شعار قسم ميدان

"محتجز في وظيفة لا أحبها".. كيف تتعامل مع أزمة ربيع العمر؟

midan - working
استمع للتقرير

  

تأتي لحظة التخرج التي انتظرناها طويلا بفارغ الصبر حتى يفتح لنا العالم أبوابه الواسعة، سنصير كل ما تُقنا يوما أن نصيره، سنحقق كل ما ارتأيناه في أحلام اليقظة. لكن قبل أن نتذوق فرحة النجاح لإثمار جهودنا الدراسية لسنوات طويلة، يصدمنا الواقع القاسي؛ لم يكن كل ذلك الذي تمنيناه برّاقا كما تصورنا، ليست حياتنا بعد التخرج رائعة كما كنا نتخيل. قد نمتلك كل ما يظنه الآخرون -وظنناه نحن أنفسنا في مرحلة سابقة- أنه مرادفات الحياة المثالية من وظيفة مُحترمة ودخل وفير. لكن مع كل هذا، لا نشعر بالسعادة. نكتشف حينها أن اتساع العالم لم يكن قط مبعثا على الراحة، بل على القلق والحيرة.

     

فوسط الخيارات اللامُتناهية التي يقدمها العالم لنا فيما سنفعله في حياتنا المهنية، لا نعرف حقا ما الخيار الأمثل. تواجهنا حينها عشرات الثنائيات التي علينا أن نختار منها، أنذهب للوظيفة المُستقرة التي لا نحب، أم لتلك التي توافق ميولنا لكنها غير مستقرة؟ أنبحث عن وظائف بدوام كامل حتى نجني أكبر قدر ممكن من المال بغض النظر عن أي شيء آخر، أم نحاول اتخاذ وظيفة بساعات عمل وراتب أقل لكنها ستتيح لنا وقتا أكبر لممارسة هوايتنا؟ أنظل نعمل تحت إمرة شخص آخر، أم نجرب العمل الحر أو إنشاء عمل خاص بنا؟[1]

    

وحتى بعد أن نتخذ خيارا ما ونسير في طريق بعينه، قد نكتشف أننا لسنا سعداء على الإطلاق، ولم نعد نعرف ما الذي علينا حقا أن نفعل. إنه جحيم الحرية والمسؤولية المُطلقتين. في جزء ما في أعماقنا، نشعر بالحنين لتلك الأيام التي كان كل شيء فيها بسيطا ومرسوما ومخططا، حيث كل خطوة معروفة وكذا الطريق إليها. أما الآن فنحن متروكون، فاقدو الوجهة ولا نعرف الهدف. لكل ما سبق اسم، إنها أزمة ربيع العُمر (Quarter Life Crisis).

      

undefined

   

"الأهداف التي نسعى إليها دائما محجوبة عنّا، الشيء الذي يعطي لكل خطواتنا معناها مجهول لنا تماما"   

ميلان كونديرا، كائن لاا تحتمل خفته

   

أزمة ربيع العُمر

وفقا لبحث دكتور أوليفر روبنسن حول الموضوع، تنقسم أزمة ربيع العمر إلى نوعين: الاحتجاز داخل حياة ووظيفة يكرها المرء (locked in)، أو الاحتجاز خارج الأشياء التي يود الشخص أن يفعلها كي يشعر أنه عبر من طور المراهقة إلى طور النضج (locked out). تُصيب الحالة الأولى الشباب من سن 25 إلى 35 عاما، بينما تصيب الثانية الشباب من 21 إلى 25 عاما.

    

في الحالة الأولى، يتولد صراع داخلي عند المرء بعد الاستقرار في وظيفة ونمط حياة مُعيّن طالما ظن أنه ذاك الذي كان يريد، ليشعر في النهاية أنه كان على خطأ، أن هنالك هوة سحيقة تفصل ما كان يتوقعه عمّا حدث له بالفعل. وينتج عن هذا الصراع شعور بالقلق والضغط، يود في إثره صاحب الأزمة لو يستطيع الفكاك من حياة يشعر فيها أنه أسير لخيارات قام بها في مرحلة أقل نضجا ووعيا؛ لكنه، في الوقت نفسه، يبقى عاجزا عن اتخاذ أي خطوات، خائفا من عواقب ذلك الانقلاب الكبير في مسار ظن عند أوله أنه سيبقى مُستقرا تماما، غير مُهيئ للرجوع مرة أخرى لنقطة البداية بعد أن قطع شوطا طويلا في الاتجاه الذي صار يصيبه الآن بالبؤس، قلقا من أن يصمه الناس بالفشل إن فعل هذا.[2]

 

يقول الكاتب آدم باسوفلسكي الذي مرّ بالنوع الأول من أزمة ربيع العُمر عن تجربته: "فعلت كل ما كان من المُفترض عليّ أن أفعله، ذهبت إلى كلية جيدة، حظيت على وظيفة ممتازة، ترقيت السلم الوظيفي، على الورق، كنت أمتلك كل شيء، لكنني، مع كل هذا، كنت بائسا".[3] ولا يصيب ذلك النوع من الأزمة عددا قليلا من الناس، فيشعر شخص واحد فقط من كل ثلاثة أشخاص أنه سعيد في عمله.[4]

     

undefined

   

أما في النوع الثاني، يشعر المرء بالعجز عن العبور من مرحلة المراهقة والجامعة، إلى مرحلة أن يصير شخصا راشدا يمتلك وظيفة وذمة مالية مُستقلة. فبعد التخرج، يشعر ذلك الشخص بحيرة وفقدان للاتجاه لا يعرف معها أي طريق عليه أن يسلك. سيقول له الكثيرون إن عليه أن "يتبع شغفه"، لكن أغلب الوقت لا يعرف من يمر بذلك النوع من الأزمة شغفه من الأساس. يصف واحد من الشباب شعوره حيال هذا في بحث روبنسن ويقول: "أشعر أنني محتجز، فبالرغم من حاجتي إلى وظيفة بدوام كامل حتى أؤمن لنفسي منزلا، وبالرغم من رغبتي في الاستمتاع بالحياة وعيشها بالطريقة التي أود، فإنني أحس بعائق أظل عاجز عن تجاوزه يحول بيني وبين كل هذا".[5] لا أحد يعرف بالضبط السبب الحقيقي وراء شيوع تلك الأزمة وسط الشباب اليوم، لكن الشيء شبه المؤكد أنها أزمة حديثة نسبيا، ما يلفت نظرنا لبعض الظواهر في ثقافتنا الحديثة التي ربما تكون هي الباعث على ما نشهده الآن.

 

يأتي على رأس تلك الظواهر الكثرة والتعدد في الاختيارات، واللذان يُعدّان نتاجا حصريا للرأسمالية الحديثة. فقبل قدوم عصر الآلة كان يوجد نحو ألفي نوع من الوظائف، أما اليوم، فقد ارتفع ذلك العدد بشكل مطرد ليصل إلى نحو نصف مليون، ما هو أكثر من كافٍ ليصيب أي شخص بالحيرة.[6] أما الظاهرة الأخرى، فقد يكون أثرها ليس ملموسا تماما في أزمة ربيع العُمر كالظاهرة الأولى، لكنها لا تقل عنها أهمية. فنحن نعيش الآن في عصر تُسيطر عليه خطابات الإيجابية والتنمية البشرية الرنّانة، والتي تعيد على أسماعنا منذ الصغر أنه في استطاعتنا أن نكون أي شيء نود أن نكونه، وأن الطريق إلى العظمة والنجاح والثروات ليس ببعيد عنّا. النيّة من وراء تلك الخطابات غالبا بريئة تماما، ولا تقصد سوى تحفيزنا، لكنها في الوقت نفسه تلعب دورا ليس بالقليل في تضليلنا ورسم صورة مغايرة، أكثر إشراقا وبهجة بكثير للمستقبل، مما يصيبنا بخيبة الأمل لا محالة عندما يصبح ذلك المستقبل حاضرا غير مشرق بالمرة.[7]

  

يمكننا النظر إلى أزمة ربيع العُمر على أكثر من صعيد كوجه آخر لأزمة مُنتصف العُمر. فبينما يحرك أزمة منتصف العُمر شعور المرء أنه فشل في تحقيق أهدافه، يبعث أزمة ربيع العمر عجز المرء عن معرفة تلك الأهداف؛ وبينما يحس من يمر بأزمة منتصف العمر بضغط وخوف لشعوره باقتراب الموت، يحس من يمر بأزمة ربيع العُمر بالشيء نفسه لكن لشعوره بافتقاده للحياة؛ وفي الوقت الذي يصبح فيه كل شيء في حياة الشخص الأربعيني متوقعا بشكل يبعث على الملل، فإن كل شيء في حياة العشريني غير متوقع بشكل يصيبه بالقلق؛ ومثلما تنقسم أزمة مُنتصف العُمر إلى مراحل، تظل على صعوبتها، مؤقتة، كذا هو الحال بالنسبة لأزمة ربيع العُمر والتي تنقسم بدورها إلى أربع مراحل.

  

  

في المرحلة الأولى، يشعر من يمر بأزمة ربيع العُمر بالاغتراب والضيق بسبب إحساسه أنه محتجز في نمط حياة ووظيفة ليس سعيدا فيهما ولم يعودا يمثلانه. لكنه عندما يبدأ بالفعل في اتخاذ خطوات للتخلص من كل ما يُشعِره بالضيق، يشعر بشيء من الحزن على فقدانه لكل ما كان يوفره له نمط حياته السابق من أمان واستقرار وإن كانا يصيبانه بالإحباط، وبالقلق أيضا كونه يدخل الآن في حيّز جديد عليه تماما وغير مُتوقَّع. أما في المرحلة الثالثة، يبدأ ذلك الشخص بالفعل في تبني نمط حياة مُغاير وفي العودة لاستكشاف بدائل مختلفة مرة أخرى، لكن الحجم الكبير للتغيير الذي طرأ عليه يتركه غير مُتزن عاطفيا. وعند المرحلة الرابعة، يبدأ أخيرا من يُمر بالأزمة في الشعور بشيء من الاستقرار في النمط الجديد، وبالرضا حيال الاتجاه الذي أخذت تسير فيه حياته أكثر بكثير من أي وقت مضى.[8,9]

 

تبقى أزمة ربيع العمر ككل ما يمر بنا من هزّات ومشاكل، تسبب لنا اضطرابا شديدا يزلزل حياتنا التي نعرف ويهدد بتدميرها تماما؛ لكن من تحت الأنقاض، ينبعث وعد بحياة أخرى جديدة تحمل لنا في طياتها وعدا آخر بغد أفضل، وفقط بالأمل والإيمان، نستطيع أن نشيدها ونحول الوعود إلى حقائق. إنه وقت حقا ليس بالسهل، لكن عليك أن تتذكر دائما ما تقوله الحكمة الفارسية القديمة: "هذا أيضا سوف يمر".[8]

    

undefined