شعار قسم ميدان

العبث والثورة والموت.. اللايقين بين ألبير كامو وزينب مهدي

midan - ألبير كامو

شأنها شأن كل هؤلاء الشباب، حاولت أن تبني عالما يعيش فيه الجميع على قدم المساواة. أمل، وإن بدا ساذجا، لكنه كان صادقا بما يكفي في الذهاب بالناشطة المصرية زينب مهدي لأبعد مما كنا نتخيل جميعا. فهي في انكسارها وثورتها وموتها تعبر عن أمر مُشترك بين كل شباب جيلها؛ وهو: "العلاقات المعقدة المُتشابكة فينا وفي الواقع، والتمرد المتكرر ضد عبثية مأزقنا".

    
لقد ولدنا جميعا محملين بإرث إنساني لا خيار لنا فيه. بداية من الأسماء التي اختيرت لنا، مرورا بالعائلة والأقارب والدين، وصولا للجنسية والوطن والمستوى الاجتماعي. ونحن، حين أدركتنا الهزيمة، لم نكن نهرب أو ننسحب من المواجهة. بالعكس، كنا نفعل أكثر الأمور ملحمية. نتحدى مأزقنا الوجودي، بالثورة عليه تارة أو فهم الجدوى من ورائه تارة أخرى. هل كان تحدي عذابنا حماقة؟ ربما! لكن الأحمق مِنه دون شك هو ألا نتحداه، هو أن نقبل بمأزقنا مستسلمين دون أي محاولة مِن جانبنا لتغييره.

       
مزقتنا المحاولة، خسرنا المعركة، ومزقتنا تجاربنا الشخصية وإرثنا الإنساني وثورتنا وهلم جرا، إلى أشلاء. ومع ذلك، لم يكن في الإمكان أبدع مما كان. زينب ونحن كُنا، على طريقة ألبير كامو، نؤمن على ما يبدو بعبثية الوجود، فثُرنا عليه، وحاولنا العيش على طريقتنا، ونعم، قد تقتلنا ملحمية أفكارنا في نهاية المدى.

       
"أنا لا أبغض العالم الذي أعيش فيه ولكن أشعر بأنني متضامن مع الذين يتعذبون فيه… إن مهمتي ليست أن أغير العالم فأنا لم أعط من الفضائل ما يسمح لي ببلوغ هذه الغاية، ولكنني أحاول أن أدافع عن بعض القيم التي بدونها تصبح الحياة غير جديرة بأن نحياها ويصبح الإنسان غير جدير بالاحترام".[1]

(ألبير كامو)
       

الكاتب الفرنسي ألبير كامو
الكاتب الفرنسي ألبير كامو
        

ونحن في مأزقنا العبثي، نجد أن بيننا وبين كامو بعض أمور مشتركة، وربما كانت زينب بحياتها الدسمة القصيرة الأكثر تعبيرا بيننا عن المشترك مع كامو الذي كان يدور في فلسفته وأدبه دائما حول الحب والموت والثورة والمقاومة والحرية والمأزق الوجودي ككل.

    
كان ألبرت كامو، 1913-1960، كاتبا فرنسيا وفيلسوفا وجوديا. ولد في مقاطعة قسنطينة بالجزائر، في بيئة شديدة الفقر من أب فرنسي قُتل بعد مولده بعام واحد في إحدى معارك الحرب العالمية الأولى ومن أم إسبانية مصابة بالصمم.[2] وقد كان كامو في مجمل أدبه وفلسفته يقف على تيمة/theme وهي: أن البشر دائما في سعي منهك ومحاولة مستمرة لاستخلاص معنى من عالم لا معنى له، وهنا بالتحديد تكمن "المفارقة العبثية"، وهنا أيضا يكمُن وجه الشبه بين جيلنا، جيل الربيع العربي، وبين كامو.

         

نجد في روايات كامو "الغريب" (1942)، الطاعون (1947)، السقوط (1956) أنها تتناول الإشكاليات الكلاسيكية للمأزق الوجودي. وقد طرح كامو رأيه بشكل حازم في الوجود حين اعتبر أن الأصالة الوجودية تقتضي أن نعترف في قرارة أنفسنا أن الوجود بلا جدوى، وردا على حالة العبث واللاجدوى نجد أنفسنا إزاء أربعة خيارات: إما الهروب أو الإنكار أو المشاركة أو المواجهة.[3]

             

كان انتحار زينب لحظة فارقة في حالة الانكسار والهزيمة الثقيلة التي عاشها جيل الربيع العربي
كان انتحار زينب لحظة فارقة في حالة الانكسار والهزيمة الثقيلة التي عاشها جيل الربيع العربي
               

"السبيل الوحيد للتعامل مع عالم غير حُر هو أن تكون أنت حرا تماما بحيث يصبح وجودك في حد ذاته عملا ثوريا."[4]

(ألبير كامو)

         
هكذا كُنّا، أو حاولنا أنّ نكون، ليس كمصريين فقط، بل كشباب الربيع العربي ككل. حاولنا مواجهة وضع ظالم غير إنساني وغير عقلاني. كُنّا جميعا مستعدين للتضحية بأنفسنا من أجل مصلحة إنسانية مُشتركة كانت نصب أعيننا، وبالنسبة لنا كانت أكثر أهمية من مصائرنا الشخصية. صحيح أن المعركة دارت على رمال متحركة ما لبثت أن غرقت بنا. ومع ذلك، فإن حجم المخاطرة لا ينم عن سذاجة بقدر ما ينم عن شجاعة. فالربيع العربي لم يكن سعيا نحو اليوتوبيا بل أمل في مستقبل مغاير.

   

بين سيزيف وزينب
في أسطورة سيزيف لكامو نرى ذاك الفتى الإغريقي الأسطوري الذي قدّر عليه أن يصعد بصخرة إلى قمة جبل، ولكنها ما تلبث أن تسقط متدحرجة إلى السفح، فيضطر إلى حملها لقمة الجبل من جديد، وهكذا للأبد.

   
"تعبت استهلكت مفيش فايدة، كلهم ولاد كلب واحنا بنفحت في مياه، مفيش قانون خالص هيجيب حق حد بس احنا بنعمل اللي علينا، أهه كلمة حق نقدر بيها نبص لوشوشنا في المراية، من غير ما نتف عليها، مفيش عدل وأنا مدركة ده، ومفيش أي نصر جاي، بس بنضحك على نفسنا عشان نعرف نعيش."

(آخر منشور لزينب مهدي على موقع الفيسبوك)

       

       
في أسطورة سيزيف، يتناول كامو إحدى أكثر إشكاليات الوجودية إلحاحا وهي "الانتحار". يقول كامو في الصفحة الثالثة من العمل: "هناك سؤال فلسفي واحد ملح بحق، هو الانتحار، حتى أن البت في ما إذا كانت الحياة تستحق العيش أم لا لهي إجابة على القضية الأساسية في الفلسفة، وكل القضايا الفلسفية الأخرى تتبع ذلك". وكامو في عمله لا يحاول استعراض عدد من الحجج المنطقية لإقناعنا بعبثية الوجود. على العكس، هو فقط يستعرض حالة نفسية وذهنية يمر بها الكثيرون. تلك الحالة هي حالة العبث. نحن لن نصل لإجابة مؤكدة حول هذا العالم. وحالة العبث تلك تستلزم إما الثورة عليها أو الانتحار.

            
وزينب على طريقة سيزيف، ونحن معها، وجدنا أنفسنا بصدد سؤال ثقيل لا يمكن التغاضي عنه: هل يمكننا أن نعيش في عالم اليقين الوحيد فيه هو حالة اللايقين، هو أننا لن نكون أبدا واثقين من أي أمر حتى صارت كل الأمور عبثا!؟ لقد كان انتحار زينب لحظة فارقة في حالة الانكسار والهزيمة الثقيلة التي عاشها جيل الربيع العربي. فقد وضعتنا زينب أمام نفس السؤال الذي وضعنا أمامه سيزيف: ما الجدوى من كل هذا العالم؟ وهل حقّق أي مِن أفعالنا أي اختلاف فيه. والآن، بعد رحلة تكاد تتم عامها السابع في الخامس والعشرين من يناير المقبل، هل نستطيع أن نسأل أنفسنا الآن كيف أدركتنا الهزيمة؟ هل كانت محاولة خلق قيمة لوجودنا أمرا مستحيلا! هل كانت المعركة التي دارت فوق رمال متحركة محسومة سلفًا!

          

الانتحار كأصدق صرخة اعتراض
"ما يُعتبر سببا وجيها للحياة… هو أيضا سببا وجيها للموت"[5]
(كامو)

           
بتلك الكلمات يُشكل كامو وجه نظر منطقية تجاه العبث والثورة والموت. إن السبب نفسه الذي قد يدفعنا للحياة قد يدفعنا للموت. زينب والتي كانت تعمل على ملف حقوقي عن المختفيات قسريا، وما تعرضن له في سجون سرية من مآسي يندى لها الجبين، وجدت في عملها الثوري دافعها للانتحار بحسب ما كتبت في آخر منشور لها على موقع الفيسبوك.

             
"ليس هناك سوى جحيم واحد وهو على الأرض"[6]

(كامو، مسرحية كاليجولا)

               

           
هذا ما وجدت زينب نفسها عليه، بل ما وجدنا نحن جميعا أنفسنا عليه، مُجتمعات تعج بأشخاص غير سعداء، محرومين من أبسط حقوقهم الإنسانية، بل والأسوأ، أنه يُمارس في حقهم أبشع الأفعال الوحشية والبربرية. ذاك هو الجحيم بعينه. ومنذ روايته الأولى "الموت السعيد"، التي لم تنشر إلا بعد وفاته في عام 1960، نرى أن كامو وقف على أن الغرض ليس أن نحيا بسعادة بل أن نموت راضين سعداء. على نفس المنوال صارت مسرحياته الأربع، "كاليجولا" و"سوء الفهم" و"حالة الحصار" و"القتلة العادلون"، يجب أن نكون راضين عن الطريقة التي سنموت بها. وقد وضح كامو شرطا واضحا لذاك الموت السعيد، ألا وهو الثورة.   

     
"من هو الثائر؟ هو الإنسان الذي يقول لا"[7]

(كامو)

      

كانت الثورة بالنسبة لكامو الفضيلة الأكثر قيمة على الإطلاق. فالعيش بكل ما يعنيه من مواجهة لشتى صنوف المعاناة هو في ذاته حالة من التمرد ضد المأزق الإنساني العبثي. ومع ذلك، ستظل الحياة سخيفة وبلا أمل. وقد وصلت زينب لتلك المرحلة. المرحلة التي بدا فيها بكل وضوح أنه لا يوجد سبب منطقي للظن بأن غدا سيكون يوما أفضل. والأقسى، توافرت العديد من الأسباب التي توضح أن غدا سيكون يوما أسوأ.    

    
لقد رحلت زينب، وها نحن على أعتاب الذكرى السابعة للثورة، ورُبما نكون الآن أكثر إدراكا لدوافعها في الذهاب للموت بقدميها. لقد فضلت زينب أن تُقدم على أكثر الأفعال تمردا، الانتحار. لتنتمي بذلك إلى الصمت الطويل والنهائي، صمت الموت كأصدق صرخة اعتراض.

المصدر : الجزيرة