن الثامن عشر. لكن قراءة ما قبل النوم حاليا محل تحذير عوض أن تكون في مكانتها المفترضة. "على المرء الإقرار بانتصار الشاشة"، قال الروائي فيليب روث لصحيفة لوموند في 2013. "لا أذكر أن ثمة حزنا في حياتي يقترب من حزني لحال الكتب اليوم، بهذا الكم الذي تحتاجه من تركيز عنيد وتجميع متتابع.  وسيكون الأمر أسوأ في السنوات القادمة، وأشدّ سوءا فيما بعدها". 

ولعل روث محق؛ لأن التركيز العنيد والتجميع المتتابع يتطلبان العزلة. لكن لسخرية القدر، فإن قلق روث في القرن الحادي والعشرين هو بالتحديد ما يخالف قلق القرن الثامن عشر. اليوم، عندما يهجع الناس إلى أسرتهم ليلا، ينبثق لفيف من الأصدقاء والغرباء من شاشاتهم. التواصل الاجتماعي هو بالكاد مشكلة عندما يتعلق الأمر بالقراءة في السرير. اليوم، المشكلة تكمن في أن المرء لم يعد بوسعه القيام بذلك بمفرده.

_______________________________________________
مترجم عن: (ذا أتلانتيك)
المصدر : الجزيرة