شعار قسم ميدان

منير فاشه.. هل تدمر المدارس عقول أطفالنا؟

عرفت الساحة الفكرية والفلسفية العالمية والعربيّة على السواء، غير واحدٍ من المفكرين الذين شغلتهم المشكلة التعليميةّ، وهم إصلاح الاجتماع التربوي الحديث وإعادة التفكير في نهضة التعليم وتقويمه، حيث لم يسأموا من التحدث بصوت مرتفع علّهم يجدون آذاناً مصغية لما يقولونه.

أمثال أفكار باولو فريري في تعليم المقهورين، ورؤى فيليب جاكسون في المنهاج الخفي، ونقودات إيفان إيليش في مجتمع بلا مدارس، وتوضيحات بيير بورديو في العنف الرمزي، ونظرات خلدون النقيب في الثورة الصامتة، وتوضيحات علي وطفة في رأسمالية المدرسة.(*)

وليس بعيدًا عن جموع المفكرين؛ آنفي الذكر، يمثل المفكر الفلسطيني منير فاشه حلقة من حلقات هذا الفكر النقدي والإصلاحي الذي بدأ بالنضوج في النصف الثاني من القرن العشرين.(1) فمن هو منير فاشه، وما أبرز الانتقادات التي وجّهها للنظم التعليميّة، وما هي سبل النهوض التي يقدمها للخروج من أزمة التعليم في عالمنا الحديث ؟!

منير فاشة تربوي فلسطيني درس ودرّس الرياضيات سنوات عديدة، وشارك في عشرات المؤتمرات كمتحدث رئيسي أو محاضر فيها.(2) هذا وقد ولد منير فاشه في القدس عام 1941 لأسرة مسيحيّة، ليخرج من فلسطين وهو ابن سبع سنوات،إثر نكبة عام 1948.(3)

وليحصل بعدها على الدكتوراه في التربية من جامعة هارفارد في عام 1988، ودرجة الماجستير في تعليم الرياضيات من جامعة ولاية فلوريدا في عام 1966، وكذا على شهادة البكالوريوس في الرياضيات من الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1962.(4) وليُنشئَ في خضم ذلك مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي في القدس عام 1989، التي يتمحور عملها حول حماية وتوفير أجواء تعيلمية، وتكوين معنى للخبرات الذاتية، والبناء على ما هو جميل ومتوفر وملهم من الناس والمجتمع والحضارة.(5)

كما أنشأ "الملتقى التربوي العربي" في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد من عام 1997 إلى عام 2007 . ليُراكم بذلك أكثر من 40 عاما من الخبرة في مجال التعليم، في العالم العربي، فضلا عن الولايات المتحدة الأمريكية.(6) ذهب إلى العديد من الجولات الناطقة بالعالم العربي للترويج لمفهوم التعلم باعتباره جزءا لا يتجزأ من التعليم، الرسمي وغير الرسمي على حد السواء. وقد نشر خمسة كتب حتى الآن، فضلا عن أكثر من 30 مقالا باللغتين العربية والإنجليزية، والتي كان العديد منها في مجلة هارفارد للتربية.(6)

يرجع التأثير الأكبر في إنضاج المشروع الفكري والتربوي لمنير فاشه إلى حادثةٍ طريفةٍ، حدثت معه في مطلع سبعينيات القرن العشرين، أعادت تفكيره في العديد من المٌسلمات الإيديولوجيّة التي ينبني عليها الاجتماع التربوي الحديث. يروي فاشه أحداث القصة فيقول: "كنت أفتش في الكتب والمجلات-كعادة الأكاديميين-عن أمثلة تعكس علاقة وموقع الرياضيات في الحياة، انتبهت ولأول مرة أن ما كنت أفتش عنه كان يقبع في بيتي طوال تلك السنين دون أن أعيه، وذلك بسبب العمى الذي يصيبنا من جراء الإيديولوجية السائدة في مختلف نواحي الحياة والتي تعتمد بالدرجة الأولى على تعطيل الحواس.

كان ذلك المثال هو "اكتشاف" رياضيات أمي، والتي كانت أمية تماما. كان عمري آنذاك 35 سنة، وكنت قد شاهدت أمي مئات إن لم يكن آلاف المرات تبدأ في الصباح بقطعة قماش مستطيلة الشكل تحضرها لها إحدى النساء لتخيط لها منها ملبسا، فتصبح تلك القطعة مع الظهيرة أكثر من ثلاثين قطعة متناثرة في أنحاء الغرفة، لا تلبث أن تجمّعها أمي مع قدوم المساء لتصبح مرة أخرى قطعة واحدة، ولكن هذه المرة يأخذ الكلُّ الجديد شكل ملبسٍ جميل مطابق لجسم المرأة التي أحضرت القطعة في الصباح!

كان اكتشاف رياضيات أمي أكثر حدثٍ أثّر في حياتي الفكرية والمهنية، حيث إنه خلخل طبيعة كنت قد اكتسبتها خلال سنوات الدراسة وارتحت لمرقدها، لأنظر هذه المرة في رحاب الحياة نفسها، حيث تشرق الأفكار كل صباح، من أجل بناء إدراك جديد للتعليم والتعلم لديّ، يكون أصدق مع الواقع".(7)

قلَبَ ذلك الحدث البسيط ذهن ووعي فاشه رأسا على عقب، ليكون البذرة التي بنى عليها معظم ما قام به منذ ذلك الحين من أعمال وكتابات ومشاريع. يصف فاشه ذلك التأثير فيقول: "كانت تلك البذرة الأساس التي انطلقت منها في محاولتي إعادة تسمية المسمّيات وإعادة تعريف الكلمات وبناء بدائل في الذهن وفي الواقع. كانت تلك البذرة، بعد وعيي بها، الأساس الذي ارتكزت عليه في تدريسي للرياضيات في الجامعة وأيضا في تدريسها للأميين الكبار. كما كانت القصة التي انطلقت منها في كتابة رسالة الدكتوراه** ".(7)

بعد اكتشافه لرياضيّات أمه الأميّة، التي "لم تحتَجْ فيها إلى عُلبة هندسيةٍ، ومفاهيم من خارج رحم الحياة. بحيث كل ما احتاجته لإنجاز عملها هو (متر) من جلد وجسم امرأة حقيقيّ".(8) ليقيم بعدها مقارنةً ذهب فيها إلى أنّ "الرياضيات التي تعلّمها كانت دقيقة ومتصلّبة، بينما رياضيات أمه الأميّة كانت دقيقةً لكن مرنةً، بينما تدّعي معرفته أنّها عالمية، كانت معرفة أمه تُكوّن عالمًا متناغمًا متجذرًا في الحياة والمجتمع".(8)

وليصف نفسه بعد ذلك – حال كونه أكاديميًّا – "ببغاء وتاجر: أجلب كلماتٍ مُصنّعة ضمن القبيلة الأورو-أمريكيّة*3 أرددها كالببغاء للطلبة مقابل ثمن مرتفع، وكلما كانت الكلمات أقرب إلى عالم الاستهلاك كلما كان الثمن أعلى، إنّ التحرر الذي شعرت به إثر وعيي لعالم أمي ساعدني في فهم معنى الهيمنة السائدة حاليًا: الاعتقاد بأن هناك مجموعة متفوقة ذهنيًا وأخلاقيًا من مجموعة أخرى، بالبناء على معرفتها لأدواتٍ ومقررات معيّنة!". أحدثت تلك القصة وعيًا بدأ ينمو في داخل رأس منير فاشه، والذي فجّر سؤالين مهمّين: ما هي جذور هيمنة اللغة التعليميّة بشكلها المعاصر؟ وما معنى أن نتعلم(8)

يرى فاشه أن التعليم المدرسي محض أكذوبة كبيرة، تلهي المتعلم عبر المعرفة الكتبية عمّا يدور حوله من تحركات اجتماعية، وما يجري في مجتمعه من مشاكل! ووصفه بقتل الفكر الحي
يرى فاشه أن التعليم المدرسي محض أكذوبة كبيرة، تلهي المتعلم عبر المعرفة الكتبية عمّا يدور حوله من تحركات اجتماعية، وما يجري في مجتمعه من مشاكل! ووصفه بقتل الفكر الحي
عمد فاشه، بعد ذلك، إلى محاولة الوقوف على الواقع التعليميّ في عالمنا العربي الذي رأى فيه واقعًا متردّيًا، والذي وصف شيئًا من فداحته بقوله: "يلتحق الطالب بالمدرسة في بلادنا ولديه قسط وافر من النشاط والذكاء، ولكنه يخرج منها وهو فاقد الاثنين معًا".(9) وليرى فيه – أي التعليم المدرسي- "محض أكذوبة كبيرة، تلهي المتعلم عبر المعرفة الكتبية عمّا يدور حوله من تحركات اجتماعية، وما يجري في مجتمعه من مشاكل! فهو قتلٌ للفكر الحي، إنّ المعرفة التي تعطى للطلبة تُخفي الواقع بدلا من كشفه".(9)

وهذا ما يتجلى على عدّة أصعدة من قبيل الاستخفاف بالمتعلم، فحين سأل منير فاشه أحد المعلمين عن نوع المسؤولية التي توكل للطلبة في المدارس؟ كانت إجابته: "نسمح لهم بقرع الجرس، ونعمل من بعضهم عرفاء!" والعريف: وهو الواشي الذي يخبر المعلم من خالف الأوامر العسكرية-التعليمية في أثناء غيابه! وقرع الجرس، الذي لا يحتاج لأكثر من هزّة الكتف لبرهة من الوقت.(9)

مرورًا بالمناهج الدراسية الميّتة التي وصف فداحتها فاشه بشيءٍ من التندّر فقال: "لو حفرنا قبر رياضيٍ عاش في القرن السابع عشر وأدخلناه أحد الصفوف الدراسيّة، فإنّ باستطاعته أنْ يُعلّم المواضيع المطروحة  دون أدنى صعوبة". وصولًا إلى ما يسميه منير فاشه بــ "نظرية الإسفنجة وصنبور الماء" ذائعة الانتشار في المدارس، والتي "تعتبر الطالب إسفنجة والمعلم صنبور الماء، الذي يصب الماء على من حوله من الإسفنجات التي لا تقوم بأكثر من امتصاص الماء". وما يرافق ذلك من أنظمة صارمّةٍ تربي على الخنوع، كعملية القيام والجلوس المتكرر حال وصول المعلم، وطرائق ترتيب الصفوف التي تشبه السجون والمهاجع، وغير ذلك من الاستعارات القاتلة واسعة الانتشار، التي تأتي على صيغة: "لما تكبر تصير تفهم، والطالب عنّا ما بيمشي إلا بالضرب ..الخ".(9)

ويختم فاشه حديثه في وصف الحالة الهَرِمَة التي تعانيها النظم التعليميّة في العالم العربي، بالإشارة إلى عشر أساطيرَ يتأسس عليها الاجتماع التربوي الحديث والتي تحتاج – كما يرى فاشه – إلى "حفّارة" تقوم بتفتيت الإسمنت الذي راكمته على تفكيرنا ونفسياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية".(9)

 

         
1- نحن بحاجة إلى تفكيك الادّعاء بأن التعلم لا يمكن أن يحدث إلا في المدارس.

2- نحن بحاجة إلى تفكيك عملية فصل الطلاب عن الحياة لمدة 12 عاما على الأقل.

3- نحن بحاجة إلى تفكيك الافتراض القائل بأن المعلمين يمكن أن يعلموا ما لا يفعلونه.

4- نحن بحاجة إلى تفكيك أسطورة أنّ التعليم يمكن تحسينه من خلال المهنيين والخبراء.

5- نحن بحاجة إلى تفكيك هيمنة كلمات مثل: التعليم، والتنمية، والتقدم، والتميز، والحقوق، واستعادة بدلا منها، كلمات مثل: الحكمة، والإيمان، والكرم، والأمل، والتعلم، والعيش، والسعادة، والواجبات.

6- نحن بحاجة إلى تأكيد أن الغالبية العظمى من الناس يذهبون إلى المدرسة لا للتعلم ولكن للحصول على شهادات!

7- ونحن بحاجة إلى تأكيد قدرتنا على الفعل والتعلم، وليس للحصول على درجات.

8- نحن بحاجة إلى تأكيد واستعادة مفهوم وممارسة "التعلم من العالم"، وليس "التعلم حول العالم".

9- نحن بحاجة إلى تأكيد أن الناس هم الحل الحقيقي، وليسوا جُهّالاً أو عقبات على طريق الحل.

10- – نحن بحاجة إلى تأكيد الموضوع الأساسي في التعلم هو الحياة والناس الذين يعيشون في وسطها – وليس خارجها وليس فوقها.(10)

" نحن بحاجة إلى قضاء المزيد من الوقت في المحادثات وجها لوجه مع بعضنا البعض، في القيام بالأشياء معا، في حلم الأحلام الجميلة، وبناء رؤى مشتركة. وباختصار، نحن بحاجة إلى استعادة حياتنا واستعادة مساحاتنا الثقافية". (10)

عطفًا على ما سبق، يرى فاشه أنّ جوهر الإصلاح التعليميّ الذي يتغيّاه، يتجلى في قناعة أخرى  أساسيّة بدأت تتبلور لديه وتعمّقت مع الوقت، تكمن في أنّ تحديًا رئيسيّا نواجهه يتكون من شقين:

1- الشفاء من كلمات ومعتقدات تعمق أوهامًا وخرافات نكتسبها في المدارس الجامعات، كلمات هدفها السيطرة على العقل والإدراك، وبالتالي على السلوك والعلاقات في ما بيننا ومع الطبيعة.
2- أما الشق الثاني فهو استعادة كلمات وقناعات تنعشنا وتغذينا وتعمق لدينا العيش بعافية وحكمة.(11)) بحيث "تشمل المعتقدات من النوع لأول، كلمات من قبيل: "ناجح" و "فاشل" والاعتقاد أن بالإمكان قياس قيمة المرء عبر أرقام، وأن التعلم ينتج عن تدريس، وينتقل من الأسهل إلى الأصعب.

إن كثرة المعلومات لا تُؤدي بالضرورة إلى الفهم، والفكر ليس الأفكار، والبُنية غير البيانات، والمعنى غير المعاني
إن كثرة المعلومات لا تُؤدي بالضرورة إلى الفهم، والفكر ليس الأفكار، والبُنية غير البيانات، والمعنى غير المعاني
             

أما بالنسبة لكلمات وقناعات متجذرة في حضاراتنا والتي يمكن أن تسهم في استعادة الحكمة والكرامة والاحترام والتعددية في الحياة، فتشتمل على:
1- مجاورة (كوسيط للتعلم والعمل المجتمعي)
2- يحسن (كمصدر ومرجع ومعيار لقيمة المرء) ".
ويوضّح فاشه مقصوده بكل من هاتين الكلمتين:

المجاورة
تشير كلمة مجاورة هنا كما يرى فاشه إلى "مجموعة من مريدين ومُرادين يقررون بحريّة، وبدافع ذاتي،  الالتقاء دوريًا حول أمر ما أو ناحية في حياتهم يسعون إلى العيش وفقها أو تعلمها وفهمها أو القيام بعمل يتعلق بها. وبحيث تتوفر فيها حرية على الصعيد الشخصي والجمعي للتعلم انطلاقًا من الواقع الذي يعيشه المجاورون، دون وجود سلطة داخل المجموعة أو من خارجها". ولعل أفضل المجاورات هي التي "تنسجم مع الحكمة والعافية والتعددية كقيم. كما انطبق هذا الوصف على مراكز التعليم العظيمة التي شهدها التاريخ البشري، مثل مكتبات الاسكندرية وجنديشابور وقرطبة وبيت الحكمة في بغداد".(11)

يُحسن..
يقول فاشه: (.. عندما أنشأت "الملتقى التربوي العربي" عام 1997 التابع لــ "مركز دراسات الشرق الأوسط – جامعة هارفارد "بدأت بقراءة كتاب "البيان والتبين" للجاحظ، الذي كُتب قبل 1200 سنة. وفيه قرأت عبارةً للإمام عليّ بن أبي طالب يقول فيها: "قيمة كل امرئ ما يحسنه").(11)

يعلق فاشه على معرفته لهذه الكلمة بقوله: "لا أذكر عبارة تركت في حياتي أثرًا قدر ما تركته هذه العبارة من شعور بالتحرر على أصعدة شتّى، وبالشفاء من مصطحات مؤسسية وتصنيفات أكاديميّة وكلماتٍ بلاستيكية – بتعبير اللغوي الألماني أوي بوركسن Uwe Pörksen) ".(11)

ويرى أنّ "هذه الكلمة بكل حمولتها الجمالية، وما تحويه من معانِ "الإتقان والجمال والعطاء والنفع والاحترام، تصلح لتكون أساسًا قيمة المرء في هذه الحياة، وكرؤيا قيميّة للتعليم عندنا، إذ بحسبها لا يتم تقييم الفرد من قبل أشخاص مرخصين ومقاييس تدّعي العالميّة، بل بموجب المعاني الجمالية التي تحملها الكلمة (الاتقان والجمال والعطاء ..الخ) وعدا عن كونها تؤسس أيضًا لكرامة الإنسان، بحيث تكون قيمة المرء لا يمكن مقارنتها بقيمة أي شخص آخر".(11)

يرى فاشة أنّ التأسيس لقيمتي "المجاورة" و "يُحسن" يُخلصنا من آفات كثيرة عشعشت في نُظمنا التعليميّة، وهو ما يتّضح في الجدول الآتي:      

undefined                

يتساءل فاشة في معرض نقده للنظم التعليميّة حول المواد الدراسية الحاليّة، من وضعها وبماذا يمكن استبدالها؟! ويجيب على ذلك بقوله "ربما يبدو السؤال غريبًا لمن يعتقد أنّ المواد الدراسيّة في المناهج الحاليّة تعكس نواحي حقيقّة في الحياة. ما حصل في الواقع أنّه قد تمّ تقسيم المعرفة بشكلها الحالي عام 1892 من لجنة تضم 10 أشخاص (عرفت بــ committee of ten ) ".(13)

ويرى أنّ "هذا التقسيم ضمن القبيلة الأورو-أمريكيّة ليس ملائمًا لنا. وما يمكن أن تكون عليه المواد في مدارسنا؛ فيقترح رؤية حول التعليم والتعلّم كمثال تتمحور حول نواحٍ حياتيّة، موزّعةٍ على ستّ موادٍ  حيث نستخدم فيها المحاورة كوسيط للتعلم. وما يحسنه المرء أداة لتقييمه.(13) وذلك على النحو الآتي:

1- الزراعة، التي تشمل علومًا ورياضيّات، والطقس والطعام، ومعرفة ما يدخل أجسامنا من أطعمة.
2- الثقافة، والتي تشمل اللغة الحيّة التي نكتسبها عبر تفاعلاتنا مع الحياة والأدب والحكايات والفنون.
3- التاريخ والذي يشتمل على الذاكرة الجمعية الغنية، كأساس لجدل نسيج المجتمع وتآصره.
4- الجغرافيا، والتي يمكن أن نبدأ فيها بالتجوال مشيًا على الأقدام، والتعرف على المكان والطبيعة، والناس من حولنا.
5- القمر، والذي يشكل جزءًا هامًا من الحضارة العربية الإسلامية، حيث يجمع بين العلم والفلك والطبيعة والدين والشعر.
6- القدس، لا لشيء إلا لأنها المدينة الوحدة التي يطمح أكثر من نصف البشر لزيارتها"(13)

ما هو جميل في هذه المواد أنها تتطلب استعمال الحواس والأيدي والأرجل والأصابع المهملة في مدارسنا، والضرورية لربط الفكر بالحياة والطبيعة. – كما يرى فاشة -.(13) وفي هذا يتّضح تأثر منير فاشه بجان جاك روسو ودعوته الشهيرة في كتابه "إميل" للعودة المعبّقة بالحنين للطبيعة.(14)

وختامًا من المُهِم أن نُدرِك على حد تعبير هيرقليطس أنّ كثرة المعلومات لا تُؤدّي بالضرورة إلى الفهم. وأنّ الفكر ليس الأفكار، والبُنية غير البيانات، والمعنى غير المعاني، كما يقول المسيري. وكما قال حسين البرغوثي:"الذهن هو "مُمكّناته" وليس "ما فيه" !).(15)

______________________________________________________

الهوامش:

(*): خصّص موقع "ميدان" عدّة تقارير حول أغلب المفكرين الذين تمّ ذكرهم.

(**): يروي فاشة أنّه في لقائه الأوّل مع اللجنة المشرفة على رسالة الدكتوراه، وبعد تقديم الصيغة الأوّليّة لرسالته. وضع "أمّه" على رأس قائمة المراجع (بالإضافة إلى الدجاجة الفلسطينيّة ودودة الأرض اللتين استفاد منهما في فهم شيءٍ من حكمة الحياة). حينها سأله أحد أعضاء اللجنة مستهزئًا: "ما أنتجت أمك؟" فكان رد منير فاشه:"أنتجت قرابة 10 آلاف ملبس، كل ملبس له هندسته الخاصة بجسم المرأة المعيّنة". وحينها حوّل فاشه السؤال إلى المشرف "أمي أنتجت ما ذكرت لك، أنت ماذا أنتجت؟" وبالطبع – كما يروي فاشه – لم يرق له سؤاله. وتوقّف بعدها عن كتابة رسالة الدكتوراه سنةً كاملة، لرفض لجنة الإشراف والمناقشة تضمين "أمه، والدجاجة الفلسطينيّة، ودودة الأرض" في قائمة المصادر والمراجع. وليعود بعد سنة إلى هارفارد بعد تسويةٍ مع اللجنة المشرفة تقضي بحذف الدجاجة الفلسطينيّة ودودة الأرض واستبقاء والدته في قائمة المصادر. وحين تمّت طباعة رسالة الدكتوراه في منشورات جامعة هارفارد، عاد وضمّن الدجاجة الفلسطينيّة ودودة الأرض ضمن قائمة المصادر (قصتي مع الرياضيات، منير فاشه). 

(***): القبيلة الأورو-أمريكيّة: مصطلح كثيرًا ما يستخدمه منير فاشه، وهو يعود إلى عالم الاجتماع الإسباني "إيمانيويل ليسكانو". وكلمة قبيلة تشير إلى اشتراك محدود بين مجموعة من الناس برباط مكاني وزماني وسياق وتاريخ مشترك. والمعنى المراد نقد الادّعاءات الحداثيّة بالقيم الكونيّة والكوكبيّة والعالميّة!

المصدر : الجزيرة