شعار قسم ميدان

ما بعد سقوط الشاه.. كيف حمت الثورة الإيرانية مكتسباتها؟

مدونات - الخميني والثورة

يعتبر كثير من المتابعين أن هروب الشاه[أ] الإيراني في منتصف (يناير/كانون الثاني) 1979م خارج البلاد هو لحظة انتصار الثورة الإيرانية وإعلان النهاية لزخم الأحداث التي سبقتها، لكن يبدو أنه بالنسبة للإيرانيين أنفسهم فإن رحيل الشاه وعودة الخميني[ب]من منفاه لم يكونا سوى أولى خطوات إرساء قواعد التغيير، وهي الخطوات التي أذنت ببدء مرحلة انتقالية عصيبة في تاريخ الثورة المليئة بالأحداث ومحاولات الانقلاب والارتداد عن مكتسبات الثورة الإيرانية.

واجهت الثورة -بعد سقوط نظام الشاه- تحديّات كثيرة تمثلت في تمرّد عدّة جماعات عرقية، وعصيان مسلح قامت به مجموعة من فدائيي المدن، وحدوث تفجيرات في طهران أدت إلى مقتل عدد كبير من القادة الإيرانيين عام 1981م، بالإضافة إلى عدة محاولات انقلابية للنظام السابق، جنبا إلى جنب مع غزو واسع النطاق قامت به العراق ضد إيران(1). فكيف تم حماية مكتسبات الثورة إزاء هذه التحديات؟ وكيف استطاع الإيرانيون الحفاظ على انتصار الثورة الإيرانية عقب سقوط الشاه؟!

 

في ملاحظة مهمة تقول أمل حمادة مدرّسة العلوم السياسية بجامعة القاهرة أن الثورة "انتصرت بشكل فجائي، ولم يكن قادتها حتى مستعدون لمواجهة انتصار ما بعد الثورة، ولم يكن لديهم تصوّر واضح لشكل البديل الذي يمكن أن يلي نظام الشاه.. لكن التيار الديني تحت زعامة الإمام الخميني استطاع تجاوز المفاجأة التي أحدثتها سرعة انهيار نظام الشاه، وعمد بشكل فوري إلى إعادة صياغة المجتمع الإيراني وفق الرؤية التي امتلكها الإمام الخميني لشكل الحكومة الجديدة".

ثمّ توضح دلالة الدستور الجديد للثورة قائلة: "إن وضع الدستور كشف قدرة عالية للتيار الديني على ترجمة تصوّره للدور الذي يجب أن يقوم به الفقيه والمؤسسة الدينية، في مقابل عجز باقي القوى عن ترجمة أفكارها داخل الدستور أو حتى إلى مؤسسات إيرانية فاعلة داخل النظام"(2).

شاه إيران
شاه إيران "محمد رضا بهلوي"  (الجزيرة)

 

وضع الثورة في الدستور الجديد

اهتمّ الخميني بتحديد إطار قانوني جديد يسمح للطبقة الحاكمة الجديدة بضبط المجتمع ونظام الحكم كذلك، فقامت الحكومة الانتقالية بدعوة الجماهير في (أغسطس/آب) 1979م لانتخاب مجلس الأوصياء (الخبراء) لصياغة الدستور الجديد. وبعد مناقشات وتداولات مكثفة تم طرح مسودة الدستور الجديد للاستفتاء الشعبي في (ديسمبر/كانون الأول) من نفس العام(3)، ووافق عليه الشعب بأغلبية ساحقة.

 

استفتح الدستور الجديد ديباجته بالتأكيد على أن سبب فشل الحركات الثورية السابقة هو "عدم عقائدية هذه الحركات وابتعادها عن المواقف الإسلامية الأصيلة"(4)، وحرص الدستور على إبراز الهوية الإسلامية للدولة الإيرانية بشكل قطعي وصارم، وامتدّت دلالات الهويّة إلى الجيش نفسه الذي أصبحت مهمته الوطنية -في دستور الثورة- تتجاوز الحدود القومية وتصل إلى الجهاد ونشر أحكام الشريعة في العالم، أمّا السلطات الثلاث التنفيذية والقضائية والتشريعية فتهدف كلها إلى تحقيق القيم الإسلامية المتمايزة، وبالنسبة لحركة الاقتصاد فهي ليست وسيلة لجمع الربح والثروات كما في الرؤية الرأسمالية، وإنما هي لسد حاجيات الإنسان الأساسية وتشجيع ظهور المواهب المختلفة.

 

عمل الخميني على مركزة منصب الوليّ الفقيه في الدستور الجديد ليضمن استمرار خطّ الثورة على ما قامت عليه ابتداء في الدولة الجديدة. فمثلا، أكّد الدستور في فصله الخامس على أن السيادة المطلقة على العالم والإنسان هي لله الذي منح الإنسان حق السيطرة على مصيره الاجتماعي، ثمّ يقطع بأن السلطات الثلاث الحاكمة في إيران تمارس صلاحياتها بإشراف "ولي الأمر المطلق وإمام الأمة"(5). بالإضافة إلى ذلك، لا يُصدر المجلس التشريعي أي قانون إلا بموافقة مجلس الرقابة على القوانين الذي يختص بضمان موافقة القوانين مع الأحكام الإسلامية، وطبقا للدستور الجديد: يتكوّن هذا المجلس الجديد من اثني عشر عضوا، يختار المرشد الأعلى للثورة الإسلامية نصفهم، وهم ستة من الفقهاء العدول، بطريقة شخصية مباشرة.

 

حماية مكتسبات الثورة
لم يُقدم الخميني على إنشاء وحدة استخباراتية مؤسسية تحمي الثورة بسبب السمعة السيئة لمنظمة السافاك عند الشعب
لم يُقدم الخميني على إنشاء وحدة استخباراتية مؤسسية تحمي الثورة بسبب السمعة السيئة لمنظمة السافاك عند الشعب

رغم وضع الدستور والتصويت عليه إلا أنه عقب انتصار الثورة سادت حالة من اللانظام وعدم الاستقرار بطبيعة الفترات الانتقالية التي تعقب الثورات الكبرى، فمجاهدي خلق[ج] يتبنون الرؤية الماركسية ويخالفون الخميني في تصوّراته ورؤاه، والشعب متفرق بين الوحدات الثورية المسلحة والقرارات الفردية المتسرّعة أو المصالح الحزبية والأيديولوجية، وأنصار النظام السابق يحاولون استرجاع ما سُلب منهم، ودخلت الدولة الإيرانية في حرب مع جارتها العراقية، فكان هذا التشتت والصراع بين الأطراف المختلفة نذيرا بضياع مكتسبات الثورة، فكيف حافظ الخميني على مكتسبات الثورة وسط هذه الفوضى؟!

 

كانت المعلومات هي أهم قوة ينبغي أن يبدأ بها مشروع حماية الثورة. قبل سقوط الشاه اشتهرت منظمة المخابرات والأمن القومي الإيرانية -التي عُرفت باسم "السافاك" في عهد الشاه منذ تأسيسها عام 1957م- بكونها من أكثر أجهزة الاستخبارات دموية في العالم، اكتسبت هذه المنظمة سمعتها السيئة عبر سنوات من القمع والتعذيب والاغتيالات التي مورست طول سنين حكم الشاه(6). لذا كان من المنطقي أن يتم التخلّص من هذه المؤسسة سيئة السمعة ليحلّ محلها منظمة المعلومات والوثائق الوطنية، لكن لم يُقدم الخميني على إنشاء وحدة استخباراتية مؤسسية تحمي الثورة بسبب السمعة السيئة لمنظمة السافاك عند الشعب(7)، لكن بعد العمليات المسلحة التي قامت بها منظمة مجاهدي خلق المعارضة داخل الأراضي الإيرانية بالإضافة إلى تصاعد العمليات العسكرية على جبهات القتال الخارجية، وافق الخميني على إنشاء وزارة للمخابرات والأمن التي أصبحت أداة مهمة لتصفية صراعات الثورة الداخلية والخارجية(8).

 

ماذا عن الجيش؟ في تقرير سابق استعرضنا أسباب الانهيار السريع للجيش الإيراني أمام الثورة الإيرانية(9)، وبعد انتصار الثورة ظلّ الشعب ينظر إلى القوات المسلحة الرسمية على أنها العدو الأكبر واللدود للثورة(10). لذا عمل الخميني على تقويض سلطة المؤسسة العسكرية عبر محورين رئيسين: الأول هو إجراء عمليات التطهير داخل الجيش، والثاني هو إنشاء وحدات موازية للجيش تدين بشكل مطلق للثورة ومرشدها(11).

 

الصراع مع القوات المسلحة

undefined

في المحور الأول، وبعد شهر واحد فقط من انتصار الثورة، بلغ عدد الجنرالات الذين تم إعدامهم أكثر من 30 جنرالا كان ولاؤهم جميعا للشاه، وبعد ثمانية أشهر شملت قائمة إعدامات المحاكم الثورية 250 عضوا بالقوات المسلحة(12)، وشملت عمليات التطهير في بعض التقديرات أكثر من 40% من القادة العسكريين في الأفرع الجوية والبرية والبحرية. لكن لم يتم التخلّص من الجيش النظامي بشكل كامل نتيجة لافتقار الثوّار للمهارات التقنية والإدارية اللازمة لتسيير الجيش(13). وبشكل مجمل بلغ عدد الأشخاص الذين تم تطهيرهم خلال العام الأول للثورة أكثر من 10,000 عسكري وجنرال(14).

 

وكردّ فعل طبيعي حاول الجيش عدّة مرات الانقلاب على الثورة، من أشهر هذه المحاولات هو انقلاب نوجه في (يوليو/تموز) 1980م التي خطّط لها ضباط وعساكر بالقوات الجوية والمخابرات بالإضافة إلى بعض الضباط الذين تم تطهيرهم. كان المركز الرئيس للتخطيط هو مطار نوجه العسكري، وقاد هذه الحركة الانقلابية شابور بختيار، آخر رئيس وزراء للشاه الهارب.

عمل الانقلاب على الإطاحة بالخميني والرئيس أبو الحسن بني صدر، وعقب اكتشاف الحركة الانقلابية قبل وقوعها تم اعتقال أكثر من 500 مسؤول عسكري، وإعدام أكثر من 50 منهم معظمهم من القوات الجوية، والحكم على 200 منهم بمدد حبس طويلة الأمد(15).

 

الحرس الثوري

undefined

أمّا المحور الثاني فشمل تجميع الأجنحة العسكرية المتفرقة للثورة -والتي شكلت نواة الحرس الثوري- من اللجان التي تكوّنت في مختلف المناطق الإيرانية للتنسيق والتعبئة من بين القطاعات المختلفة المعارضة للشاه، وعقب عودة الخميني من منفاه بعد انتصار الثورة مباشرة أعلن تكوين الحرس الثوري من هذه الأجنحة وأكّد تبعية الحرس المباشرة لمجلس قيادة الثورة(16). تكوّن الحرس الثوري من خليط من مجموعات محلية مستقلة، ومن فدائيي المدن، ومليشيات رجال الدين، والثوريين الموالين للخميني، بالإضافة إلى الفارين من الجيش النظامي(17).

استطاع الحرس الثوري تسليح نفسه والحصول على الذخيرة عبر السيطرة على مخازن الشرطة والجيش التي انهارت قبيل انتصار الثورة
(18). بدأ تكوين الحرس الثوري بسيطا إلّا أن هيكله ازداد في التوسّع حتى تحوّل إلى أهم مؤسسة في الداخل الإيراني وتفوق على الجيش الأحمر السوفياتي وجيش التحرير الشعبي الصيني في الدور الذي يلعبه لصالح الثورة، وتم تطوير وحداته إلى فرق وألوية وفيالق(19)، وقد وصل الأمر إلى إنشائه لقوات جوية وبحرية خاصة به عام 1985م، وزيادة على ذلك طوّر الحرس هيكلية جديدة رسمية لتجنيد وتدريب جنود وعملاء الثورة الإسلامية الذين حاولوا نشر الثورة في العالم العربي بجميع الوسائل ومن ضمنها العنف(20).

 

تنوّعت مهام الحرس الثوري فشملت تعبئة الجماهير وتطعيمهم بقيم الثورة، وتصفية الحسابات السياسية لمعارضي الخميني في الداخل الإيراني، والمشاركة في حرب العراق، وقمع المعارضات والاضطرابات المضادة للخميني والثورة(21)، بالإضافة إلى الحفاظ على الأمن الداخلي والسيطرة على المساجد وأقسام الشرطة والسجون والمباني الحكومية والمنشآت العسكرية(22).

 

من الثورة إلى الدولة
أبو الحسن بني صدر أول رئيس منتخب بإيران بعد الثورة الإيرانية (رويترز)
أبو الحسن بني صدر أول رئيس منتخب بإيران بعد الثورة الإيرانية (رويترز)

يمكن ملاحظة الدور الهائل للحرس الثوري في قدرته على الإطاحة بأول رئيس منتخب بعد الثورة، أبو الحسن بني صدر، إذ كان بني صدر من المعارضين للشاه ولكنه لم يكن ابنا للمؤسسة الدينية، فعارض دخول رجال الدين إلى المجال السياسي، ودعا إلى تأسيس بيروقراطية مدنية لا دينية، وحاول إزاحة رجال الدين من المشهد السياسي والبيروقراطي، الأمر الذي رفضه تماما الخميني والحرس الثوري بالتبعية إذ كان رجال الدين من أهم داعمي الثورة الإسلامية.

 

عمل الحرس الثوري على إضعاف الرئيس وتقويض سلطته، مما آل في النهاية إلى هروب بني صدر من إيران تماما عام 1981م خوفا على حياته من أن يُتهم بالخيانة العظمى(23)، مما فسح المجال أمام الخميني وحرس الثورة لتطبيق أيديولوجيا الثورة في كافة المؤسسات ومجالات الحياة الإيرانية دون عوائق من داخل أجهزة الدولة أو ربما من الداخل الإيراني ككل.

 

لقد أرسى الخميني إذن قواعد الثورة ورسم خطوط دفاعها دستوريا وعسكريا، وتخلّص من منافسيه ومعارضيه حتى من أولئك الذين شاركوا الشعب في ثورته مثل أبو الحسن بني صدر وتنظيم مجاهدي خلق، بالإضافة إلى إنهائه لوجود عناصر النظام السابق بشكل كلّي، فلم يتبقّ أمامه الآن سوى استحداث المؤسسات الجديدة التي تحمل قيم الثورة وتطبقها على أرض الواقع اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، مما يعني أن الخميني اعتمد في إستراتيجيته خلال السنوات الأولى لانتصار الثورة لتثبيت دعائم الثورة على ثلاثة محاور: الهدم، والتعديل، والبناء(24).
_______________________________________________

الهوامش:

أ/ الشاه محمد رضا بهلوي: آخر شاه (ملك) لإيران قبل قيام الثورة الإسلامية عليه، استمرّ حكمه من 1941م إلى أن أجبرته الانتفاضات الشعبية الإسلامية على الرحيل في 16 (يناير/كانون الثاني) 1979م. 

ب/ روح الله الخميني: الزعيم الكاريزمي للثورة والمنظر السياسي لها، فقيه ومجتهد شيعي، اُعتقل عام 1963م لمدة عام لمعارضته نظام الشاه، وتم نفيه بعدها خارج البلاد، فاستمرّ نشاطه السياسي وأصبح مناضلا ملهما للجماهير الإيرانية. عاد إلى إيران بعد سقوط الشاه وأصبح القائد الأعلى للثورة الإسلامية منذئذ حتى وفاته.

ج/ مجاهدي خلق: تنظيم معارض تأسس في الستينيات، يتبنى المبادئ الماركسية والإسلامية في آنٍ واحد، شارك بقوة في الثورة ضد الشاه وكان سببا رئيسا في نجاح الثورة، ثم قضى عليه الخميني بعد رجوعه من المنفى فرجع في خانة المعارضين مرة أخرى، وما زال حتى الآن من أقوى الحركات المعارضة لنظام ولاية الفقيه.

المصدر : الجزيرة