شعار قسم ميدان

الأسباب التالية تدفعك للتخلي عن هاتفك

midan - هاتف
 
مقدمة الترجمة

تخرج من غرفتك للجلوس مع العائلة، يمسك كل فرد هاتفه، قليل من الحوارات الجانبية، ثم تعود الرؤوس مُطرِقة لهواتفها، لتبدو الهواتف جزءا من نسيجنا الاجتماعي الذي يعد التخلي عنه ضربا من الجنون. في هذا التقرير يثبت فيليب ريد، الأستاذ المشارك في الفلسفة بكلية كانيسيوس في بوفالو نيويورك، النقيض من ذلك، ويكشف الأسباب الحقيقة التي قد تدفعنا إلى الابتعاد بشكل كامل عن استخدام الهواتف المحمولة لتحقيق أقصى قدر من الراحة والسعادة.

نص التقرير

"السبب الوحيد في عدم سعادة الإنسان هو أنه لا يعرف كم يمكنه أن يبقى هادئا في غرفته" 

(الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال)

 

عندما يتمسك شخص ما بهاتفه القابل للطي ويرفض استبداله بهاتف ذكي، فإن أقل ما يُقال إن ذلك شيء رجعي أو ربما غريب قليلا، في حين يُنظر إلى رفض استخدام كلا الهاتفين بأنه جنون محض، خصوصا إذا كان الشخص الذي يرفض ذلك قد وُلد بعد منتصف سبعينيات القرن الماضي. لكني لم أمتلك هاتفا قط ولا أنوي الحصول على واحد. ولدي عدة أسباب، وهذه الأسباب هي أسباب وجيهة. 

في البداية، التكلفة، وهي السبب الأول الذي يدفع إلى التخلي عن استخدام الهاتف المحمول، فعدم وجود هاتف يعني عدم وجود فاتورة شهرية، وأنه لن تكون هناك حاجة لتطويره وشراء هاتف أحدث، كما لن تكون هناك ضرائب، ولا رسوم تجوال، أيا كان نوع الهاتف. ومن اللافت في مسألة التكلفة، أن الناس حاليا يُنفقون 75 دولارا أميركيا أو أكثر كل شهر دون تفكير على شيء كنا بالكاد نعرف أنه موجود منذ 15 عاما، وكان أقل من أن نعتبره شيئا ضروريا، وذلك في فترة من فترات ركود الأجور وزيادة تفاوت الدخل بين أفراد المجتمع. 

والسبب الثاني هو القلق بشأن البيئة، فالطاقة التي يستهلكها مصنعو الهواتف المحمولة، بما في ذلك الحصول على المواد الخام، والطاقة المستخدمة في نقل المكالمات الهاتفية والوصول إلى الإنترنت جميعها تنتج قدرا كبيرا من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. فضلا عن فكرة أن الهواتف المحمولة جيدة فحسب لمدة عامين منتشرة للغاية الآن بين الناس، الأمر الذي يزيد عدد الهواتف التي ينتهي بها المطاف في مكبات النفايات وتؤدي إلى تسرب المعادن الثقيلة السامة مثل النحاس والرصاص إلى التربة والمياه الجوفية.

الهواتف المحمولة تضع مستخدميها بشكل مستمر على اتصال مع الجميع، وتجعلهم كذلك متاحين بشكل دائم (بيكساباي)
الهواتف المحمولة تضع مستخدميها بشكل مستمر على اتصال مع الجميع، وتجعلهم كذلك متاحين بشكل دائم (بيكساباي)


لكن السبب الحاسم في مسألة رفض استخدام هاتف، بالنسبة لي، هو مخالفة سبب الجميع في اقتنائه: فأنا لا أرغب في أن أكون قادرا على التواصل من أي مكان مع أي شخص غير موجود في هذا المكان، فالهواتف المحمولة تضع مستخدميها بشكل مستمر على اتصال مع الجميع، وتجعلهم كذلك متاحين بشكل دائم، وبقدر ما يكون اقتناء هاتف محمول مريحا ويحرر مستخدميه من القيود، فهو يمثل عبئا كبيرا أيضا. ويأتي هذا العبء من الشعور بالالتزام نحو الأفراد والأحداث الموجودة ماديا في أماكن أخرى، فأي شخص يتفقد هاتفه خلال محادثة وجها لوجه يفهم هذا الإغراء، وأي شخص كان يتحدث إلى شخص يتفقد هاتفه في أثناء المحادثة يفهم ما الخطأ في ذلك.

ويباعد التواصل مع شخص غير موجود ماديا بين المرء والأشخاص المحيطين به وينفر منهم، إذ يجبر العقل على الانسلاخ عن الجسد. ونرى ذلك، على سبيل المثال، في الأخطار المعروفة والمنتشرة في كل مكان للمراسلة في أثناء القيادة، لكن أيضا في أكثر الممارسات بساطة: إذ يتجاهل الأصدقاء أو العشّاق وجود بعضهم البعض لصالح تصفح الفيسبوك؛ ويدفع الناس إلى مشاركة أوقات تسليتهم، وطعامهم، وأفكارهم العابرة مع أي شخص ليشاهدها، ويجعل الآباء يشاهدون حفلا لابنتهم على الهواتف بدلا من مشاهدته مباشرة، ويجعل الناس يسيرون في الشوارع يتحدثون إلى أنفسهم بحماس، ويتضح فيما بعد أنهم أصحاء لكن يستخدمون سماعات البلوتوث.

تتطفل الهواتف المحمولة على المجالات العامة والخاصة، ما يمنع الانخراط الكلي مع ما يدور من حولنا، ولا تتقن الهواتف الذكية سوى قدرة أسلافها على التطفل. وفيما يتعلق بعلاقتنا بأنفسنا وبالآخرين، فالنتائج المترتبة على الآثار الانعزالية والتطفلية للهواتف المحمولة كبيرة، إذ إن معرفة وفهم الآخرين جيدا تحتاج إلى صبر، ومخاطرة، وتعاطف، ومودة، وكل ذلك تحجبه الهواتف المحمولة، فضلا عن أنها تحجب الانفراد بالنفس، والتأمل الذاتي، والتفكر، الأمر الذي أعتقد أنه أساسي لحياة جيدة.

الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال (مواقع التواصل)
الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال (مواقع التواصل)


ولقد كان البشر قبل وقت طويل من اختراع الهواتف المحمولة، جيدين في صرف أنفسهم عن الاهتمام الالتزامي. وقد لاحظ الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال في القرن السابع عشر أن "السبب الوحيد في عدم سعادة الإنسان هو أنه لا يعرف كم يمكنه أن يبقى هادئا في غرفته". وقد تأكدت النزعة إلى هذا الانصراف بنحو ملاحظ في دراسة حديثة؛ إذ يفضل الناس منح أنفسهم صدمات كهربائية على الانشغال بأفكارهم الخاصة لمدة 15 دقيقة.

وكان باسكال يعتقد أن قمة الكرامة البشرية هي التفكير، وأن ترتيب الأفكار يبدأ مع المرء ذاته، ومع خالقه، ومع نهايته، وقد ربط هذا النوع من التفكير بشكل معقّد بالراحة الحقيقية والسعادة. والابتعاد عن استخدام الهواتف المحمولة، بالنسبة لي، يسمح بوجود مساحة للتفكير، وهكذا يمكن للمرء عيش حياة أكثر ثراء، وبنحو أكثر إنجازا. ومع وجود عدد قليل من المهام للقيام بها وتطلعات أقل لإرضائها، تتباطأ الحياة إلى وتيرة تتناسب مع التأمل والشكر.

"بوجود اليدين فإن الإنسان هو أكثر الحيوانات ذكاء"
(الفيلسوف اليوناني أناكساغوراس)

ولا تساعد الحياة الخالية من الهواتف المحمولة في تحرير العقل فحسب، بل أيضا تحرير الجسد. ويقدم الفيلسوف الإغريقي القديم أناكساغوراس وجهة نظر مختلفة للطبيعة البشرية عن باسكال إذ يقول: "بوجود اليدين فإن الإنسان هو أكثر الحيوانات ذكاء". وقد نكون على يقين من أن أناكساغوراس لم يكن يتوقع ظهور الهواتف المحمولة. وفي المقابل، يُمكِّن رفض المرء استخدام الهاتف المحمول من استخدام يديه في القيام بنشاطات مفيدة؛ مثل العزف على البيانو، أو القيام بأعمال البستنة، أو قراءة كتاب، بطريقة تجعل المرء منشغلا بالكامل في هذه النشاطات، بحيث يصل المرء إلى ذروة الاستفادة منها.

وبدون هاتف محمول، يكون من السهل التركيز على الشيء الذي يكون أمامي: زوجتي وأطفالي، أو عملي، أو إعداد وجبة العشاء، أو حتى الخروج إلى التنزه. وأحاول انتقاء نشاطاتي بشكل مدروس، لذلك عندما أقوم بشيء، لا أريد أن أكون في مكان آخر، وما يسميه مستخدمو الهواتف المحمولة تعددا للمهام لا ألقي له بالا، حتى أنه لا يثير إعجابي.

undefined

وبالطبع، من الصحيح أن الهواتف المحمولة يمكن استخدامها بنحو مسؤول، إذ بإمكاننا إغلاقها أو ببساطة تجاهل الرسائل القادمة، بيد أن ذلك يحتاج قوة إرادة غير عادية. فوفقا لاستطلاع حديث لمركز "بيو" (Pew) للأبحاث، يعتقد 82% من الأميركيين أن استخدام الهواتف المحمولة في المواقف الاجتماعية يضر في كثير من الأحيان بالمحادثة بدلا من تحسينها، ومع ذلك لا يزال 89 في المائة من مالكي الهواتف يستخدمونها في هذه المواقف. لذلك فإن رفض استخدام الهاتف المحمول يضمن أنني لن أستخدمه عندما لا ينبغي ذلك.

لكن، لن يتفق الجميع على ذلك، وسيصر البعض على أنه في حالة ما إذا كنت سأرفض استخدام هاتف محمول، فإنه علي رفض استخدام الهاتف العادي أيضا. وصحيح أن استخدام خط أرضي يقدم عزلة وتجارب مماثلة بنحو غير مباشر للهواتف المحمولة، لكن لطالما كانت هناك دائما حدود طبيعية ومادية وضعت على استخدام الهاتف العادي، وهذه الحدود واضحة من اسمه "خط أرضي". وتقدم قابلية الهواتف المحمولة للحركة شكلا جذريا للتواصل عبر جعل آثاره في إبعاد الناس عن بعضهم البعض منتشرة في كل مكان. في حين أريد حماية ما تبقى لدي من التجارب الإنسانية التي لا تقبل الوساطة.

كما أن المعنى الأصلي لكلمة "تواصل" يشير إلى علاقة ملمومة، سواء علاقة ملزمة أو مترابطة، ونطبق هذه الكلمة على تواصلنا بالهواتف المحمولة الآن فقط كمجاز عن المعنى الحقيقي للكلمة، فـ"الاتصالات" هي اتصالات غير مادية؛ فكلماتنا وأفكارنا تصل إلى المناطق العليا من الفضاء إلى جوار برج الاتصالات فحسب لتبقى هناك، عندما تنفصل أجهزتنا عن هؤلاء الذين يتشاركون الفضاء معنا. ومع ذلك، لدينا يدان للتواصل المادي، وأنا مقتنع بأنك غير قادر على الإمساك بهاتف محمول في يد في حين تمسك يد شخص آخر في نفس الوقت. 
=================================

 

مترجم عن "أيون"