شعار قسم ميدان

"تخيل".. كيف تطور الخيال لدى الإنسان؟

ميدان - تخيل خيال يفكر فكر

لنفترض أنك حصلت على وظيفة جديدة في مدينة مختلفة، وتحتاج إلى معرفة ما إذا كنت ستقبل بها أم لا. كيف ستقرر ذلك؟ على الأرجح أنك ستفكر في ما يعنيه لك عرض الوظيفة وما ستبدو عليه المدينة الجديدة التي ستعمل وتقطن بها؟ كم ستشعرك الوظيفة الجديدة بالإنجاز؟ ماذا عن الراتب والفوائد الأخرى؟ كيف يقارن كل هذا مع المكان الذي تعيش فيه وتعمل به الآن؟ إنها ليست مهمة بسيطة بلا شك، ولكنك ستتمكن في النهاية من اتخاذ قرار.

  

يشكّل هذا النوع من المواقف لغزا مدهشا في حياة البشر؛ ليس فقط بسبب الآفاق المباشرة للتقدم الوظيفي والتمتع بالانتقال. ما يجعل الأمر مثيرا لعلماء الإدراك المعرفي هو أنه من خلال اتخاذ هذا القرار، فإنك تمثل ذهنيا العوامل المختلفة التي تندرج في تلك العملية (كيف يبدو الأمر عند قبول الوظيفة، ما وضعك الحالي وما إلى ذلك) ثم التصرف على أساس هذه التصوّرات الذهنية.

 

تتميز التصورات الذهنية من هذا النوع بأمرين يجعلانها مواضيع دراسة تثير الاهتمام:

أولا، إنها مثل النماذج الداخلية؛ مما يعني أنها تلعب دور الوسيط بين العالم وردود أفعالك تجاهه حيث تستخدم هذه التصورات -بدلا من الواقع نفسه- لتقرر ما تريد فعله. لا يشبه عرض العمل دفعة قوية تحركك بعيدا عن طريق دراجة قادمة نحوك لتجنب اصطدامها بك. بقدر ما يحركك عرض العمل، فإنه يفعل ذلك من خلال الطريقة التي يتم تمثيلها وتصوّرها في ذهنك.

 

أما الأمر الثاني الذي يميز هذه التصورات الذهنية فهو امتلاكها السمات التقليدية للمفاهيم والمدلولات. يمكن تصوّر عرض العمل نفسه بطرق مختلفة للغاية؛ ويمكن أن تكون مخطئا بالطرق التي تتصور بها الحياة في مدينة جديدة: ربما يكون لدى الحياة في بلدة ميدينهيد البريطانية أكثر ما تعتقد لكي تقدمه لك. يختلف هذا الأمر عن معظم الأشياء الأخرى في العالم؛ على سبيل المثال، لا يدور التفاعل الكيميائي بين صودا الخبز وحامض الستريك والماء حول أي شيء ولا يمكن أن يكون خطأ حول أي شيء، فهو مجرد تفاعل لا أكثر ولا أقل.

    undefined

   

لهذه الأسباب وما يتعلق بها، تثير التصورات الذهنية مسألة كيف يمكن لشيء من هذا القبيل أن يكون قد تطوّر. يبدو أن العالم البيولوجي يشبه إلى حد كبير التفاعل الكيميائي: فهو مليء بالدفع والجذب الذي لا أساس له. قد يتساءل المرء بالنظر إلى ذلك ما إذا كان هناك مجال -حتى- في العالم البيولوجي لمثل أمر كالتصوّر الذهني؟

 

لقد ناقش الفلاسفة هذه المسألة كثيرا خلال العقود القليلة الماضية، وبينما لا يزال هناك جدل حول التفاصيل، فإنه قد بات واضحا أن هناك مجالا في العالم البيولوجي للتصوّر الذهني بلا شك؛ من الممكن "تطبيع" المحتوى الذهني. ومع ذلك، لا يعني ذلك أن جميع القضايا في هذا السياق قد تمت تسويتها؛ وحتى إن ثبت أن تطور التصوّرات الذهنية ممكن بشكل عام، فإن هذا لا يجيب حتى الآن عن سبب استخدام الكائنات الحية للتصوّرات الذهنية في صنع القرار. ما الذي تكسبه الكائنات الحية بالاعتماد على المحتوى الذهني؟ في نهاية المطاف، يمكنهم أيضا الاعتماد على نظام "الدفع" (كما هو الحال في الحالة المذكورة أعلاه للدراجة) لجعلهم يفعلون الصواب. في لغة العلوم المعرفية: يمكن للكائنات الحية أيضا الاعتماد على ردود الفعل أو العادات أو السلوكيات المشروطة وكثيرا ما تفعل ذلك. وفي ضوء ذلك، لماذا قد تقوم الكائنات الحية بتوجيه عملية صنع القرار من خلال وسيط التصوّر الذهني؟ لقد حظي هذا السؤال باهتمام أقل في الأدبيات.

   

يقترح كاتب المقال أرمين شولز، وهو أستاذ مساعد في الفلسفة في جامعة كنساس، أن مفتاح الإجابة عن ذلك هو أن التمثيلات العقلية تسمح للكائن بالتفكير حول ما الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله. في كثير من الأحيان، يتحتّم على الكائنات الحية -التي تعتمد على نظام من ردود الفعل لإدارة تفاعلاتها مع العالم- للتعامل مع الكثير من التكرار. تتطلب العديد من التصورات حول العالم نفس الاستجابة السلوكية، والعديد من الاستجابات السلوكية تجاه العالم هي اختلافات في موضوع ما. لذا إذا كان من المهم ألا تصدمك دراجات هوائية قادمة نحوك، فستكون هناك العديد من المشاهد المختلفة (الدراجات الحمراء والدراجات الزرقاء وما إلى ذلك) والأصوات (الأجراس والصراخ وغيرها) والروائح (المطاط والمعدن وغيره) وغيرها من الأمور المرتبطة بالتحرك جانبا بعيدا عن مسلك الدراجة. وبالمثل، هناك فرصة جيدة أن تحتاج الكائنات الحية التي تحتاج إلى تجنب الدراجات الهوائية إلى تجنب الدراجات البخارية. يتطلّب هذا الأمر بدوره من الكائنات الحية المعتمدة على ردود الفعل التعامل مع عدد ضخم من التصرفات السلوكية التي تحتوي على العديد من الأنماط.

  undefined

 

وعلى النقيض من ذلك، فإن الاعتماد على التصورات الذهنية يسمح للكائن بالاستجابة مباشرة لهذه الأنماط؛ أي إلى ما هو شائع بين هذه المشاهد والأصوات والروائح المختلفة، ويحسب أفضل استجابة للوضع الذي يعيش فيه. يمكن للكائن الحي أن يفكر فقط: هناك كائن كبير في الأمام يتحرك بسرعة نسبية، وأفضل شيء يجب فعله عند مواجهة أشياء كبيرة سريعة الحركة هو الابتعاد عن طريقهم. وبهذه الطريقة، لا يحتاج الكائن الحي إلى تخزين عدد كبير من التصرفات السلوكية (‘دراجة حمراء تتجه نحوك إذًا تحرّك جانبا’ أو ‘دراجة نارية زرقاء تتجه نحوك إذًا تحرّك جانبا’ وما إلى ذلك)، ولكن يمكن للكائن الحي فقط التفكير في الرد الصحيح منطقيا. يعني ذلك بدوره ضمنا أن الكائن الحي يمكن أن يبسّط آلية صنع القرار لديه.

 

هذا أمر مهم، لأن هذا النوع من التبسيط يمكن أن يكون مفيدا بيولوجيا. من جهة، من المرجح أن يرتبط التبسيط مع الكفاءة العصبية؛ يميل النظام الإدراكي الأكثر انسيابية إلى أن يدعمه نظام عصبي أكثر انسيابية. هناك دليل واحد مؤيد لهذا والذي ينبع من حقيقة أنه خلال فترات النضج المعرفي -على سبيل المثال في مرحلة الطفولة المبكرة أو البلوغ- يتم تشكيل شبكتنا العصبية: كلما أصبحنا أكثر تعقيدا معرفيا وإدراكيا، يتم إبطال نقاط التشابك العصبي غير الضرورية. وهو أمر جيد لأنه يصعب الحفاظ على الأنظمة العصبية. من ناحية أخرى، يتيح هذا النوع من التبسيط إجراء تعديلات أسرع على البيئات المتغيرة. مع تغير عالمنا يصبح من السهل جدا تغيير سلوكنا؛ مثلا قد يعني الانتشار المتزايد للذكاء الاصطناعي أنه في وقت قريب لن نحتاج إلى الابتعاد عن طريق الدراجات الهوائية القادمة نحونا، حيث إنها سوف تتحرك من حولنا لوحدها. لن نضطر إلى تغيير عدد كبير من ردود الفعل، ولكننا نحتاج فقط إلى تغيير طريقة تفاعلنا مع نمط معين في تصوراتنا.

 

وبهذه الطريقة، يمكن أن يؤدي الاعتماد على التصوّرات الذهنية إلى جعل صنع القرار أكثر فعالية وليس العكس. وهذا هو المفتاح لحل لغز لماذا تطورت التصورات العقلية، أو يمكن القول إن هذا ما يقترحه أرمين شولز.

_____________________________________________

ترجمة: آلاء أبو رميلة

هذا التقرير مترجم عن: aeon ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة